المثنَّى والواحد وقانون العلِّيَّة:
يتَّخذ المثنَّى من قانون العلِّيَّة سبيلًا لتدبير العالم. وطبقًا للقاعدة التي قرَّرتها الحكمة الإسلاميَّة، فإنَّ “كلَّ معلول هو مركَّب في طبعه من جهتين: جهة بها يشابه الفاعل ويحاكيه، وجهة بها يباينه وينافيه. فهو مطلق ونسبيٌّ في آن. وقاعدة الكلام عن معلوليَّة المثنَّى رغم فرادته وخصوصيَّة تركيبه، هي قاعدة تنطبق على كلِّ فرد في عالم الكثرة. ودليل أصحاب هذه القاعدة هو التالي: إذا كان الموجود يشبه فاعله من جميع الجهات، يلزم إلَّا يكون هناك أيُّ اختلاف بين العلَّة والمعلول، وحينذاك لا معنى لمسألة الصدور. ولو خالف الموجود فاعله من جميع الجهات، يلزم أن تتناقض العلَّة مع المعلول، في حين لا يقع نقيض الشيء معلولًا له، لوجود تمانع بين الموجودين المتناقضين[1].
وإذن، فالموجود المعلول- بحسب هؤلاء- ذو جهتين دائمًا: جهة متعلِّقة بالفاعل وتشير إليه، وجهة متعلِّقة به. وعليه فهو يُعدُّ “وجودًا” من حيث جهة الفاعل، ويُعدُّ “ماهيَّة” من حيث جهته، وفي حين تسمَّى جهة وجود الموجود بالجهة النورانيَّة، تسمَّى جهة الماهيَّة بالظلمانيَّة[2]. وهكذا، فإنَّ نسبة المعلول إلى فاعله كنسبة الظلِّ إلى الضياء. فالظلُّ من حيث هو مضيء يكشف عن الضياء، ومن حيث هو مزيج بنوع من الظلمة، متناقض مع الضياء ويحكي عن الظلام. فمثلما لا يمكن أن ننسب الجهة الظلمانيَّة للظلِّ إلى وجود الضوء، كذلك لا يمكن أن تُنسب جهة الماهيَّة إلى الفاعل. وعليه، يمكن القول بأنَّ الجعل والإيجاد لا يتعلَّقان بالماهيَّة قطّ، وإنَّما يتعلَّقان بالوجود فقط. أي لا بدَّ من أن يعدَّ الجعل والإيجاد والإفاضة والإشراق، خصوصيَّة خاصَّة بالوجود.
ودور الماهيَّة على صعيد الموجودات البسيطة والمجرَّدة كدور المادَّة على صعيد الموجودات الماديَّة والمركَّبة. وكما أنَّ مقتضى الكثرة في الموجودات المادّيَّة والمركَّبة هو وجود المادَّة الأولى أو الهيولي، كذلك مقتضى الكثرة في الموجودات البسيطة والمجرَّدة هو الماهيَّة. ولذا يمكن القول أنَّ الكثرة في عالم البسائط والمجرَّدات، ناشئة من الماهيَّات فقط. الشيخ الرئيس ابن سينا يأخذ بهذه الفكرة أيضًا ويعتبر الماهيَّات مصدر كلِّ تركيب وتعدُّد في عالم البسائط. وفي كتاب “الإلهيَّات” بحث القاعدة المعروفة “كلُّ ممكن زوج تركيبي”. حيث تكشف هذه القاعدة جيدًا عن ضرورة البحث عن أيِّ تركيب وتعدُّد، في الماهيَّات. ولذلك تُعدُّ الماهيَّات مثار الكثرة ومنشأها[3].
النتيجة أنَّه بالإمكان القول أنَّ أثر الفاعل ليس سوى مثال الفاعل، ولهذا السبب يكشف الفعل عن الفاعل دائمًا. أي أنَّه يمكن معرفة الفاعل عن طريق الفعل. وقد تناول صدر الدين الشيرازي هذه المسألة في كتاب “الأسفار” وصاغها على الوجه التالي: “إنَّ كلَّ منفعل عن فاعل، فإنما ينفعل بتوسَّط مثال واقع من الفاعل فيه. وكلُّ فاعل يفعل المنفعل بتوسُّط مثال يقع منه فيه. وذلك بيِّنٌ بالاستقراء. فإنَّ الحرارة الناريَّة تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثالها وهو السخونة. وكذلك سائر القوى من الكيفيَّات. والنفس الناطقة إنَّما تفعل في نفس أخرى مثلها”.[4] كذلك تفعل العلَّة الأولى في حكمة المثنَّى. فهي مع كونها فاعلة لمعلولات لا متناهية، إلَّا أنَّها ليست وحدة عدديَّة كوحدة المحسوسات، فهي تنتمي إلى وحدة المعقولات مع كونها متَّصلة بعالم الممكنات وناظمة لحياتها الجوهريَّة. ومن البيِّن في الحكمة الإسلاميَّة أنَّ الوحدة في الأمور المعقولة ليست كالوحدة في الأمور المحسوسة، لأنَّ الوحدة في الأمور المحسوسة، هي من نوع الوحدة العدديَّة، في حين لا تعدُّ الوحدة في الأمور المعقولة من نوع الوحدة العدديَّة. والمثنَّى الذي كان إيجاده بالأمر والإرادة والكلمة هو واحد، إلَّا أنه لا يتكرَّر، فهو مطلق ونسبيٌّ في الآن عينه.
تجلّيات المثنَّى في المعرفة العرفانيَّة:
ماهيَّة المثنَّى كما تُستقرأ في الإلهيَّات والعرفان النظريِّ، تستوي على نصاب معرفيٍّ مفارق لما اشتغل عليه الإغريق، فضلًا عن المتأخّرين من بعدهم. فقد اتَّخذ الكلام على الموجود الأول في الميتافيزيقا العرفانيَّة مسالك شتَّى؛ إلَّا أنَّ جامعًا مشتركًا حول ماهيَّته ظلّ ينتظم دائرة واسعة من تلك المسالك. وفي المجمل كان يُنظر إلى هذا الموجود على أنَّه مطلقٌ من حيث كونه أول موجود في مشيئة الإيجاد الإلهيِّ، ونسبيٌّ من حيث كونه محتاجًا لموجِدِه ومركَّبًا على الزوجيَّة والكثرة.
في العرفان النظريِّ يتوسَّع أفق التنظير والاستشعار، حتى لنجدُنا تلقاء مساعٍ فريدة ومفارقة بغية الخروج من العثرات التي تحول دون الأجوبة الآمنة. ولأجل الوقوف على أهمِّ هذه المساعي نلقي الضوء بداية على قاعدتين تؤلّفان أبرز التنظيرات التي عَنِيَت بنظام معرفة الموجود البَدْئيّ، وقد ذكرهما ابن عربي في ردِّه على أسئلة الحكيم الترمذيِّ، وهما: علم «كان» و«علم البدء»[5].
– القاعدة الأولى- علم “كان”: ولهذه القاعدة صلة نَسَبٍ وطيدة بحكمة المثنَّى. فالمقصود من هذا العلم هو تنزيه الله تعالى عن كلِّ ما سواه من أشياء الكون. وتأسيسًا على قوله تعالى: (لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ)[6]. يقرّر علم “كان” أنَّه سبحانه لا تصحبُه الشّيئيَّة، ولا تنطلق عليه.. فقد سَلَب الشيئيَّة عنه، وسَلَب مَعيّة الشيئيَّة. إنه مع الأشياء، وليست الأشياء معه. لأنَّ المَعيَّة تابعة للعلم: إنَّه يعلمُنا فهو معنا، ونحن لا نعلمُه فلسنا معه.. وأمَّا لفظة (كان) فليس المراد منها التّقييد الزمانيَّ، وإنما المراد بها الكون الذي هو (الوجود). فتحقيق “كان” أنَّه حرف وجوديٌّ، لا فعل يطلُب الزمان. ولهذا لم يَرد ما يقوله علماء الرُّسوم، من المتكلّمين، وهو قولهم “وهو الآن على ما عليه كان”، فهذه زيادة مُدرجة في الحديث ممَّن لا علم له بعلم (كان)، ولا سيَّما في هذا الموضع كما يبيِّن ابن عربي..
ويضيف: ولئن تصرَّفت “كان” تصرُّف الأفعال، فليس من أشْبَه شيئًا من وجه ما يُشبهه من جميع الوجوه، بخلاف الزيادة، بقولهم “وهو الآن”، فإنَّ “الآن” تدلُّ على الزمان. وأصل وضعه أنها لفظة تدلُّ على الزمان الفاصل بين الزمانين (الماضي والمستقبل).. فلمَّا كان مدلولها “الزمان الوجودي”، لم يُطلقه الشارع في وجود الحقِّ، وأطلق (كان) لأنَّه “حرف وجوديّ”، وتخيَّل فيه الزمان لوجود التصرُّف: من كان ويكون فهو كائن ومُكوَّن.. فلما رأوا في “الكون” هذا التصرُّف، الذي يلحق الأفعال الزمانيَّة. تخيّلوا أنَّ حكمها حكم الزمان، فأدرجوا “الآن” تتمَّة للخبر وليس منه[7].. وعليه كان تقرير الشيخ ابن عربي حول علم “كان” أنَّ الله موجود، ولا شيء معه. أي ما ثمَّ من وجوده واجب لذاته غير الحق. والممكن واجب الوجود به لأنَّه مظهره، وهو ظاهر به. والعَيْن الممكنة مستورة بهذا الظاهر فيها.. فانْدَرج الممكن في واجب الوجود لذاته “عَيْنًا”، واندرج الواجب الوجود لذاته في الممكن “حُكمًا”..[8]…
– القاعدة الثانية: علم البَدء: لا ينأى هذا العلم عن علم “كان” في منظومة ابن عربي، بل هو الحلقة التالية في علم التوحيد. فإذا كان علم “كان” هو علم الإقرار بالذات الأحديَّة وتنزيهها عن الفقر والإمكان، فإنَّ علم البَدء هو علم الإقرار بحاصل الكلمة الإلهيَّة “كن”. أي بالموجود البَدْئي كأول تجلٍّ إلهيٍّ في دنيا الخلق. على هذا الأساس يعرِّفه ابن عربي بأنَّه علم الفصل بين الوجودين، القديم والمُحدث. وهو علم عزيز وغير مقيَّد. كما يصرِّح الشيخ الأكبر ويضيف: إنَّ أقرب ما تكون العبارة عنه، أن يُقال: البَدْء افتتاح وجود الممكنات على التّتالي والتّتابُع، لكون الذات الموجدة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان. فالزمان من جملة الممكنات الجسمانيَّة، وهو لا يُعقل إلَّا إرتباط ممكن بواجب لذاته. فكان في مقابلة وجود الحقِّ، أعيان ثابتة، موصوفة بالعدم أزلًا، وهو الكون، الذي لا شيء مع الله فيه، إلَّا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان، على حسب ما اقتضته استعداداتها، فتكوَّنت لأعيانها، لا لهُ، من غير بينيَّة تُعقَل أو تتوهَّم. فوقعت في تصوُّرها “الحَيْرة” من طريقين: طريق “الكشف”، وطريق “الدليل الفكريّ”. والنُّطق عما يقتضيه الكشف، بإيضاح معناه، يتعذَّر: فإنَّ الأمر غير مُتخيَّل، فلا يُقال، ولا يدخُل في قوالب الألفاظ. وسبب عزَّة ذلك، كما يبيّن الشيخ الأكبر، يعود إلى الجهل بالسبب الأول وهو “ذات الحق”.
ولما كانت سببًا، كانت إلهًا لمألوه لها، حيث لا يعلم المألوه أنه مألوه. بعضهم قال: “إن البدء كان عن نسبة القهر”، وقال غيرهم. “بل كان عن نسبة القدرة”.. والذي وصل إليه علمُنا من ذلك – وَوَافَقنا الأنبياء عليه – كما يضيف ابن عربي- أنّ “البدء عن نسبة أمْر، فيه رائحة جَبْر”. إذ الخطاب لا يَقَع إلَّا على عَيْن ثابتة، معدومة، عاقلة سميعة، عالمة بما تسمع: بسَمْع ما هو سمع وجود، لا عقل وجود، ولا علم وجود. فالْتَبست، عند هذا الخطاب بوجوده. فكانت “مَظْهرًا له” من إسمه (الأول-الظاهر). وانسحبت هذه الحقيقة، على هذه الطريقة، على كلِّ عَيْن إلى ما لا يتناهى.. فإن مُعطي الوجود لا يُقيّده ترتيب الممكنات، إذ النسبة منه واحدة. فالبَدْء ما زال، ولا يزال. وكل شيء من الممكنات له عين الأوليّة في البدء. ثُمّ إذا نُسبت الممكنات، بعضها إلى بعض، تعيّن التقدُّم والتأخُّر، لا بالنسبة إليه سبحانه.. فوقف “علماء النَّظر” مع ترتيب الممكنات، حيث وَقَفنا نحن مع نسبتها إليه تعالى[9]..
ثمَّ ينتقل ابن عربي إلى طور متقدِّم في تعريف هذا الموجود فيقول: “إنَّ أوليَّة الحقِّ هي أوليَّة (العالم)، إذ لا أوليّة للحق بغير العالم، ولا يَصحّ نسبتها ولا نَعْته بها، وهكذا جميع النّسب الأسمائيَّة كلِّها.. فعَيْن الممكن لم تَزل، ولا تزال، على حالها من الإمكان.. والأمور لا تتغيَّر عن حقائقها، باختلاف الحكم عليها، لاختلاف النّسب. ألا ترى إلى قوله تعالى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـًٔا)[10]، وقوله تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[11]، فنَفى الشّيئيَّة عنه وأثْبَتها له، والعين هي العين، لا غيرها…[12]
سيكون لهاتين القاعدتين حضورٌ بيِّنٌ في مقتربات العرفان النظريِّ للمخلوق الأول. وعليه سوف نحاول في ما يلي استظهار طائفة من المقتربات الواردة في أعمال عدد من العرفاء، وهي تدور على الإجمال مدار التعريف بطبيعة الموجود الأول، وخصوصيَّته وكيفيَّة صدوره، والمهمَّة الإلهيَّة التي أوكلت اليه. ويمكن القول أنَّ هذه المقاربات وإن تباينت في سرديَّاتها حول ماهيَّة وهويَّة هذا المخلوق، فإنَّها تتقاطع على الجملة حول منزلته الفريدة ومكانته المفارقة في عالم الوجود.
سنورد في ما يلي أبرز ما أطلق عليه من نعوت وأوصاف في هذا الخصوص:
الأوَّل: الموجود المنفرد بذاته:
يستهل العرفاء سَفَرهم لمعرفة المخلوق الأول من خلال السعي لإثباته بالدليل العقليّ. ومؤدَّى قولهم في هذا المسعى أنَّ مقتضى القوانين العقليَّة تثبت وجود موجود في الخارج قائمٍ بنفسه غيرِ ذي وضع، ومشتملٍ بالفعل على جميع المعقولات، التي يمكن أن تخرج إلى الفعل، بحيث يستحيل عليه وعليها التغيُّر والاستحالة والتجديد والزوال، ويكون هو وهي بهذه الصِّفات أزلًا وأبدًا[13]. من الحكماء من ذهب إلى تسميته حينًا بالعقل الكلِّيّ، وحينًا آخر بـ “الَّلوح المحفوظ”. ويقول المحقِّق والفيلسوف صائن الدين ابن تركة عن هذا الموجود أنَّه يعادل “نفس الأمر” الذي هو عبارة عن حقائق الأشياء بحسب ذواتها، وبقطع النظر عن الأمور الخارجة عنها. ويضيف: “أن نفس الأمر هو أيضًا كناية عمّا ثُبتت فيه الصور والمعاني الحقَّة، وهو العالَم الأعلى الذي هو عالم المجرَّدات، كما يُطلق عالم الأمر على هذا العالم؛ ذلك لأنَّ كلَّ ما هو حقٌّ وصدق من المعاني والصور، لا بُدَّ وأن يكون له مطابَق في ذلك. فالعالم الأعلى هو الحيُّ التامُّ الذي فيه جميع الأشياء، وأنَّ فعل الحقِّ هو العقل الأوّل؛ فلذلك صار له من القوَّة ما ليس لغيره، وأنَّه ليس هناك جوهر من الجواهر التي بعد العقل الأوَّل إلّا وهو من فعل العقل الأوّل؛ وعليه فإنَّ الأشياء كلّها هي العقل، والعقلَ هي الأشياء، وإنَّما صار العقل جميعَ الأشياء، لأنَّ فيه جميعَ كلّيَّات الأشياء وصفاتِها وصورِها، وجميعُ الأشياء -التي كانت وتكون- مطابِقةٌ لما في العقل الأوّل.
ثم يمضي ابن تركة إلى إنشاء علاقة وطيدة بين هذا الموجود ومنشأ المعرفة البشريَّة ليرى أنَّ معارفنا -التي في نفوسنا- مطابقة للأعيان التي في الوجود، ولو جوَّزنا غير ذلك -أعني أن يكون بين تلك الصُّور التي في نفوسنا وبين الصور التي في الوجود تباين أو اختلاف- ما عرفنا تلك الصور، ولا أدركنا حقائقها؛ لأنَّ حقيقة الشيء ما هو به هو، وإذا لم يكن، فلا محالة غيره، وغير الشيء نقيضه؛ فإذن جميع ما تدركه النفس وتتصوَّره من أعيان الموجودات، هو تلك الموجودات، إلّا أنَّه تنوَّع بنوع ونوع[14].
كلام ابن تركة حول ماهيَّة الموجود الأول يحيلنا إلى الفضاء الذي اشتغل عليه العرفاء. فالمقطوع به أن ما تداوله جلَّ هؤلاء عن هذا الموجود ليس هو نفسه الكون الذي عرَّفه الإغريق بادئ الأمر ثم أخذه عنهم كثرة من المتأخّرين من الفلاسفة وعلماء الكلام. فهو عندهم الكائن المنعتق من كلِّ علاقة بالزمان الفيزيائيّ.. إلَّا أنَّه مع ذلك هو الحاضن لكلِّ موجوديَّة، لكونه يؤلِّف صيغة الظهور الذي به تظهر الأشياء من دون أن تلزمه أن يمتلئ بها ليحقِّق هذا الظهور…
الثاني: عالم الإمكان وعالم الأمر:
يناظر المثنَّى بصفته موجودًا بدئيًّا عالم الإمكان أو عالم الأمر. بل هو عالم الوجود المطلق، وهو أنَّ الموجودات موجودة فيه على وجه الإطلاق، غير مقيَّدة بهيئة. أي أنَّ المخلوقات موجودة فيه ذكرًا لا عينًا. مادَّتها واحدة، لا يمكن تمييزها بعضها عن بعض، يعني أن زيدًا موجود في عالم الإمكان، لكنه موجود بالذكر، لا بالعين، يعني: مادة ليست متعيّنة، ولا متخصّصة.[15] ويُسمَّى أيضًا بعالم الأمر، وهو مأخوذٌ من قوله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[16].
ويقابل الوجود المطلق الوجود المقيّد، وفيه المخلوقات موجودة وجودًا مقيّدًا بصورة، وموجودة فيه ذكرًا وعينًا. ويكون تقييدها بالحدود الستة، وهي: الكم، والكيف، والجهة، والرتبة، والزمان، والمكان، ويُسمّى هذا بعالم التكوين، يعني زيد في هذا العالم موجود بالذكر والعين، مادَّته تعيَّنت وتخصَّصت بالحدود المذكورة. ويسمَّى أيضًا بعالم الخلق. ويمثل ذلك المحبرة: تحتوي حروفًا، لكنها موجودة ذكرًا لا عينًا. وبالكتابة تخرج من الإطلاق إلى التقييد فتكون: – s أو(ن) و(ع)، وحينئذٍ تُعتبر مقيّدة، فيحكم عليها بأنها s و(ن) و(ع)، فقد أصبحت موجودة ذكرًا وعينًا. فالمخلوقات لمَّا كانت في عالم الإمكان لم تكن متمايزة، ولما أُلقِيَ عليها التكليف، وقَبِلت حِصَصها، كلّ حسب قدره ظهرت وتميَّزت في عالم التكوين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– الديناني، غلام حسين الإبراهيمي- القواعد الفلسفيَّة العامَّة في الفلسفة الإسلاميَّة – الجزء الثاني- تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار الهادي- بيروت- 2007 – ص 355.
[2]– الديناني- المصدر نفسه- ص 356.
[3]– المصدر نفسه.
[4]– الشيرازي، صدر الدين- الأسفار العقليَّة الأربعة في الحكمة المتعالية – الجزء الأول- مصدر سابق- ص 419.
[5]– ابن عربي- أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكم الترمذي- إعداد وتحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبي – مكتبة الثقافة الدينيَّة – ط 1- القاهرة – 2006 – ص 41-42.
[6]– سورة الشورى، الآية 11.
[7]– أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكيم الترمذي- المصدر نفسه، ص 45.
[8]– المصدر نفسه، ص 50.
[9]– المصدر نفسه، ص 52.
[10]– سورة مريم، الآية 9.
[11]– سورة النحل، الآية 40.
[12]– ابن عربي – أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكيم الترمذي- المصدر نفسه- ص 44.
[13]– ابن تركه، صائن الدين – تمهيد القواعد – تقديم وتصحيح وتعليق: سيد جلال الدين آشتياني- مركز النشر الإسلامي في الحوزة العلميَّة – قم- إيران 1381 هـ – ص 182.
[14]– ابن تركة- المصدر نفسه- ص 183.
[15]– آل سلمان، العلامة هاشم – رسالة الملا حسن بن أمان- تحقيق: توفيق ناصر البدعلي – مؤسَّسة الإحقاقي للتحقيق والطباعة والنشر- بيروت 2011- ص 15.
[16]– سورة الأعراف، الآية 54.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (3)
في مفهوم ولطائف آية: (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)
في اليقين
فكرة المجتمع في نهج البلاغة
التّعاصر بين العلّة والمعلول
الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية
السّلامة الشّاملة بالعربيّة، جديد الكاتب مصطفى مهدي آل غزوي
إبراهيم عليه السلام من المذبح إلى الإمامة
فتح صفحة جديدة مع الله تعالى
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (2)