الشيخ محمد هادي معرفة ..
فقد جيئ بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدعوى وبالآخر دعامة لها وبرهاناً عليها، وهذا من جميل الكلام وبديع البيان ومن الوجيز الوافي.
وقال تعالى بصدد بيان لا نهائية فيوضه عزت آلاؤه ﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله﴾ سورة لقمان/27.
هذه مقارنة بين المحدود واللامحدود وأن المحدود مهما بلغ عدده وتضخم حجمه فإنه لا يُقاس بغير المحدود.. إذ ذاك ينتهي وهذا لا ينتهي ولا مناسبة بين ما ينتهي إلى أمد مهما طال أو قصر وما يمتد إلى ما لا نهاية أبداً.
والكلمة في هذه الآية يُراد بها الوجود المفاض بأمره تعالى المتحقق بقوله (كن) قال تعالى ﴿إنما امره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ سورة يس / 82.
وكل موجود في عالم الخلق وهو ما سوى الله فهو كلمته تعالى كما أطلق على المسيح عليه السلام كلمة الله ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ سورة النساء / 171.(5)
والمعنى أنه لو الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً ليكتب بها كلمات الله لنفدت الأقلام والمداد قبل أن تنفد كلمات الله لأنها غير متناهية وذلك لأن كلماته تعالى إفاضات، ولا ينتهي فيضه تعالى إلى أمد محدود أبداً.
وقال تعالى رداً على احتجاج اليهود ﴿وإذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم﴾ سورة البقرة /91.
امتنعت اليهود من اعتناق الإسلام بحجة أنهم على طريقة نبيهم موسى عليه السلام وعلى شريعته وذلك لا يمكنهم اتخاذ سيرة أخرى والإيمان بشريعة سواها.
هذا اعتذار زعمت اليهود وجاهته في منابذة الإسلام وقد فنّد القرآن هذا التذرع الكاسد والاحتجاج الفاسد.
إذ لا منافرة بين الشريعتين ولا منافاة بين الطريقين والكل يهدف مرمى واحداً ويرمي هدفاً واحداً.. وقد جاء الأنبياء جميعاً لينيروا الدرب إلى صراط الله المستقيم، صراطاً واحداً وهدفاً واحداً لا تنافر ولا تنافي ولا تعدد ولا اختلاف.
والدليل على ذلك أن هذا القرآن يصدق بأنبياء سالفين وبشرائعهم وكتبهم وما بلّغوا من رسالات الله.. ولو كان هناك تناف وتنافر لما صح هذا التصديق.
وقد جاء هذا التصديق بلفظة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ في ثمانية مواضع من القرآن (البقرة/97 ، وآل عمران/3 والمائدة/478 والأنعام/92وفاطر/ 3ا ولأحقاف/30).
وبلفظة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ في موضعين (البقرة/89 و 101)
وبلفظة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ في أربعة مواضع (البقرة/41و91. وآل عمران/11والنساء/47).
ومن ثم قال ﴿إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾.
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾.
﴿وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد أهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد﴾ سورة آل عمران/20.
وفي الآية وما يتعقبها نكات وظرف دقيقة منها قوله ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أو ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ في آية أخرى وهذا تنويه بأن المتبقي من التوراة ليس كلها وإنما هو بعضها لكنه لم يقل ﴿لما بقى من التوراة عندكم﴾ وعبّر بما معكم.. لئلا يتنبه اليهود إلى ذريعة أخرى لعلهم يتذرعون بها.. هو أن المنافرة إنما كانت بين القرآن وما ذهب من التوراة فيجادلون الإسلام بهذه الطريقة وهي طريقة أخذ ما تسالم الخصم دليلاً عليه.
ولم يقل ﴿مصدقاً بالتوراة عندكم﴾ لأنه حينذاك كان اعترافاً بأن الموجود هو تمامها لا بعضها.
فأتى بما لا يمكنهم المخاصمة جدلاً ولا كان اعترافاً بصدق ما عندهم أنه توراة كله وهذا من دقيق التعبير الذي خص به القرآن الكريم.
وأيضاً في التعقيب بقوله (فلمَ تقتلون أنبياء الله-91) نسبة القتل إليهم بالذات، لأنهم رضوا بفعل آبائهم ومشوا على طريقتهم ولو قال: فلم قتل آباؤكم... لكان فيه حديث أخذ الجار بذنب الجار، وكان أشبه بمحاجة الذئب عدا على جمل صغير بحجة أن أباه قد عكر الماء عليه في قناة كان يشرب منها..(6)
إقناع العقل وإمتاع النفس:
ميزة أخرى في احتجاجات القرآن هو حينما يحاول إخضاع العقل ببراهينه المتينة تراه لا يتغافل عن إمتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة ورقائق بيانه العذبة السائغة جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى سهلاً سلسا ًيستلذه الذوق ويستطيبه الطبع عذباً فراتاً لذة للشاربين.
إن للنفس الإنسانية جهتين: جهة تفكير يكون مركزه العقل، وجهة إحساس يكون مركزه وجدان الضمير وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها، فأما إحداهما فإنها تنقب عن الحق لمعرفته أولاً، وللعمل به ثانياً وأما الأخرى فإنها تحاول تسجيل أحاسيسها بما في الأشياء من لذة وألم ومتعة وغذاء للنفس.
والبيان التام هو الذي يوفي لك للحاجتين جميعاً ويطير بنفسك بكلا الجناحين فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباع غريزتها في عواطف الإحساس.
أما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك ولا يهمهم جانب استهواء نفسك ونهم عاطفتك يقدّمون حقايق المعارف والعلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع.
وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك وإمتاع سمعك وضميرك فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غياً أو رشداً وأن يكون حقيقة أو تخيلاً فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون﴾(7).
ولا تتكافأ القوتان: قوة التفكير وقوة الوجدان.. وكذا سائر القوى النفسية على سواء..
ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فإنها لا تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة.. بل متناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت قوة اضمحلت أخرى وكاد ينمحي أثرها.. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يسعى وراء لذائذه عند ذاك تضعف قوة تفكيره.. وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً. ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾(8).
وكيف تطمح أن يهب لك إنسان مثلك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء، وما كلام المتكلم إلا إنعكاس الحالة الغالبة عليه ﴿وكل إناء بالذي فيه ينضح﴾. ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾(9)، وفاقد الشيء لا يستطيع أن يمنحك به.
هذا مقياس يمكنك أن تتبين فيه ما لكل لسان وما لكل قلم من قوة غالبة عليه، حينما ينطق وحينما يكتب فإذا رأيته يتجه إلى حقيقة فرغ له بعدما قضى وطره مما مضى عرفت بذلك أنه يضرب بوترين، ويتعاقب على نفسه الشعور والتفكير تعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.
وأما أن أسلوباً واحداً يتجه اتجاهاً واحداً ويستهدف هدفاً واحداً ويرمي إلى غرض واحد ولكنه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين قناع عقلك وإمتاع نفسك معاً وفي آن واحد وفي كلام واحد..كما يحمل العنصر الواحد من الشجرة الواحدة أوراقاً وأثمارا ً، أنواراً وأزهاراً أو كما يجري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر على الإطلاق ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ من قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾.
فمن أين لك بكلام واحد وبيان واحد وأسلوب واحد يفيض عليك من الحقيقة البرهانية والدلائل العقلانية بما يرضي أولئك الفلاسفة الحكماء والمتعمقين النبلاء ويرضخ بعقولهم الجبارة.
وإلى جانب ذلك وفي نفس الوقت يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبة والحلاوة والطلاوة ما يسد نهم هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواق الرقيقة الفكهين.
وكل إنسان حينما يفكر فإنما هو فيلسوف وكل إنسان حينما يحس فإنما هو شاعر ذلك هو الله رب العالمين الذي لا يشغله شأن عن شأن، القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان واحد وأن يمزج الحق والجمال جميعاً يلتقيان ولا يبغيان فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.. ويسقيك من هذا وذاك شراباً طهوراً عذباً فراتاً سائغاً لذة للشاربين.
هذا هو الذي تجده في كتاب الله الكريم حيثما توجهت وأينما توليت بوجهك إنه في فسحة قصصه وأخباره عن الماضين لا ينسى حق العقل من حكم وعبر وأنه في مزدحم براهينه ودلائله لا يغفل حظ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء، يبث ذلك بوفرة شاملة في جميع آياته وبيناته في مطالعها ومقاطعها وتضاعيفها الأمر الذي ﴿تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله﴾(10) ﴿وإنه لقول فصل وما هو بالهزل﴾(11).
ــــــــــــــــ
5- راجع الميزان ج16 ص245.
6- راجع النبأ العظيم ص 117.
7- سورة الشعراء / 224.
8- سورة الأحزاب / 4.
9- سورة الإسراء / 84.
10- سورة الزمر/23.
11- سورة الطارق/14.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا