ربما يسهل على الربوبيين ادعاء أنّ دافعهم ومنطلقهم في تبني الفكر الربوبي مردّه - في الحد الأدنى - إلى عدم نهوض دليل مقنع على صحة ما يزعمه المتدينون حول أنّ الأنبياء (ع) هم رسل الله إلى الخلق. ولكنّ هذا الادعاء لا يمكننا الموافقة عليه، لأنه لا يمتلك رصيداً مقنعاً...
والذي يمكننا ترجيحه بعد التأمل، أنّ ثمّة دوافع أخرى عديدة ساعدت وتساعد على تبني هذا الفكر الرافض للرسالات والشرائع السماوية، ويمكن إرجاع هذه الدوافع إلى ما يلي:
أولاً: عجز أتباع الأديان والشرائع عن تقديم تصوّر موحد ومتماسك إزاء بعض القضايا المحورية والجوهريّة التي تواجه الإنسان، سواءً ما يتصل منها بقضايا المبدأ والمعاد أو ما يتصل بشؤون المعاش والحياة. وقد يتراءى للكثيرين وجود تخبط داخل الفكر الديني واختلاف كبير في الأساسيات، ربما وصل إلى حدِّ التناقض. ومن الطبيعي أن يشكّل ذلك سبباً أو دافعاً نحو الهروب والتسرب من الدين وتبني الفكرة الربوبية، أو غيرها من الأفكار اللادينية، والحال أنّ ثمّة تعامياً أو غفلة عن أنّ هذا الاختلاف بين الأديان مرده إلى أحد عاملين:
أ -إمّا إلى تطور في الشرائع نفسها والذي فرضه تغيّر حاجيات الإنسان، وهو الأمر الذي استدعى بروز ظاهرة النسخ بين الشرائع السماوية بل وحتى داخل الشريعة الواحدة.
ب -وإمّا إلى التحريف الذي تعرّضت له تلك الشرائع ورسالاتها السماويّة بفعل عبث العابثين وذوي الأغراض والمصالح الخاصة.
ومن الواضح أنّ هذين العاملين لا يشكلان ثغرة قوية في الفكر الديني ذاته، أمّا العامل الأول فهو يعد نقطة قوّة في هذا الفكر ومؤشراً على مراعاته لاختلاف الزمان والمكان. وأمّا العامل الثاني فلا يلام عليه الدين نفسه بل الملامة تتوجه إلى الإنسان ولا سيما المتدين الذي لم يبذل الجهد بما فيه الكفاية لمواجهة التحريف ووضع حدٍ للمتلاعبين بالدين والمتاجرين به.
ثانياً: ظاهرة التشدد الديني العابرة للأديان والمذاهب، والتي أفرزت جماعات متطرفة تمارس العنف والقتل والإجرام باسم الأديان، فهذه الظاهرة عكست صورة بشعة عن الدين وشوّهت رسالته، ودفعت الكثيرين - بالأخص ممن لا يسعهم التفكيك والتمييز بين نصوص الدين وممارسات المتدينين - إلى أحضان الإلحاد أو إلى اعتناق المذهب الربوبي والذي يُصوّره أتباعه باعتباره خشبة الخلاص للإنسانية، وأنّه المنجي من تبعات الأديان وأعبائها.
إنّنا وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى ضرورة الفصل بين نصوص الدين وبين ممارسات أتباعه، إلّا أنّنا ندرك صعوبة هذا الفصل، إذ سوف يقال لنا: لو كان في هذا الدين خيرٌ لانعكس على حياة أتباعه وعلى سلوكهم وأخلاقهم. ومن هنا سيكون لزاماً على أهل الوعي والبصيرة من المسلمين، في سبيل انتشال دينهم من كل هذا الوحل الذي لطّخه البعض به، أن يسعوا جاهدين إلى تقديم تجربة حضارية حيّة تستقي من هذا الدين وتستلهم من روحيّة نصوصه ما فيه الخير للإنسانية جمعاء.
إنّني وانطلاقاً من قناعاتي الدينية المعتمدة على الحجة والمنطق، لا ألوم الربوبي على رفضه «لأنبياء القتل» ونفوره من «رسل الذبح». فأنا شخصياً لا أؤمن بأنبياء أو رسل كهؤلاء، ولا أعتقد أساساً أنّه يوجد رسلٌ مبعوثون من الله يحملون هذه الدعوة، وكل ما ينسب إلى الأنبياء (ع) على هذا الصعيد هو كذب وتزوير وتشويه لحقيقة دعوة الأنبياء وتحريف لرسالتهم.
ثالثاً: إنّ ولادة الفكر الربوبي في الغرب، يدفع على الاعتقاد أنّه كان ردّة فعل على بعض ممارسات الكنيسة التي اتسمت بالشدة ليس اتجاه معارضيها فحسب، بل واتجاه سائر العلماء الطبيعيين، وهكذا هو ردة فعل على بعض طروحات اللاهوتية غير المقنعة، وقد عرف عن الربوبيين إنكارهم لعقيدة الثالوث المسيحية، ونظرهم إلى المسيح على أنه فيلسوف وعالم.
رابعاً: إنّ الجمود الكلامي الذي أظهر عجز الفكر الديني عن الإجابة على بعض الأسئلة المصيرية المقلقة، أو تقديم الحلول الناجعة للكثير من المشكلات على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والروحية، إنّ ذلك قد شكّل دافعاً لدى البعض للشك في صدقيّة الأديان وصحّة انتسابها إلى الله تعالى، كما أنّ الانكماش والتحجر الفقهي ولّدا شعوراً لدى بعض الناس بعدم قدرة التشريع الإسلامي على مواكبة الحياة، وأوحى بعجزه عن تقديم حلولٍ لمشكلات العصر. وهذا كله (أعني الجمود الكلامي والتحجر الفقهي) قد ساهم في فتح الباب أمام تسرّب الفكر الربوبي إلى الفضاء الإسلامي. وقد أشرنا إلى أنّ الأفكار أو التصورات غير المقنعة التي قدّمتها المسيحيّة فيما يتصل بالثالوث، والقوانين والتشريعات الصارمة التي اعتمدتها مع معارضيها شكّلت دوافع لتبني الفكرة الربوبية في الغرب.
ولذا لا نبالغ في القول: إنّ من أولى أولويات العقل الإسلامي في هذه المرحلة:
أ -بذل الجهد الفكري في سبيل تقديم رؤية دينيّة عقائدية متماسكة فيما يتصل بالله وصفاته وهدفه من خلق الإنسان وخلق النار والجنة، وكذلك فيما يتصل بالنبوات ودورها في الحياة، ما يجعل الإيمان بالله وبرسله حاجة ملحة للإنسان ومصدر أمن واطمئنان له، وليس مصدر خوف وقلق ورعب.
ب - بذل الجهد الفقهي في سبيل التحرر من جملة من المقولات الفقهية البعيدة عن سماحة الإسلام في تشددها والمعيقة لحركة الإنسان في تحجرها وتزمتها.
ج -إعادة قراءة الموروث التاريخي والحديثي قراءة نقدية، بغية تمييز سقيمه من صحيحه وغثه من سمينه ومتحركه من ثابته، وهذه مهمة جليلة وعظيمة.
إنّ الأجدى وبدل أن ينكبَّ البعض على تخوين الربوبيين وتكفيرهم، أن يسعى ويعمل للإجابة على أسئلتهم وهواجسهم، وهي هواجس تنتاب حتى بعض المتدينين الذين قد لا يفصحون عنها لسبب أو لآخر.
خامساً: وربما كان ميل الإنسان إلى الراحة والدعة هو من جملة الدوافع نحو تبني هذا المذهب؛ لأنّ الشخص بتبنيه للمذهب الربوبي يريح نفسه من تبعات دراسة العقائد المختلفة والرسالات المتعددة بغية الوصول إلى الحقيقة، كما أنّه يخفف بذلك على نفسه من مصاعب الالتزام بمقتضيات الشرائع السماوية في منظومتها الشعائرية والطقوسيّة وغيرها من القيود التي يفرضها التشريع عليه. أمّا الإيمان بالله تعالى دون الإيمان بالرسل فهو أمر سهل المؤنة ولا يكلّف صاحبه كثيراً، ولذا يجد الربوبي لنفسه متسعاً من التحرر وربما التفلت، فهو ليس محكوماً لشريعة ذات تعاليم صارمة من وجهة نظره، وربما يحاول بذلك أن لا يعيش قلق الحساب الأخروي وما يفرضه من التزامات دنيوية، كما يرى المتدينون انطلاقاً من أنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنّ مصير الإنسان الأخروي مرهون باستقامته في الدنيا.
لكنّ الحقيقة أنّه لا يمكن للإنسان العاقل أن يخلد إلى الراحة بهذه البساطة وربّما السذاجة، ويغضّ الطرف عن أسئلة المصير التي تفرض نفسها عليه وتقتحم عليه خلواته، ومن أهمّها سؤال من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ وهل يمكن للعاقل أن يرتاح وهو يسدُّ أذنيه عن نداء آلاف الأنبياء (ع) الذين خرجوا على الناس عبر هذا التاريخ الطويل معلنين: أنّهم رسل الله إلى البشريّة، وأن لا خلاص لأحدٍ من الناس إلا باتباعهم والسير على نهجهم؟!
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي آل محسن
الشيخ مرتضى الباشا
محمود المؤمن
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
لمن يكتب الفيلسوف؟
عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (1)
المذهب الربوبي: مفهومه ودوافع اعتناقه (3)
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (3)
كيف يتذكر الدماغ الأحداث؟
حول الارتباط الصحيح بأهل البيت عليهم السلام
دورة للإسعافات الأوليّة في برّ سنابس
المذهب الربوبي: مفهومه ودوافع اعتناقه (2)
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (2)