العلم علمان: علم الدّنيا، وعلم الآخرة. وعلم الدّنيا ما يرتبط به مصالح الدّنيا كالطب والحساب، وعلم الآخرة علمان: علم يقصد لذاته، وعلم يقصد للعمل ليتوسّل به إلى العلم المقصود لذاته، فإن أريد به الدّنيا التحق بعلم الدنيا، وعلم الآخرة محمود كلّه، وأما علم الدنيا فمنه محمود ومنه مذموم، أما العلم المقصود لذاته فهو نور يظهر للقلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة فينكشف من ذلك النور أمور كان يسمع من قبل أسمائها ويتوهم لها معان مجملة غير متضحة .
فيتضح له ذلك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات اللّه سبحانه وبصفاته التامات بقدر الإمكان وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه الآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، وبمعنى الإمامة والإمام، ومعرفة معنى الوحي والإلهام، ومعنى الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشيطان للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إلى النبي، وحديث الملك مع الإمام والمعرفة بملكوت السماوات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والشفاعة والحساب، ومعنى قوله عز وجل :(كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) «1» ومعنى قوله تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) «2» ومعنى لقاء اللّه عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه، والمقام في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقاربة الملائكة والنبيين، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنة حتى يرى بعضهم بعضًا كما يرى الكواكب الدري في جو السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله .
فإن للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات، فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء، وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها، وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة اللّه سبحانه الاعتراف بالعجز عن معرفته، وبعضهم يدعي أمورًا عظيمة في المعرفة باللّه عز وجل، وبعضهم يقول حد معرفة اللّه ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام، وهو أنه سبحانه عالم قادر سميع بصير متكلم مريد .
فنعني بالعلم المقصود لذاته أن يرتفع الغطاء حتى يتضح جلية الحق في هذه الأمور اتضاحًا يجري مجرى العيان الذي لا شك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان إلا أن مرآة القلب قد تراكم صداها وخبثها بقاذورات الدنيا، فلا بدّ من تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن اللّه سبحانه وعن معرفة صفاته وأفعاله، وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكفّ عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء والأئمة (ع) في جميع أحوالهم، فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقايقه .
ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعلم والهدى والخشية والتقوى والفطنة والذكاء، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم اللّه عليه منها بشيء إلا مع أهله وهو المشارك فيه على سبيل المذاكرة وبطريق الإسرار .
وهذا العلم الخفي هو الذي أراده النبي بقوله (ص): «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة باللّه فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار باللّه عز وجل ولم يتحمّله إلا أهل الاعتراف باللّه، فلا تحقروا عالـمًا أتاه اللّه علمًا فإن اللّه عز وجل لم يحقره إذ أتاه إياه» «3».
وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «إنّ من أحّب عباد اللّه إليه عبدًا أعانه اللّه في نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه إلى أن قال: قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من الهموم إلا هما واحدًا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الرّدى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس» «4» .
وفي كلام آخر له (ع): «قد أحيى قلبه وأمات نفسه حتى دقّ جليله ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة وتثبّتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربّه» «5»
وقال (ع): «اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة» «6» وقال (ع): «تعلمت من رسول اللّه (ص) ألف باب من العلم ففتح لي من كل باب ألف باب» «7» .
وسأله كميل بن زياد النخعي عن الحقيقة فقال (ع): «مالك والحقيقة؟ قال: أولست صاحب سرّك؟ قال: بلى ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي ثمّ أجابه عما سأل» «8» وقال في رواية أخرى أنّه (ع) «أخذ بيدي فأخرجني إلى الجبان فلمّا أصحر تنفس الصعداء ثمّ قال لي :يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ عنّي ما أقول لك :الناس ثلاثة: فعالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق إلى أن قال هاه إن ههنا لعلما جمًّا وأشار إلى صدره لو أصبت له حملة بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه مستعملاً آلة الدّين للدنيا، ومستظهرًا بنعم اللّه على عباده وبحججه على أوليائه، أو منقادًا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه «9» ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة الأمة لا ذا ولا ذاك .
أو منهومًا باللذة سلس القياد للشهوة أو مغرى بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شبهًا بهما الأنعام السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه .اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إما ظاهرًا مشهورًا أو خائفًا مغمورًا لئلا تبطل حجج اللّه وبيّناته، وكم ذا وأين أولئك، أولئك هم واللّه الأقلون عددًا الأعظمون قدرًا بهم يحفظ اللّه حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعوه المترفون «10» وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء اللّه في أرضه والدعاة إلى دينه آه آه شوقًا إلى رؤيتهم» «11».
وعن السجاد (ع) أنه قال: «واللّه لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ولقد آخى رسول اللّه (ص) بينهما فما ظنكم بسائر الخلق، إن علم العلماء صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقّرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان قال: وإنّما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبته إلى العلماء» «12»
أراد (ع ): «أهل التوحيد والعلم والمعرفة والحكمة لا أهل بيت النسوان والصبيان والأهل والأولاد وفي الحديث النبوي، أيضًا «سلمان منا أهل البيت» «13» وفيه أيضًا «لو علم أبو ذر ما في بطن سلمان من الحكمة لكفره وفي رواية لقتله» «14» .
وعن السجاد (ع) في أبيات منسوبة إليه :
إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وعن الباقر (ع) «الناس كلهم بهايم إلا قليل من المؤمنين» «15» .
أقول: وتصديق ذلك قول اللّه سبحانه: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) «16» .
وعن الصّادق (ع) «إنّ أمرنا سرّ مستور في سر مقنع بالميثاق من هتكه أذله اللّه» «17» وقال (ع): «إنّ أمرنا سرّ مستور في سرّ وسرّ مستسر وسرّ لا يفيده إلّا سر وسرّ على سرّ مقنع بسر» «18»، وقال (ع): «هو الحقّ وحقّ الحق وهو الظاهر وباطن الظاهر وباطن الباطن، وهو السّر وسرّ المستسر وسرّ مقنع بالسّر» «19» وقال (ع) مشيرًا إلى وجوب كتمان هذا السّر: «التّقيّة ديني ودين آبائي، فمن لا تقيّة له لا دين له» «20»، وقال (ع): «خالطوا النّاس بما يعرفون ودعوهم بما ينكرون ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان». «21».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء : آية 14 .
(2) سورة العنكبوت : آية 64.
(3). إحياء علوم الدين: ج 1 ص 24 .
(4). نهج البلاغة: ص 118 خطبة رقم 87 «صبحي الصالح».
(5). نهج البلاغة: ص 337 خطبة رقم 220 .
(6). نهج البلاغة: ص 52 خطبة رقم 5 .
(7). الإرشاد للمفيد: ص 23 .
(8). رجال النيسابوري كما في الروضات في ترجمة كميل كما في المحجة: ج 1 ص 64 .
(9). هكذا في النسخ وفي نهج البلاغة: أو منقادًا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه الخ والظاهر أن المراد منهم هو المقلد إذ لا بصيرة له في دقايق الحق وخفاياه، لعدم علمه بالبرهان والحجة فينقدح الشك الخ
(10). أي استصعبه المتنعمون .
(11). نهج البلاغة: ص 495 أبواب الحكم خطبة 147.
(12). الكافي: ج 1 ص 401 وبصائر الدرجات ص 45 .
(13). عيون الأخبار: ج 2 ص 64 .
(14). الكافي: ج 1 ص 401 .
(15). الكافي: ج 2 ص 242 .
(16). سورة الفرقان: آية 44 .
(17). بصائر الدرجات: ص 48 .
(18). بصائر الدرجات: ص 48 .
(19). بصائر الدرجات : ص 49 .
(20). المحاسن: ص 255 ح 286 .
(21). بصائر الدرجات: ص 46.
الشيخ مرتضى الباشا
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان