
الوعي الفائق لفينومينولوجيا الغيب
لنا هنا سؤالٌ جوهريّ:
ما نوع الوعي الذي نعي به الظهورَ الغيبيَّ، وهل من إدراكٍ لهذا الظهورِ يُستدلُّ عليه بالعقل، وما طبيعةُ ومكانةُ هذا العقل الذي يتولَّى هذه المهمَّة؟..
نجد في ما بذلته الحكمةُ المتعاليةُ الصدرائيَّةُ ما يستظهر معرفة الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) بوصفهما فينومينولوجيا وعيٍ فائق. فالكونُ الطبيعيُّ- وفقًا للنظريَّة الصدرائيَّة – منحكمٌ إلى التدبير الرحمانيِّ، ومجيبٌ لنداءات الأمر والوحي من غير سؤالٍ أو تردُّد. والكائنُ الإنسانيُّ منحكمٌ في معرفته إلى الفيض المقدَّس الذي منه يتنزَّل العلم الهادي على العقول والقلوب. فإنَّ طبيعة الإدراكات والأفهام المتعلِّقة بالكون هي ذات صلةٍ وطيدةٍ بمدى سعة الوجود الإنسانيِّ، بحيث يستطيع الإنسانُ التعرُّفَ على الموجودات بمقدار سعته العقليَّةِ والنفسيَّة. فالكون اللَّامتناهي له مراتبٌ وأطوارٌ يمكن لكلِّ إنسانٍ أن يتعرَّفها بمدى قابليَّته للمعرفة.
وقد عبَّر مُلَّا صدرا عن ذلك ببيانه أنَّ الظواهر المادّيَّةَ المحسوسة تحكي الحقيقة الغيبيَّة وإن لابَسَها الضعف بسبب كثافتها والحواجب المحيطة بها. لكنَّ الأشياء التي فوق مرتبة المادَّة -سواء كانت برزخيَّةُ أم عقليَّة- فإنَّ لها حكايتَها الأقوى قياسًا إلى الأشياء المحسوسة. تعتقد الحكمة المتعالية أنَّ الإنسان، وبقدر سعته الوجوديَّة، يصل إلى متن الواقع ويتوسَّع في دائرة المعاني الموجودة لديه، وعلى أساس هذا الوصول، يصير العلمُ بالعلَّة منتجًا للعلم بالمعلول، وتبعًا لهذه القاعدة المنطقيَّة الفائقة، يتعلَّم الإنسان حقائق الأشياء بعد الفناء في الله، ولكن لا كإفاضة صورة من الشيء في قلب الإنسان العالِم، ولا كالنظر إلى الشيء المعلوم في مرآة الحقِّ، بل كالنظر إلى حقيقة الشيء في الموطن الخاصِّ به.
وعليه، تذهب نفس العالِم نحو المعلوم، وتدرك حقيقته كما هي. وعلى أساس هذا التفسير يحدث شهود الأشياء في مواطنها الخاصَّة بها من خلال شهود علّتها. فمع أنَّ لكلِّ شيء في موطن الطبيعة، وفوق ذلك في موطن البرزخ، وفوقهما في الخزائن الإلهيَّة، بل إلى ذلك كلِّه في علم الحقِّ الذاتيِّ، وجودًا بسيطًا جامعًا إلهيًّا، وأنَّ جميع هذه الموجودات في مواطنها أمرٌ واحدٌ ومشكِّكٌ ( متراتب).. إلَّا أنَّ مفهومها وماهيَّتها واحدةٌ متشابهةٌ تعرضها الكثرة بالعرض وبتبع الوجود. (جوادي آملي (ص 269- 279).
يبقى التساؤل ضروريًّا أيضًا، عمَّا لو كان من سبيلٍ لاستكشاف إمكانات العقل في إدراك ظهورات الغيب؟..
الكلام على العقل في هذا المقام ينحو نحوًا غير مألوفٍ في سياق الجهد المبذول لوعي الرابطة الامتداديَّة بين أطواره المعرفيَّة المتعدِّدة. ففي مسرى التعرُّف على الموجودات كمظاهرَ إلهيَّةٍ يرى جمعٌ ممَّن جاوزوا العقلانيَّةَ الصلبةَ التي أوقفت نفسها على ظاهر الشيء، أنَّ من شأن التوصُّل إلى ما يمكن إدراكُه بشهود العقل، عبر ما ليس عقلانيًّا أن يفضي إلى زيادة التصوُّر العقلانيِّ عمقًا عن الغيب.
لكن هذا التحويل الذي يجريه الوعي المجاوِز لجهة توحيد العقلانيِّ واللَّاعقلانيِّ، سوف يفتح أفقًا مفارقًا في ميتافيزيقا الوعي. من مزايا هذا الأفق المفارق، الوصل المنهجيُّ بين فاعليَّة الغيب في الواقع، ومؤثِّرات هذه الفاعليَّة في تنشيط قابليَّات العقل واستعداده للامتداد إلى ما وراء عالم الحسّ. هذا الأمر يتيحُ للإيمان بالغيب حضورًا بيّنًا في الواقع يفترضه الترابط العميق بين معرفة الطبيعة (المعرفة العلميَّة)، ومعرفة ما فوق الطبيعة (المعرفة الفلسفيَّة)، ومعرفة الغيب في ظهوره، أي (المعرفة الإلهيَّة). وفق هذه الترابطيَّة، تأخذ العناصر الأساسيَّة لعلم ظهور الغيب بالتشكُّل ليكون لدينا خاصّيَّةٌ أبستمولوجيَّةٌ توحِّد العقلانيَّ واللَّاعقلانيّ على أساس «ديالكتيكيَّة متعالية» يجمع الأضداد ويحقِّق التناغم في ما بينها.
هذا يفترض منطقيًّا، الأخذ بالمناهج العقليَّة كتمهيداتٍ ضروريَّةٍ من أجل الوصول إلى فهم ما يستتر وراء عالم الخلق فهمًا عقليًّا ومعرفةً حضوريَّة. أمَّا النتيجةُ التي يؤول إليها هذا التناغم فهي مشاهدة فعل الحقِّ المتجلِّي بالخلق بالشهود العقليّ. من مفارقات هذا الطور الشهوديِّ أنَّه وهو يدأب على استكشاف الحقائق العليا المحتجبة، لا ينفكُّ عن الاعتناء بالمراتب الموجودات البادية للعيان كلٍّ بمقدار سِعَتِها. وهذا العقل الذي سمَّاه الحكماء بـ«العقل القدسيِّ» هو إيَّاه العقل الشهوديُّ الذي ينطوي في ذاته على العقل المبتدئ، إلَّا أنَّه يفوقه في درجات التعالي. ويشير ابن سينا إلى مكانته المحوريَّة في فهم حقائق الموجودات التي لا يمكن فهمُها وتعقُّلها عن طريق العقل المقيَّد بعالم الحسّ.
خلاصةُ القول أنَّ ما يُشاهدُ من قِبَلِ الخواصِّ يُنقَل إلى غيرهم من أتباعهم ذلك بأنَّ هذا العقل -حسب ابن سينا- هو سرَيانُه في أزمنة الناس. [ابن سينا، كتاب الشفاء، المقالة الرابعة- ص 169- 182] فالعقلُ الشهوديُّ هو الذي تُعرَف به النماذجُ المطلوبةُ للحياة وفي مقدّمها نموذجُ التدبير السياسيّ. وهو ما يتجلَّى في عقل النبيِّ والوليِّ وسائر المصلحين من العرفاء. وهذا العقل بهذه الصفة الفعليَّة هو نفسُه ما يسمّيه العرفاء العقل الوحيانيَّ الذي يتولَّى مهمَّة توثيق ما لم يستطع عليه العقل الفلسفيُّ صبرًا وتدبُّرًا. ذلك بأنَّه عقلٌ فائقٌ يدرك الحقائق الكليَّة المطلقة بالكشف، ولا يشقُّ عليه إدراك الظواهر الجزئيَّة وماهيَّتها.
النومينولوجيا: أو السبيل إلى وعي الشيء في ذاته
على خلاف ما هو عليه الفهم الآمن في «فينومينولوجيا الغيب»، لا تأتينا الفينومينولوجيا الدنيويَّةُ إلَّا بأفهام مكتظَّةٍ بالتشاؤم. ولمَّا أنْ جعلت السؤال المريب شرطًا وحيدًا للمعرفة، تبدَّدت إمكانات الحصول على الأجوبة الآمنة. فالإنسان والكون - في معارف هذه الأخيرة - يشكِّلان معًا كينونةً متشظّيةً ومقذوفًا بها في التيه. وكما أعرب أغلب فينومينولوجيّي التجربة الحديثة - فإنَّ الكينونةَ متروكةٌ بلا راعٍ ولا حافظٍ ولا صائنٍ لها من العدم. بذلك اقترف فينومينولوجيّو الحداثة خطأً أنطولوجيًّا فادحًا لمَّا سألوا عن ماهيَّة الأشياء من دون أن تكون لديهم فكرة صحيحة عن طبيعتها، إذ لا يمكن معرفة الماهيَّة من دون معرفة الوجود. ولأنَّ الفلاسفة أهملوا الوجود، فقد تعذَّر عليهم الوصول إلى فهم ماهيَّته. وبالتالي، لن يكون مستهجنًا القول أنَّ إهمال الماهيَّة والوجود هو سمة متأصِّلة في الميتافيزيقا الأرضانيَّة كما عرضها المشَّاؤون وأتباعُهم من المتقدِّمين والمتأخِّرين.
لم تفلح فينومينولوجيا العقل الأدنى بفهم حقيقة مبدأ الأمر، أي «المخلوق الأول»، وكانت النتيجة أن أعرضت عنه احتسابًا ليقين بدا لها مستحيلًا. بدلًا من ذلك، راحت تدور دورتها الأبديَّة حول أسئلة تتسلسل إلى ما لا نهاية، ثمَّ لم تنفلت من براثنه قط [محمود حيدر- «أصالة النومينولوجيا عرضيَّة الفينومينولوجيا» -فصليَّة الاستغراب- العدد 27]. ربما علينا لكي يستوي الكلام حول أطروحة فينومينولوجيا الغيب على نشأةٍ سويَّةٍ، أن نؤسِّس لحلقات تفكير تقوم على مراجعةٍ ميتافيزيقيَّةٍ تعيد الاعتبار إلى الأصل الذي منه وبه ابتدأ العالمُ كظاهرة.
منشأُ المعضلة في ظاهراتيَّات الحداثة، يعود إلى سوء الفهم الميتافيزيقيِّ لأوَّل ظاهرةٍ وجوديَّةٍ، أي إلى ظاهرة نشوء الكون الذي اتّفقت الفينومينولوجيا اليونانيَّةُ والحديثةُ معًا على أنَّه هو الشّيء الذي يظهر من تلقاء ذاته. وبالتالي، هو نفسُه الشّيء الممتنع ذاتًا عن المعرفة، والذي ينبغي تعليق الحكم عليه. النتيجة التي ترتَّبت على هذه «المسلَّمة» جاءت على خلاف ما تقتضيه البراءة العلميَّة، ومؤدَّاها تقييد العقل وتعطيل إمكاناته إلى حدِّ إنكار العلّة المُظهِّرة لهذا الشيء. وما ذاك إلَّا لأنَّ العقل الفينومينولوجيَّ الدنيويَّ منذ بداياته التأسيسيَّة قرَّر النّظر إلى «النومين» كعلّة تامَّةٍ نشأت من ذاتها بذاتها ولذاتها، ولا حاجة لها إلى علَّةٍ خارجيّةٍ تدفعها إلى الظهور. وبالتالي، سيضطرُّ الناظر إليها لأن يتَّخذ هذه المسلَّمة دُرْبةً له، كقاعدةٍ ضروريَّةٍ لوصف ما هي عليه ظواهر الموجودات في الواقع.
في الميتافيزيقا الحديثة، دارت الأفهامُ حول النومين مداراتٍ شتَّى من الجدل، إلَّا أنَّها في خواتيمها لم تفارق ما تداوَله حكماءُ اليونان وفلاسفتُهم. هو حينًا نفسُ الأمر المكمونِ في الشيء، وهو عصيٌّ على الإدراك، ولا يُعرف إلَّا حين يبدو لنا في الواقع العينيّ.. ذلك ما كان أشار إليه هايدغر لمَّا بيَّن أنَّ الحداثة أخفقت في ابتكار تعريفٍ للكلّيَّات يوازي أو يجاوز ما وضعه الإغريق. وإنَّ فلاسفة اليونان مذ حدَّدوا المعالمَ الأساسيَّةَ لمبادئ فهم الوجود لم تتحقَّق خطوةٌ جديدةٌ من خارج الحقل الذي ولجوه أوَّل مرَّة.
نَدَر أن سُئِلت الفلسفةُ عن الدَّوافع التي جعلتها تميلُ إلى الاعتناء بظواهر الموجودات والإعراض عن الأصل الذي هو علّةُ إظهارها. الراجحُ أنَّ سبب ذلك يعود في الغالب إلى أنَّ الفينومينولوجيا لم تكن سوى مُركَّبٍ ميتافيزيقيٍّ اتّخذ مكانةً حاكمةً في تاريخ الميتافيزيقا. ابتدأت الملحمة مع السوفسطائيَّةِ وما تلاها، ثمَّ مع الانعطافةِ الأرسطيّةِ عبر المقولات العشر، ثمَّ امتدَّت إلى عهود الحداثة بأطوارها المتعاقبة. ولقد تخالفت التنظيراتُ أو تقاطعت، بصدد ماهيَّة الفينومينولوجيا، وهوّيَّتها المعرفيَّة، وطرائقها في التعرُّف إلى موضوعاتها. ولسوف نرى كيف امتلأ المعجمُ الفلسفيُّ الحديث بما لا حصْرَ له من التعاريف. منها من مضى إلى أنَّ المعنى البَدئيَّ لكلمة ظاهرة (Phainomenon) مشتقٌّ من فعل (Phainesthai) بمعنى «ظهر». ومنها من رأى أنَّ الظاهرة هي ما يظهر من تلقاء ذاته، أو ما هو بادٍ للعيان، بقطع النَّظر عن السبب الكامن وراء إبدائه.
لا نتريَّب القول أنَّ مسعانا إلى تأصيل المعرفة بالموجود الأوَّل، ينبغي أن يكون محمولًا على رهانٍ معرفيٍّ يسترجع ما قوَّضه النسيان في تاريخ الميتافيزيقا الكلاسيكيَّة التي تحوَّلت إلى فينومينولوجيا مقطَّعة الأوصال. وحين يكون سمْتُ العلم بالشيء في ذاته وغايته استشكافَ المنسيِّ والمغفولِ عنه من الوجود، فممَّا لا ريب فيه حالئذٍ، أنَّنا بإزاءِ مهمّةٍ عظمى تستلزم أوَّل ما تستلزم، همَّةَ إيجاد المنهج الموصِل إليه.
ولكونه علمًا ينشد التعرُّف على المظهر الأوَّل، أي على الموجود البَدئيِّ وسرِّ ظهوره، والكيفيَّة التي ظهرت منه الكثرة، تُعيدُ النومينولوجيا، أو ما يسمَّى «علم النومين»، الاعتبارَ لكلامٍ متجدِّدٍ حول فينومينولوجيا الوجود المتعيِّن على نحوٍ يجاوز الثنائيَّاتِ المؤسِّسةَ للمعضلة الميتافيزيقيَّة في القول الفلسفيِّ الحديث. ولذا، فإنَّ المهمَّة التأسيسيَّة لعلم «النومينولوجيا» هي إذًا، استكشافُ حقيقةِ موجودٍ فُطِرَت موجوديَّتُه على وحدة البساطة والتركيب. وبالتالي، إدراكُ حقيقةِ هذا الجوهر الوجوديِّ الذي حظيت ذاتُه بفرادةِ جمع الوحدة إلى الكثرة، هو الشيءُ الوحيدُ الذي تقوم طبيعتُه التكوينيَّة على الثراء والفقر في آن، أي الاحتياج إلى موجده وخالقه وكونه مبدأ مؤسِّسًا لعالم الممكنات.
حين وقفت المدارسُ الفينومينولوجيَّةُ الحديثةُ بانذهالٍ أمام «النومين» (الجوهر في ذاته)، دأبت على تعريفه بالَّلا مشعور به، أو بالشيء المصموتِ عنه والمغفولِ عن سيرته. غير أنَّ هذا «التسقيط المفهوميَّ» لـ«الشيء في ذاته» كمظهرٍ أوَّلَ لم يكن بداعي النّظر إليه كأمرٍ بديهيٍّ، وإنَّما لكونه السرَّ الذي اسْتَتَر عن النّظر، وعزَّ فهمُه على طبائع العقول المشغولة بدنيا المظاهر. ولمَّا تنبَّه إدموند هوسرل إلى مشكلة تقديم الفينومينولوجيا كعلمٍ ومنهجٍ بينما هي مفصولةٌ عن أصلها، طَفَقَ يرتِّب نظامًا لتفكيرٍ مفارقٍ يُقصدُ منه إخراجُ مشروعه الفلسفيِّ ممَّا ينطوي عليــه من إغماضٍ، وما قد يُسفر عنه من عثراتٍ فـي بنيتــه التكوينيّـَـة. لذا، سيطلــقُ شعارَه الأثيرَ بضرورة «الرجوع إلى الأشياء ذاتها» (To The Things Themselves).
أمَّا ديناميَّاتُ الرُّجوعِ إلى الأشياء في ذاتها واستبطانِ ماهيَّاتها، فهذا ما لم نشهد له بيِّنةً لدى هوسرل. حصل ذلك رغم تميُّزه عمَّا ذهب إليه الإغريق حين استعملوا مصطلح «الأبوخي» للإشارة إلى استحالة معرفة الشيء في ذاته. لكن هوسرل أراد تأويل هذا المصطلح في إطار منهجيَّته الجديدة التي تقول بالتقييد لا «الاستحالة»، أي بلزوم التعليق المؤقَّت للحكم على طبيعة الموجود الأوَّل وسرِّه المكمون، وذلك من أجل التوجُّه نحو مقامٍ متعالٍ (ترانسندنتاليٍّ) تُدرَكُ فيه الصورُ العقليَّةُ الحقيقيَّةُ للأشياء تبعًا لتلازُم «القصديَّة» و«الشعور»، الَّلذين يشكِّلان جوهر منهجه الفينومينولوجيّ.
الفينومينولوجيّون من نظرائه، وكذلك الذين جاؤوا من بعده، سيواجهون هذه المعضلة، فضلًا عن معضلة التوفيق بين توصيف الظواهر وتعليق الحكم عليها. بسببٍ من هذا التعقيد المعرفيِّ، سوف تنمو التباينات وتتضاعف حيال تعريف ماهيَّة وهوّيَّة ومهمَّة المنهج الفينومينولوجيِّ ومقاصده. من أبرز تداعيات هذه القضيَّة أنَّ جمعًا من هؤلاء ذهبوا شوطًا أبعدَ ليقرِّروا أنَّ الفينومينولوجيا هي علم الماهيَّات الذي يُدرَكُ بوساطة الحدس، بوصفه المرحلة القصوى من إدراك معنى الظواهر. والحدس – كما يقرِّر المشتغلون بعلم الشيء في ذاته – هو المقدرةُ على التوغُّل عبر الحاجز الفاصل بين الوعي والوعي الباطنيِّ (الَّلاوعي). ولأنَّ هذا الأخير متّصلٌ بالوعي الكلّيِّ، فإنَّه يستطيع العثور على مَنفذٍ إلى مصدر لمعرفةٍ مفارقةٍ لأعراض الأشياء ومظاهرها.
المُحقَّقُ عن هوسرل أنَّه حاول فهم الشّيء في حضوره الأوّليِّ البَدئيِّ في العالم. وأنَّ هذا الشّيء سيكون عنده موضوع الإدراك الحسّيِّ، والجوهر الحامل للمقولات، واستطرادًا، هو ما يُقابل الذات العارفة على مستوى نظريَّة المعرفة. لكنَّ مشكلة فهم حقيقة الأشياء لدى رائد التنظير الفينومينولوجيِّ المستحدث، هي تلك التي ستظهر بصيغة الاستفهام الذي يحتاج إلى جواب: كيف يمكن لذات واحدة، من دون أن تتعرَّف إلى تاريخ الفكر البشريِّ، أن تعود إلى العلاقة الأوّليَّة مع الأشياء المحضة، لتعيد تحديد حقيقتها من جديد؟
حيال هذا الاستفهام، دأب هوسرل في مسعاهُ المنهجيِّ على عدم الفصل بين «النومين» و«الفينومين»، بل جعلهما كينونةً واحدةً، يُمكن التعرُّف إليها حضوريًّا من دون توسُّط المفاهيم. وهو في هذا التصعيد المعرفيِّ يكون قد اقترب بصورة ملحوظة ممَّا ذهبت إليه فينومينولوجيا الغيب من دون أن يتمكَّن من النفاذ إلى فضائها المتعالي. فلقد اعتَقَدَ أنَّ ذات الأشياء (النومين) هي نفسها التي تحضر، فيُدركها الفاعل المعرفيُّ -أي الإنسان- حيث يحصل التطابق بين الذهن والعين من بعد أن كانا منفصلين.
وهذا الاعتقاد جاء نتيجة فرضيَّته التي تقول إنَّ ذات الأشياء هي ماهيَّتها. أي هي نفسها الخصائص التي تميّزها والعناصر التي تكوِّنها وتبدو من خلالها للعيان. سوى أنَّ هذه التأويليَّةَ المتقدّمةَ حيال الظاهراتيّة لدى هوسرل، لم تجد الأفق الذي يفتح على تحقيق حُلمه الكبير في إخراج العلوم الأوروبيَّة من مأزقها الأنطولوجيّ. وما ذاك إلَّا لإصراره على جعل الفينومينولوجيا علمًا قائمًا بذاته ومستقلًّا عن كلِّ المسلَّمات الميتافيزيقيَّة. وهذا هو الأمر الذي سيؤدّي به -وبسبب «التقويس» أو «تعليق الحكم»- إلى المكوث مجدَّدًا في دنيا الإغريق.
من بعد هوسرل، سنشهد على انعطافاتٍ غير محمودة النتائج في مساعي هايدغر وتنظيراته. فقد حَصَر الأخير فينومينولوجيا الوجود بفهم ما قد يسفر عنه العطاء المتبادل بين الكينونة والإنسان المتعرِّف «الدازاين». أي أنّه سيُعيد نقل المعضلة إلى الإنسان كموجودٍ محوريٍّ في فهم الوجود الذي يواجهه. إلَّا أنَّه في دراسته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟»، يعود هايدغر القهقرى إلى دائرة التعطيل ليُصرِّح بأنَّنا لا نستطيع أن نصل إلى معرفة نفس الأمر وواقع الأشياء، وإنَّما نتعاطى مع ظهوراتها فقط». لكنَّ هذا الإقرار بالعجز عن معرفة الشيء في ذاته، بدا أنَّه يُناقض مكوِّنًا أساسيًّا في منظومته الفلسفيَّة حين احتجَّ على تاريخ الميتافيزيقا منذ الإغريق إلى ما بعد الحداثة على أنَّه تاريخٌ مطبوعٌ على «نسيان الكينونة».
الثّابت أنَّ هايدغر أخذ مسلكه الظاهراتيَّ عن أستاذه هوسرل، ولاسيَّما لناحية قوله بالوحدة بين ذات الشيء وظهوره العينيِّ، إلَّا أنَّه سيخالفه الرؤية في ما بعد. وفيما كان هوسرل يقول بأصالة الماهيَّة والظهور في آن، انبرى هايدغر إلى القول بأصالة الظهور، حيث يظهر الوجود من خلال وعي الدازاين له. ولذلك، فإنَّ أصالة ظهور الوجود بوساطة «الدازاين» لا تعني قربًا أو تمثُّلًا لأصالة الوجود، كما نظَّرت لها الحكمة المتعالية في الفضاء الإسلاميّ، ذلك لأنَّ رؤية هايدغر للكينونة لم تنفذ إلى الماوراء والَّلامتناهي، بل طفقت حبيسة دنيا المقولات الأرسطيَّة ولم تغادرها قطّ. لذلك، يصرِّح هايدغر باستحالة قدرة الدازاين على تجاوز الكينونة لكي يتحقَّق بإدراكاتٍ أعلى من فضاءاتها المتاحة. فالمعنى عنده هو أنَّ «الدازاين» (الإنسان) حين يتواجه مع الكينونة بانفتاحٍ ووعيٍ، ويرمي نفسه في لجَّتها، تظهر له حقيقة الوجود بقدر وعيه واستعداده. وعليه، تُصبح الموجودات ذات معنى حين تصير تحت مرأى وعي «الدازاين» لها.
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (3)
محمود حيدر
مناجاة الذاكرين (8): اذكروني أذكركم
الشيخ محمد مصباح يزدي
معنى (ودق) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
هل قاتلت الملائكة؟
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
ما الذي يهمّ أنت أم أنا؟ يتذكر الأطفال ما هو مهم للآخرين
عدنان الحاجي
بين الأمل والاسترسال به (1)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ..} لا تدلُّ على تزكية أحد (2)
الشيخ محمد صنقور
العزة والذلة في القرآن الكريم
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
ماذا نعرف عن القدرات العظيمة للّغة العربية؟
السيد عباس نور الدين
لا تبذل المجهود!
عبدالعزيز آل زايد
الإمام الهادي: غربة على شفير السّمّ
حسين حسن آل جامع
سيّد النّدى والشّعر
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
(العقيدة السّلفيّة، دراسة ونقد) جديد الشيخ علي آل محسن
محاضرة بعنوان: (الفلسفة بين اليوميّ واللايوميّ) للباحث عبدالله الهميلي
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (3)
مناجاة الذاكرين (8): اذكروني أذكركم
سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع) (3)
معنى (ودق) في القرآن الكريم
هل قاتلت الملائكة؟
أهمّ عشرة اكتشافات علمية في الفيزياء لعام 2025
تزكية النّفس أوليّة مقدّمة على كلّ شيء
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (2)