النموذج الرابع: المتثاقلون عن الجهاد!
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾(1).
الخطاب في الآية المباركة موجَّه للمؤمنين وليس للمنافقين، وعليه كيف يستقيمُ وصف مَن نعتتهم هذه الآية بالتثاقل عن الجهاد والخلود إلى الدِّعة والمتاع، كيف يستقيمُ وصف مثل هؤلاء بالأشدَّاء على الكفَّار، وكيف يكون مثل هؤلاء المتقاعسين هم المثل الذين أشاد الله تعالى بهم في التوراة والإنجيل ووصفهم بالزرع الذي أخرج شطأه فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزراع، فالمتعيَّن هو أنَّ مَن وصفهم بالتثاقل عن الجهاد والمعصية لأمر رسوله الله (ص) واستنفاره هم غير أولئك الذين وصفهم القرآن بالأشدَّاء على الكفار، إذ لا يستقيم أن يكون المعنيُّ بالمدح والثناء والمعنيُّ بالذم والتقريع جماعة واحدة بعد أن كان متعلَّق المدح هو الشدَّة على الكفار وكان متعلَّق الذم هو التثاقل عن جهاد الكفَّار.
النموذج الخامس: المنشغلون باللهو والتجارة عن الصلاة!
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾(2).
روى البخاري في صحيحه عن جابر قال: أقبلت عير ونحن نصلِّي مع النبيِّ (ص) فانفضَّ الناس إلا اثني عشر رجلاً فنزلت هذه الآية ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا﴾(3).
وروى ابن حبَّان في صحيحه بسنده عن جابر قال: بينا النبيُّ (ص) يخطب يوم الجمعة، وقدمت عيرٌ المدينة فابتدرها أصحابُ رسول الله (ص) حتى لم يبقَ معه إلا اثنا عشر رجلاً، فقال رسول الله (ص): "والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم احد لسال لكم الوادي نار"، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾(4).
والروايات في ذلك كثيرة ذكرها أكثر المحدِّثين وهي تعبِّر عن عدم تميِّز أصحاب النبي (ص) عن غيرهم، فهم كسواد الناس يشغلُهم اللهو والتجارة عن العبادة والصلاة، ومثل هؤلاء لا يصحُّ وصفهم بما ورد في قوله: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾(5).
وكذلك لا يصح وصفهم بقوله تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(6).
فقولُه تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ يعبِّر عن أنَّ ذلك هو ديدنُهم كما هو مقتضى التعبير بالفعل الماضي بعد أداة الشرط، إذ انَّ ظاهر ذلك هو انَّهم كلما رأوا تجارة أو لهواً تبادروا إليها غير عابئين بالصلاة وبقيام النبيِّ (ص) فيهم خطيباً، فإذا كان هذا شأنُهم والنبيُّ (ص) قائماً خطيباً أو إماماً فما عساه يكون شانُهم حين لا يكون الرسول (ص) هو الخطيب والإمام.
والذي يؤكِّد ذلك ما ورد في بعض الروايات من أن هذه الحالة قد تكررت منهم وبعد ذلك نزلت الآية الكريمة، فقد نقل الثعلبي عن قتادة ومقاتل قالا: بلغنا انَّهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، وكلُّ مرَّة بعير من الشام وكل ذلك يوافق يوم الجمعة(7).
وقال جابر بن عبد الله: كان الجواري إذا نُكحوا يمررن بالمزامير والطبل فانفضُّوا إليها فنزلت هذه الآية(8). وورد في بعض الروايات أنَّ الذين يخرجون بعضهم يُريد أن يشتري وبعضهم يريد أنْ ينظر(9).
وكلُّ ذلك يُؤكِّد ما هو مستظهر من الآية المباركة وهو أنَّ في أصحاب الرسول (ص) مَن يستخفُّهم اللهو وتشغلُهم التجارة عن الصلاة وإنَّ فيهم من لا يهمُّه كثيراً مقام النبيِّ (ص) وحديثه، ومثل هؤلاء ليسوا مشمولين جزماً لقوله تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(10).
النموذج السادس: الفاسق في آية النبأ!
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(11). فقد ذكر أكثرُ المفسِّرين والمحدِّثين(12) أنَّ الآية المباركة نزلت في الوليد بن عقبة بعد أن ادَّعى كذباً على بني المصطلق أنَّهم منعوه الزكاة التي بُعث من قبل الرسول (ص) لقبضها منهم وادَّعى أنَّهم أرادوا قتله وأنَّهم ارتدُّوا والحال أنَّه لم يذهب إليهم وإنَّما ادّعى عليهم ذلك كذباً وبهتاناً.
فهل يصحُّ بعد ذلك أن نقولَ إنَّ مثل هذا الرجل الذي هو من الصحابة مشمولٌ للمدح الوارد في قوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ فأيُّ رحمةٍ وشفقة انطوت عليه سريرة هذا الرجل وقد كاد يُهلك بادِّعائه قوماً من الصحابة لم يكونوا قد اجترحوا الذنب الذي افتراه عليهم.
فإذا لم يكن مثل الوليد مشمولاً للمدح الوارد في الآية المباركة فذلك يقتضي أن لا يكون الإطلاق مُراداً منها، إذ إنَّ الموجبة الكلية تنتقض بالسالبة الجزئيَّة.
النموذج السابع: الكارهون للجهاد!
قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ / يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ / وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ..﴾(13).
هذه الآيات نزلت بعد ما عقد النبيُّ (ص) العزم على مواجهة قريش في بدر، وهي صريحةٌ في أنَّ فريقاً من المؤمنين ممَّن كان مع النبيِّ (ص) كانوا كارهين للحرب وانَّ كراهتهم لها بلغت حداً بحيث صحَّ وصفُهم بأنَّهم يشعرون وكأنهم يُساقون إلى الموت وهم ينظرون، وذلك تعبيرٌ عن الخوف الذي تمكَّن من قلوبهم، فرغم أنَّ النبيَّ (ص) قد أوضح لهم أنَّ مواجهة قريش حقٌّ وأنَّ لهم النصر في هذه الحرب(14) إلا أنَّ ذلك لم يبعث الطمأنينة في قلوبِهم لذلك أخذوا يُجادلون الرسول (ص) ليصرفوه عن قرار الحرب، فهل يستقيمُ وصف هؤلاء بالأشدَّاء على الكفَّار، وهل الشدَّة تعني العنف بعد الغلبة؟! أو هي شدَّةُ البأس والجلَد ورباطةُ الجأش والصبرُ على مقارعة الأعداء والحرصُ على إلحاقِ الهزيمة بهم وإدخالِ الوهن عليهم، فإذا كان الأمر كذلك فما هو نصيب هؤلاء من هذه الخصال وقد كانوا يودُّون أنَّ غير ذات الشوكةِ تكون لهم، فلم تكن لهم في الحرب رغبة رغم تبيُّن الحقِّ ورغم الوعد الإلهيِّ بالنصر المُفضي بطبعِه لوهن الكافرين.
فالرغبةُ في الدِّعة واغتنام القافلة كانت أحظى عندهم من إيقاع الهزيمة بالكافرين، فأين هي الشدَّة التي مدح اللهُ تعالى بها مَن كان مع النبيِّ الكريم (ص)، وهل يصحُّ وصفُ الرعديد الذي يرى الحرب سَوقاً للموت صبراً هل يصحُّ وصفُ مثلِ هذا بالشدَّة؟!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة التوبة / 38.
2- سورة الجمعة / 11.
3- صحيح البخاري -البخاري- ج225، ج3 ص7، ج63،6، مسند احمد -احمد بن حنبل- ج3 / ص270، السنن الكبرى -البيهقي- ج3 ص182، سنن الدارقطني -الدارقطني- ج2 / ص4.
4- صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج15 / ص300، مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج3 / ص468، صحيح ابن خزيمة -ابن خزيمة- ج3 / ص174، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص10، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص78، الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص220.
5- سورة النور / 37.
6- سورة الفتح /29.
7- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص318، تفسير القرطبي -القرطبي- ج18 / ص11، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز -ابن عطية الأندلسي- ج5 / ص309.
8- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص318.
9- الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص220، فتح القدير -الشوكاني- ج5 / ص229، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص87، تحفة الأحوذي -المباركفوري- ج9 / ص149، صحيح ابن خزيمة -ابن خزيمة- ج3 / ص174، تفسير الآلوسي -الآلوسي- ج28 / ص104.
10- سورة الفتح / 29.
11- سورة الحجرات / 6.
12- مسند أحمد - أحمد بن حنبل- ج4 / ص279، مجمع الزوائد -الهيثمي- قال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، ورواه أيضًا بطرق أخرى وألسنة مختلفة ج7 / ص108، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص275، ج23 / ص401، الاستيعاب -ابن عبد البر- ج4 / ص1553، تفسير مجاهد -مجاهد بن جبر- ج2 / ص606، تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج3 / ص259، تفسير القرآن -عبد الرزاق الصنعاني- ج3 / ص231، جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج26 / ص162،159، تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج3 / ص308، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج9 / ص77، أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص261، تفسير السمعاني -السمعاني- ج5 / ص217، الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج6 / ص88، وغيرهم كثير.
13- سورة الأنفال / 5-7.
14- وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾.
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد صنقور
محمود حيدر
حيدر حب الله
الشيخ شفيق جرادي
السيد عادل العلوي
الشيخ مرتضى الباشا
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
الرضا (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون
﴿محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ..﴾ مناقشة في الإطلاق (2)
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (3)
الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (4)
توقيع ثلاث روايات لثلاث كاتبات في الدّمّام
حديث حول أسرار النّجاح في العلاقة الزّوجيّة
رحيل النّبوّة: بسملة رزايا فاطمة
(قلوب عمياء في وسط صمتهم) جديد الكاتبة ولاء الشيخ أحمد
إدارة سلوكيّات الأطفال، محاضرة للمدرّب آل عبّاس في برّ سنابس
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (2)