الشيخ جعفر السبحاني ..
إنّ القرآن الكريم يدعونا إلى التفكّر والتدبّر والنظر في آيات اللّه في عالم الطبيعة والخلق ويعتبر مثل هذا النظر والتفكّر جديراً بأهل الفكر والألباب وأصحاب الضمائر الحية والعقول السليمة.
والآيات القرآنية في هذا المجال من الكثرة بحيث لا يمكننا نقل عُشرها في هذه الصفحات القلائل ، ولذلك سنقتصر على إيراد نماذج معدودة منها ، ثم نتحدث عن أهداف هذا القسم من الآيات فيما بعد.
وإليك الآن هذه النماذج التي وعدناك بها : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ).
هذه الآية تدعونا إلى التدبّر في أُمور عديدة :
1. النظر في العالم من أرض وسماء واختلاف الليل والنهار.
2. التدبّر في أمر صناعة السفن ، والتدبّر في منافعها الاقتصادية.
3. التفكّر في الكائنات الجوية ، كالرياح والسحاب والمطر ، وعلل تكوّنها.
4. التدبّر في الأحياء والدواب التي تعيش على وجه البسيطة ، والذي يؤلِّف أساس علم الأحياء.
إنّ للتدبّر في هذه الأُمور والأشياء نتائج مهمة ، ويمكن أن يكون منشأ لمعرفة سلسلة من المعارف والعلوم.
فماذا تهدف هذه الآية من دفعنا إلى التدبّر في هذا النظام البديع؟
هل تهدف إلى أن نهتدي من التدبّر في هذا النظام البديع إلى مبدعه وصانعه؟
أو أن نتعرّف على صفاته تعالى من هذا السبيل كالقدرة والعلم؟
أمّ أنّ الهدف هو شيء ثالث وهو : أن نوحّده في العبادة بعد أن وقفنا على أنّه سبحانه هو خالق هذا النظام البديع وتعرفنا على مدى علمه ، فتكون هذه الآية في الحقيقة دعوة إلى « التوحيد العبادي ».
هذه الاحتمالات الثلاثة ليست مطروحة في هذه الآية فحسب ، بل هي مطروحة ومحتملة في كل الآيات التي تشير إلى النظام الكوني والقدرة الإلهية الكبرى في عالم الطبيعة.
( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغشِي الَّليلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ).
هذه الآية تدعونا إلى التدبّر والنظر في أُمور معينة ، ومن المعلوم أنّ للتدبّر في هذه الأُمور نتائج مختلفة متنوعة :
وأمّا هذه الأُمور فهي :
1. كيف امتدت الأرض واتّسعت؟
2. كيف ولماذا وجدت الجبال والأنهار في الأرض ؟
3. كيف خلقت الثمار أزواجاً؟
4. كيف يختلف الليل والنهار ؟
إنّ التدبّر في هذه الأُمور كما يمكن أن يقودنا إلى معرفة وجود اللّه سبحانه ، كذلك يدلّنا على علم اللّه وقدرته ، وكذا على وحدانية مدبّر الكون أيضاً ، ذلك لأنّ وحدة النظام وترابط أجزائه يكشف عن حاكمية إرادة واحدة على عالم الكون ، ولو كان هناك آلهة متعدّدون لتعرض هذا النظام للفوضى والفساد والتبعثر ....
كما أنّ التعرف على مركز القدرة وصاحب التدبير الحقيقي من شأنّه أن يوقظ ضمائرنا ويدفعنا ـ بالتالي ـ إلى عبادة هذا الخالق الحقيقي والمدبّر الواقعي للكون دون سواه.
( وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ ).
هذه الآية تدعونا إلى التدبّر في الأُمور التالية :
1. الأرض رغم كونها متصلة ببعضها ، فإنّ قسماً منها صالح للزراعة ، وقسماً آخر غير صالح للزراعة ، منها الخصب ، ومنها الجدب ، فما هو السبب؟
2. في كثير من المزارع والبساتين توجد ثمار متنوعة ومختلفة ، من عناقيد العنب وأعذاق التمر ، وسنابل القمح إلى غير ذلك من ألوان الثمر والنباتات.
فلماذا ـ ترى ـ هذا التنوّع والاختلاف في الألوان ، والتراب واحد ، والماء واحد ، وأشعة الشمس تتساقط على الجميع بصورة متساوية ، والمنطقة واحدة ، والظروف كذلك واحدة؟
3. رب ثمار بستان واحد تختلف فيما بينها في النوعية والجودة ، فلماذا ذلك؟
إنّ التدبّر والنظر والتفكير في هذه الأُمور الثلاثة لا ريب تستتبع نتائج هامة ثلاث :
أ. أنّ هذه المشاهد الجميلة للبساتين التي تمثّل معرضاً طبيعياً لأجمل اللوحات تكشف ـ ولا ريب ـ عن وجود صانع وخالق رسم بريشته الخفية هذه النقوش الرائعة الجمال في صفحة هذه البساتين الزاهية المناظر.
ب. أنّ هذه المعارض الجميلة ذات النقوش المتناسقة تكشف ـ أيضاً ـ عن علم صانعها وقدرته المطلقة.
ج. أنّ صاحب هذه النقوش البالغة الروعة وهذه المعارض والمشاهد الجميلة هو اللّه فهو الذي أوجد هذه المعارض والنقوش ، فلماذا إذن لا نعبده وحده ، ولماذا نعبد سواه مما لا يكون لا خالقاً ولا مدبّراً.
إنّ الآيات التي تتضمن بيان النظام الكوني البديع والسنن الإلهية في عالم الطبيعة التي لا تقبل تحويلاً ، وتغيراً ، من الكثرة والوفور بحيث لا يمكن نقلها جميعاً في هذه الصفحات ، ولكنّنا عرّفنا القارئ الكريم على نماذج منها ، ولمزيد الاطّلاع يراجع « المعجم المفهرس » مادة : « آية ».
فمثلاً ذكرت في سورة الروم دلائل وجود اللّه في ست آيات ، وكلها تبدأ بكلمة : ( وَمِنْ آياتِهِ ) ، وإليك فيما يلي هذه الآيات نصاً : ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوم يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِه ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجونَ ).
لا شك أنّ هذه الآيات تتركز ـ في الأكثر ـ على إيقاظ الوجدان البشري وتوجيهه إلى صفات اللّه ، والتأكيد على أنّه هو الإله الواحد العالم القادر المدبّر الرحيم.
وقد ذكرت هذه النتائج في ذيل الآيات ، التي تبدأ في القرآن بكلمة ( وَمِنْ آياتِهِ ).
وفي سورة النحل توجد سلسلة من الآيات التي تشير هي أيضاً إلى جوانب من النظام الكوني العجيب البديع وكيفية انتفاع البشر بها ، وتبدأ هذه الآيات بقوله : ( هُوَ الَّذِي ) : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذِلَكَ لآيَةً لِقَوم يَتَفَكّرونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللّيلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومُ مُسَخَّراتٌ بأمرِهِ إنَّ في ذلك لآيات لقوم يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحَرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعلامَات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ).
ثم يستنتج القرآن من كل ذلك بقوله : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) ، إنّ هذه الآية الأخيرة تكشف عن أنّ الهدف من تلك الآيات هو الدعوة إلى التوحيد « العبادي » ، ولأجل ذلك صدرت الآية الحاضرة بفاء النتيجة ، لأنّ بعض مشركي العرب رغم علمهم بأنّ اللّه هو الخالق والمدبّر للكون ، كانوا يعبدون آلهة مدّعاة مصطنعة ، ولذلك يعني التذكير بمظاهر القدرة الإلهية في عالم الطبيعة ، إيقاظ ضمائرهم الغافلة ، وإثارة عقولهم الغافية ، كيما يتذكروا أنّ العبادة لا تصح إلاّ للّه سبحانه دون سواه ، وأنّ ما يعبدون من دونه عاجزون ضعفاء لا يملكون ضراً ولا نفعاً.
وقد يكون الهدف من التذكير بالنظام الكوني البديع هو التمهيد لطرح موضوع المعاد والحياة الأُخرى ، لكي لا ينكر الإنسان المعاد ، أو لا يستبعد وقوعه بعد وقوفه على مظاهر وآثار القدرة الإلهية في عالم الكون ، إذ صرح سبحانه بهذا الاستنتاج بقوله : ( ... ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعوةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) .
وعلى هذا الأساس فإنّ الاستدلال بهذه الآيات على وجود اللّه يجب أن يكون بصورة ضمنية لا بصورة أنّه الهدف الأصلي لها ، لأنّه إذا كانت أجزاء هذا الكون ، من صغيرها إلى كبيرها ، من دقيقها إلى جسيمها ، تشهد بثبوت صفة القدرة والعلم للّه تعالى ، وإذا تعرفنا من خلالها على جماله وكماله سبحانه ، فإنّ من القطعي البديهي أن تهدينا إلى « أصل وجوده » ، ويثبت لنا ذلك بما لا يقبل الشك ، كما تهدينا إلى أنّه المعبود دون غيره ، وأنّه وحده يستحق العبادة.
إنّ الطريق الواضح لمعرفة اللّه والذي يتناسب مع أذهان كل الطبقات هو « البحث حول أنظمة الكون الدقيقة العجيبة البديعة » التي تشهد بلسان حالها على وجوده وتوحيده وسائر صفاته العليا :
وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبد الجليل البن سعد: القيم والتقوى: ركائز الأمان والتمييز في بحور النفس والمجتمع
عبور لنهر هيراقليطس، أمسية لهادي رسول في الخبر
برنامج أسريّ بعنوان: (مودّة ورحمة) في جمعيّة تاروت الخيريّة
المشكلة الإنسانية، جديد الدكتور حسن العبندي
الأسرة الدافئة (2)
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (2)
حبيبة الحبيب
السيدةُ الزهراءُ: دُرّةَ تاجِ الجَلال
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (1)
نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته