2ـ مبدأ (حبّ الجهاد والمواجهة) أو مبدأ (حبّ التضحية)
وهما من أعظم المبادئ في الفترة المدنية؛ لأنّ حركة الدعوة والهداية في هذه المرحلة لا يكفي فيها أن تجاهد ولو بالإلزام، بل المطلوب صناعة حالة الحبّ والعشق للتضحية ونكران الذات.
إنّ هذا جزءٌ من عقيدة المواجهة في منطق القوّة الإسلامي، قال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ (1).
فالجهاد والمواجهة ناتجان في التربية الدينيّة عن عشق الله وحبّه وحبّ رسوله، وعن عشق التضحية في سبيلهما، وليسا ناتجين عن مصالح أخرى، فكلّ المصالح الدنيويّة عند الإصلاحيّ والتغييريّ تصبح لا شيء في سبيل مصلحة القِيَم والمبادئ التي يؤمن بها.
ولهذا ركّزت نصوص القرآن الكريم على خطورة أن يتحوّل الجهاد في عالم مقاصده من ساحةٍ للعشق الإلهيّ وتفضيل الآخرة على الدنيا إلى ساحة لطلب الدنيا نفسها، فيحصل تحوُّل في المفهوم والظاهرة، قال تعالى: ﴿ ... لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ... ﴾ (2).
إنّ هذه الآية الكريمة تريد أن تحصر القتال تقريباً بأولئك الذين يبيعون الدنيا مقابل أن يحظَوْا بالآخرة، هؤلاء هم الذين ينبغي أن يقاتلوا، لا أولئك الذين إنما يقاتلون لأجل الغنائم وتحصيل المكاسب الدنيوية.
وهكذا تجد في حركة الإصلاح والتغيير بعض الأشخاص الوصوليّين الانتهازيّين الذين يريدون أن ينضمّوا إلى المسيرة بهدف تحقيق بعض المكاسب التي يجدونها عند هذا الفريق، ولا سيّما عندما يلاحظون تقدُّم هذا الفريق في مواقع القوّة وتحقيقه بعض المنجزات.
ولهذا لم يساوِ القرآن الكريم بين أنواع المقاتلين أنفسهم، فضلاً عن عدم مساواته بين القاعدين والمجاهدين، فقال عزَّ من قائل: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ (3).
هذه الآية الكريمة تؤكّد أنّ المقام الأسمى يكون لأولئك الذين واجهوا وتحمّلوا في مواقع الشدّة؛ لأنّ هذا العنصر يكشف عن درجةٍ إيمانيّة عالية عندهم وجهادٍ حقيقيّ مخلص، حيث لم يكن يرجو صاحبه شيئاً وهم القلّة الضعيفة، أما بعد الفتح فإنّ الإسلام صار قويّاً، وصار الانضمام إليه شأن المخلص وغيره، وشأن المؤمنين على اختلاف درجات الإيمان، ويشوبه حينئذٍ تمازج المصالح الدنيويّة والأخرويّة.
إن الاختبارات والامتحانات جهازٌ لتصفية المقاصد وكشف الأغراض والغايات، ومَنْ يقف معك في موقع الشدّة يختلف عمَّنْ يقف معك في موقع الضعف، حيث سيكلِّفه الوقوف معك كثيراً.
ونحن نرى كيف أنه داخل الأوساط الدينيّة يحكم هذا المنطق أيضاً. فكم من أشخاص يصدق عليهم ما صدق في حقّ كثير من الناس زمن الإمام الحسين(عليه السلام) «قلوبهم معك، وسيوفهم عليك». فأنتَ ترى الكثيرين يتفاعلون مع حركة الوعي والبصيرة والهداية مقابل حركة الغلوّ والخرافة والتهريج من جهةٍ، وحركة التمييع والتقزيم والمحاربة للدين من جهةٍ ثانية، لكنْ عندما تتطلَّب الأمور منهم موقفاً فإنّك لا تجد أحداً، ولا ترى نفسك إلاّ شبيهاً ـ في الصورة ـ لمشهد مسلم بن عقيل، فإذا قوي عودك سمعتَ ثناءهم ومدحهم وإطراءهم.
هنا أهمّيّة الحفر في المقاصد؛ لتكون مقاصد سليمة وصحيحة، فيناضل الإنسان لأجل الله تعالى، ويستعدّ للتضحية، فإذا بني هذا القصد في الروح الإنسانيّة فسوف تجد مع مسلم بن عقيل الكثيرين.
3ـ مبدأ الوحدة والتعاضد
فعندما تدخل حركة الدعوة والتغيير مرحلة القوّة المدنية تظهر الانقسامات الناتجة عن الإحساس بطمأنينة الأقلّية عند قوّتها النسبية على الأكثرية. إنّ الإحساس بالقوّة والمنعة، والخروج من مرحلة الضعف إلى مرحلة العزّة والكرامة، يمكن أن يدفع العاملين إلى الاشتغال بقضاياهم الداخلية، بعد شعورهم براحةٍ نسبيّة إزاء الخطر الخارجي.
وهنا قد تبرز التمايزات بينهم في الطبائع والسليقة والمزاج وطريقة العمل، فيحدث الاختلاف بينهم. فإذا لم يكونوا ليستشعروا الخطر الخارجي ولم يديروا ويتفهَّموا منطقية هذا الاختلاف، فسوف تحدث تيّارات متعارضة فيما بينها. وهنا يشتدّ التأكيد على منطق الوحدة والتعاضد، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ (4). فقد يختلفون، حتّى في أسلوب مواجهة الكفر والطغيان، ولا ينبغي لهذا الاختلاف أن يفضي إلى عكس المطلوب، وهو الضعف أمام الكفر والطغيان، وأمام حركة الجهل والخرافة، وأمام منطق الاستغلال والتسلُّط أيضاً.
إنّ الوحدة هذه المرّة هي وحدة المجاهدين الذين يجاهدون العدوّ الخارجي، أو أولئك الذين يجاهدون الرجعيّة والتخلُّف والاستبداد في الأمّة. إنّ خروجهم أفراداً وجماعات ممزّقة يمكنه أن يضيِّع قوّتهم، ويُذهب هيبتهم، أمام الخطر الخارجي والداخلي.
وقد بتنا نرى أنّ حركة الوعي صار حالها كهذه الحال. فكلُّ واحدٍ يعمل لحسابه الشخصي، أو لحساب جماعةٍ معيّنة داخل الإطار الكبير. وهذا ما أضعف هذه الحركة، وأوقع ألوان التحاسد حتّى داخل رجالاتها ورموزها.
إنّني أدعو إلى يقظةٍ أخلاقيّة داخل حركة الوعي، تزيد من الضخّ الروحي لصالح نجاح المنجزات المتوقَّعة، وكلّما ابتعدنا عن هذا الزخم الإيماني والأخلاقي والروحي صارت هناك إمكانية لتفريغ الحركة التوعوية من أهدافها السامية؛ كي لا نكون أمام أحُد جديدة، تتساقط فيها منجزات بدرٍ أمام المصالح الشخصيّة والفئويّة للمجاهدين أنفسهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. القرآن الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 24، الصفحة: 190.
2. القرآن الكريم: سورة النساء (4)، الآيات: 72 - 74، الصفحة: 89.
3. القرآن الكريم: سورة الحديد (57)، الآية: 10، الصفحة: 538.
4. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 46، الصفحة: 183.
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
حيدر حب الله
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي آل محسن
الشيخ مرتضى الباشا
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
العبادة والتّعلّم
آداب التّكسّب
طرق إثبات النبوة الخاصة
المخاطر الحقيقية للاعتقاد بعلاجات غير معتمدة طبيًّا
الرّكب الحسينيّ في المدينة المنوّرة (1)
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (4)
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (2)
لمن يكتب الفيلسوف؟
عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (1)