قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ (3)

وأما الثاني فلأن هضم النفس إنما يستقيم في غير الضروريات وأما الأمور الضرورية فلا معنى لقول القائل: لست إنسانًا وهو يريد نفي الماهية هضمًا لنفسه، اللهم إلا أن يريد نفي الكمال، وكذا القول في إظهار الحاجة وهم لا يرون في الأمور الضرورية المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.

 

وأما الثالث فلأن الشرك الخفي هو الركون والتوجه إلى غير الله على مراتبه، وإبراهيم عليه السلام يعلل قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي﴾ إلخ بقوله ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ﴾ إلخ، فهو إنما يسأل الإبعاد من عبادة هذه الأصنام وهي الشرك الجلي دون الحفظ عن الركون والتوجه إلى غير الله تعالى، اللهم إلا أن يدعى أن المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه، وكذا المراد بالعبادة مطلق التوجه والالتفات وهو دعوى لا دليل عليها.

 

ثم استشكلوا في قوله عليه السلام ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين، ولا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية.

 

وقد قيل في الجواب عن الإشكال: أن الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة وإنما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾الآية فإبراهيم عليه السلام جرى في دعائه على ما كان عليه الأمر في شريعته.

 

وقيل: إن المراد: ومن عصاني فإنك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيد محذوف، وقيل: المراد ومن عصاني وأقام على الشرك فإنك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له وترحمه.

 

وقيل: المراد بالمغفرة والرحمة الستر على الشرك في الدنيا والرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى ومن عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك وارحمه بتأخير العقاب عنه، وقيل: إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلاً وإنما منع منها الدليل السمعي وليس من الواجب أن يعلم بجميع الأدلة السمعية في يوم واحد، وقيل: المراد بالمعصية ما دون الشرك.

 

وهذه أجوبة فاسدة أما الأول فلأن دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم عليه السلام بمثل قوله: - وهو أول الشرائع السابقة - ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البقرة: 39، وحكى عن المسيح عليه السلام وشريعته آخر الشرائع السابقة قوله: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ المائدة: 72، والتدبر في آيات القيامة والجنة والنار وفي آيات الشفاعة وفي دعوات الأنبياء المحكية في القرآن لا يدع شكًّا في أن الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أو غيره إلا بالتوبة قبل الموت.

 

وأما الثاني فلأن تقييد المغفرة والرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على أن تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي﴾ إلخ، فإن العاصي التائب يعود ممن تبعه ويلحق به عليه السلام فلا يبقى للمعادلة أزيد من طرف واحد.

 

وأما الثالث والرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فإن ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا أن يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة وكذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقًا أو في الآخرة، وأما رفع التبعة الدنيوية فقط فأمر بعيد عن الفهم.

 

وأما الخامس فهو أبعد الوجوه، وكيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل عليه السلام وهو في أواخر عمره - كما تقدم - أن يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم يجري على جهله فيشفع عند ربه للمشركين ويسأل لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله في ذلك ولو استأذنه لأنبأه أن ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه من لغو الكلام جهلاً ولا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك، وقد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك ورفع عن ساحته كل غميضة فيما قال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾  التوبة: 114.

 

وأما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد، اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.

 

فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصه وقد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك، ومعنى تفرع قوله: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ إلخ على ما تقدمه.

 

قوله تعالى: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ إلى آخر الآية ﴿مِن ذُرِّيَّتِي﴾ في تأويل مفعول ﴿أَسْكَنتُ﴾ أو ساد مسده و﴿من﴾ فيه للتبعيض ومراده عليه السلام ببعض ذريته ابنه إسماعيل ومن سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله: بعد ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾.

 

والمراد بغير ذي زرع غير المزروع وهو آكد وأبلغ لأنه يدل - كما قيل - على عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضًا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع وهذا كقوله: ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾.

 

ونسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبني لغرض لا يصلح إلا له تعالى وهو عبادته، وكونه محرمًا هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعًا والظرف أعني قوله ﴿عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ متعلق بقوله ﴿أَسْكَنتُ﴾.

 

وهذه الجملة من دعائه عليه السلام أعني قوله: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ﴾ - إلى قوله - ﴿الْمُحَرَّمِ﴾ من الشاهد على ما قدمناه من أنه عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة وبنى الناس بلدة مكة وعمروها كما أن من الشاهد عليه أيضًا قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ﴾.

 

وبذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال: كيف سماه بيتا وقال أسكنت من ذريتي عنده ولم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر أنه إنما دعا به يوم أتى بإسماعيل وأمه إلى أرض مكة وكانت أرضا قفراء لا أنيس بها ولا نبت.

 

ولا حاجة إلى دفعه بأنه كان يعلم بما علمه الله أنه سيبني هناك بيتًا لله أو بأن البيت كان قبل ذلك وإنما خربه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان وليت شعري إذا اندفع بهما هذا الإشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الإشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله رب اجعل هذا البلد آمنا وظاهر قوله: ﴿وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ﴾.

 

وقوله: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَة﴾ بيان لغرضه من إسكانهم هناك، وهو بانضمام ما تقدم من قوله: ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾  وما يعقبه من قوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ يفيد أنه عليه السلام إنما اختار واديًا غير ذي زرع أعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب ونبات ذي خضرة وشجر ذي بهجة وهواء معتدل خاليًا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.

 

وقوله: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ إلخ من الهوي بمعنى السقوط أي تحن وتميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم، وارزقهم من الثمرات، بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون.

 

قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ إلى آخر الآية معناه ظاهر، وقوله: ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾ من تمام كلام إبراهيم عليه السلام أو من كلامه تعالى، وعلى الأول ففي قوله: عَلَى اللّهِ، التفات وجهه الإشارة إلى علة الحكم كأنه قيل: إنك تعلم ما نخفي وما نعلن لأنك الله الذي ما يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل أن المراد بالسماء ما هو خفي علينا غائب عن حسّنا والأرض بخلافه فافهم ذلك.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد