قرآنيات

الوحـي (2)

السيد رياض الحكيم

 

وقد تنبّه الى أهمية الوحي ـ ولو ضمن تصوره ـ الفيلسوف الفرنسي المعروف جان جاك روسو، فقال: "... لاكتشاف أفضل أنواع قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم، لابدّ من توفّر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعاني من أي هوى، ولا تكون له أيّة علاقة مع طبيعتنا، لكنّه يدركها حتى أعماقها وتكون سعادته مستقلة عنّا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيراً كيف يستطيع هذا العقل ـ وهو يراعي مجداً بعيداً لنفسه في تقدّم العصور ـ العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر.

وبعبارة أخرى لابدّ من آلهة، لتمنح القوانين للبشر... ولكن لا يحقّ لكلّ انسان أن يجعل الآلهة تتكلّم، ولا أن يكون مصدَّقاً عندما ينبىء الناس أنّه ترجمانها فإنّ روح المشرّع العظيمة هي المعجزة التي يجب أن تثبت رسالته... إنّ الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون ما برحت تنبىء حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيّز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فإنّ السياسة الحقيقية تُعجَب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تُشرف على منشآتهم الدائمة".

 

4 ـ كيفية وحي القرآن

بعد ملاحظة المعاني السّابقة للوحي والطرق المختلفة للإيحاء يبدو من بعض آيات القرآن والنصوص والأحداث التاريخيّة أنّ القرآن الكريم أُنزل على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق أحد الملائكة المقرّبين وأنّه جبرئيل(عليه السلام)، قال تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنّه نزّله على قلبك بإذن الله). (وإنّه لتنزيل ربّ العالمين * نزل به الرّوح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين). وقال عزَّ من قال: (قل نزّله روح القدس من ربّك بالحقّ ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين).

وقد نصّت بعض التفاسير على أنّ المقصود من روح القدس هو جبرئيل(عليه السلام).

لكن مجموعة من الباحثين يرون أنّ بعض القرآن قد أوحي إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) بشكل مباشر من دون توسط جبرئيل، ويستشهدون ببعض النّصوص المروية، إلاّ أنّ الملاحظ ـ بالإضافة إلى ضعف سند أكثرها ـ أنّها ليست صريحة في وحي القرآن. فلا تصلح دليلاً واضحاً في مقابل هذه الآيات القرآنية الكريمة وغيرها، والله العالم.

 

5 ـ تحديد الـمُنزل بالوحي

من الواضح أنّ الذي أُنزل على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن الكريم بلفظه ومعناه، ويفترض أن لا يكون هناك ريب أو تردد في ذلك، ويكفي شاهداً على ذلك مجموعة من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك)، وقوله تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه).

ولكن نسب إلى الأحناف رأي غريب، وهو أن القرآن الكريم اسم للمعنى فقط وليس اسماً للنظم والمعنى معاً. ويبدو أنّهم اختلفوا على قولين:

أولهما: إن جبريل إنّما نزل بالمعاني خاصة، وإنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب.

وثانيهما: إنّ جبريل ألقى إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) المعنى، وإنّه(صلى الله عليه وآله وسلّم) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وإنّ أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم نزل به جبرئيل كذلك بعد ذلك.

ولكنّ تفاهة هذا الرأي وما تفرّع عليه تغني عن مناقشته. كيف! وقد قال تعالى ـ مخاطباً نبيّه ـ (لا تحرك به لسانك لتعجل به* إنّ علينا جمعه وقرآنه * فاذا قرأناه فاتّبع قرآنه). حيث يدل على أن آيات القرآن بألفاظ محدّدة مقروءة.

وقد قيل إن أبا حنيفة رجع عمّا أوجب ذلك "وإن القرآن الكريم عند الحنفية عموماً وأبي حنيفة خصوصاً اسم للنظم والمعنى جميعاً كما هو الشأن عند الأمة كلها".

 

6 ـ شبهات حول الوحي

تعرّض الوحي ـ لكونه من الظواهر غير المألوفة للإنسان ـ إلى مجموعة من الشبهات والتساؤلات. وفي عصر النهضة المادية فى أوروبا واجه الباحثون الغربيون قضية الوحي بنظرة الريب بل الإنكار، ومن خلاله طعنوا في الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) ورسالة الإسلام.

وهذا الموقف منهم لا ينطلق من موقف سلبي خاص تجاه الوحي، بل يرتبط بنظرتهم العامّة لما وراء الطبيعة حيث إنّ أكثرهم حصروا الوجود بعالم المادّة، فمن الطبيعي أن يتنكّروا لما وراءه، وهم على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: المتطرفون الذين يتّهمون النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) بالافتراء بهدف تحقيق مكاسب ومصالح دنيوية، مثل السلطة والشهرة.

الصنف الثاني: المعتدلون الذين يرون النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) عبقرياً ذا شخصية نزيهة وطموحة، رام إنقاذ قومه من حالة الانحطاط والتخلّف التي كانوا غارقين فيها، من خلال أفكاره السامية التي كان يحملها، ونتيجة لإدراكه تخلّف قومه وعدم تفاعلهم مع أفكاره الإصلاحية قرّر الإيحاء لهم أنّه مرتبط بالله تعالى وأنّه مرسل من قبله بهذه الأفكار والمشاريع الإصلاحية حتى يكونوا أكثر استعداداً لتقبّل هذه الأفكار والدّفاع عنها.

والبعض من هؤلاء الغربيين يتعاملون مع كل الأنبياء على أساس هذه الفكرة، ولا يخصّون نبيّ الإسلام بذلك.

والحقيقة أنّ هذه الأفكار والشبهات ليست مستحدثة وإنّما اقترنت ببداية بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته، فقد واجهه قومه بهذه التهم الباطلة ورفضوا ارتباطه بالله تعالى، ولذلك نجد القرآن الكريم يردّ عليهم بتأكيد هذا الارتباط في مواضع عديدة من زوايا مختلفة وبصيغ متنوّعة، فتارةً يتحدّى الإنس والجن من أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وأخرى يؤكد على ارتباط الرسول بالوحي وأنّه لا يملك الخيارات، وأخرى يحاججهم بانتظام القرآن وعدم الاختلاف فيه.. وغير ذلك، مثل قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين).

(قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

(أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).

(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لاريب فيه من ربّ العالمين).

(ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين).

(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى * علّمه شديد القوى).

ويمكن مناقشة هؤلاء المنكرين بما يلي:

أ: الوجوه المتقدمة التي تثبت إعجاز القرآن وأنّه ليس من إنشاء البشر.

ب: الأدلة والشواهد المثبتة لعالم الروح، وعدم حصر الوجود بالعالم المادّي.

ج: استقامة النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل البعثة وبعدها وتحمّله المشاق والمصاعب في سبيل نشر رسالة الإسلام، حتى أثر عنه قوله: "ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُذيت"، إضافةً للأدلة الدالة على علمه بالمآسي التي تواجه أهل بيته، ممّا يكشف أنّه لم يكن يقوم بدور مزيّف، بل هو مكلّف من ربّه بتبليغ الرسالة مهما كلّف الثمن، كسائر الأنبياء والرسل الذين تحمّلوا من قومهم ما تحمّلوا في سبيل أداء رسالتهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد