قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

إعجاز القرآن الكريم

تمهيد

.... القرآن الكريم كلام إلهيّ معجز، فهو يملك كلّ خصائص المعجزة (من كونه خارقاً إلهيّاً للعادة، وأنّه لا يقبل التّقليد والمعارضة، وطرحه دليلاً على صحة النّبوّة). ومن هنا فهو أفضل دليل قاطع على صدق دعوى النّبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعلى حقانيّة الدّين الإسلامي المقدّس، وأنّ من أكبر النّعم الإلهيّة على الأمّة الإسلاميّة أن يكون هذا الكتاب الشّريف قد نزل بصورة يبقى معها - وإلى الأبد - معجزة خالدة، وأن يملك في داخله الدّليل على صدقه وصحَّته واعتباره. هذا الدّليل الّذي يمكن لأيّ فرد فهمه واستيعابه وتقبّله دون احتياجه لتعلّم وتخصّص.

 

عناصر الإعجاز في القرآن الكريم

بعد المعرفة الإجماليّة بأنّ القرآن الكريم كلام إلهيّ معجز، لا بدّ من توضيح بعض عناصر الإعجاز القرآنيّة.

1. فصاحة القرآن وبلاغته: إنّ أوّل عنصر من عناصر الإعجاز في القرآن الكريم هو فصاحته وبلاغته، أي أنّه -تعالى- استخدم لعرض مقاصده وفي كلّ موضوع أعذب الألفاظ وأجملها، وأجود التّراكيب سبكاً واعتدالاً وإتقاناً ووقعاً، ومن خلال ذلك يوصل المعاني المقصودة للمخاطَبين بأفضل الأساليب وأقربها للفهم، ولا يتيسّر اختيار أمثال هذه الألفاظ والتّراكيب المتناسقة الملائمة للمعاني العالية والدّقيقة، إلّا لمن كانت له إحاطة تامّة بكلّ خصوصيّات الألفاظ ودقائق المعاني، والعلاقات المتبادلة فيما بينها، ليُمْكِنه اختيار أفضل الألفاظ والعبارات، مع ملاحظة كلّ أبعاد المعاني المقصودة وجوانبها، وملاحظة مقتضى الحال والمقام. ومثل هذه الإحاطة العلميّة الشّاملة لا يمكن توافرها في أيّ إنسان بدون الاستعانة بالوحي والإلهام الإلهيّ.

وأمّا التّعرف إلى أنّه معجزة في الفصاحة والبلاغة، فلا يتيسّر إلّا لأولئك الّذين يملكون الخبرة والتّخصّص في فنون الكلام المختلفة، ومقارنة ما يتميّز به القرآن الكريم مع سائر أنواع الكلام الفصيح والبليغ، واختبار قدراتهم بالقياس إليه. ومثل هذه المهمّة لا يقوم بها إلّا الشّعراء والبلغاء العرب، وذلك لأنّ أعظم ما كان يتميّز به العرب من فنّ في عصر نزول القرآن هو البلاغة والأدب، إذ بلغ ذروته آنذاك.

 

إقرار واعتراف:

لقد أقرّ بلغاء العرب حتّى المشركين منهم بإعجاز القرآن، فهذا الوليد بن المغيرة المخزوميّ يقول: "والله لقد سمعتُ من محمد آنفاً كلاماً، ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة(1)، وإن أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق(2)، وإنّه ليعلو وما يُعلى(3)". وهذان المشركان عتبة بن ربيعة، والطّفيل بن عمرو قالا: بأنّ القرآن بلغ الغاية في فصاحته وبلاغته(4).

وبعد قرن من نزوله حاول بعض المنافقين والزنادقة -أمثال ابن أبي العوجاء وابن الـمُقفَّع وأبي شاكر الدّيصاني وعبد الملك البصريّ- أن يجرّبوا حظّهم في معارضة القرآن ومجاراته، وقد بذلوا كلّ ما في وسعهم خلال عام واحد في هذا المجال، ولكنّهم أخيراً اعترفوا بعجزهم أمام القرآن الكريم، وحين اجتمعوا في المسجد الحرام ليتدارسوا أعمالهم وجهودهم خلال ذلك العام، مرّ عليهم الإمام الصّادق عليه السلام وتلا عليهم هذه الآية الشّريفة: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(5).

2. أُميّة النّبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ القرآن الكريم - بالرّغم من صغر حجمه نسبيّاً - كتاب يشتمل على مختلف أنواع المعارف والعلوم والأحكام والتّشريعات الفرديّة والاجتماعية، ويحتاج البحث عن كلّ قِسم منها، ودراستها دراسة كاملة إلى جماعات متخصّصة تبذل كلّ جهودها العلميّة وخلال أعوام طويلة، ليكتشفوا - بالتدريج - بعض كنوزها وأسرارها المخبوءة، وليتوصّلوا - من خلال ذلك - إلى حقائق أكثر، وإن كان اكتشاف كلّ حقائقه وأسراره وكنوزه لا يتيسَّر إلّا لأولئك الّذين يمتلكون العلم والتأييد والمدد الإلهيّ. إنّ هذه المجالات المختلفة الّتي استعرضها القرآن الكريم تشتمل على أكثر المعارف دقّةً وسمُوّاً، وأرفع التّعاليم الأخلاقيّة وأكثرها قيمة، وأكمل القوانين الحقوقيّة والقانونيّة والجزائيّة عدالة وإحكاماً، وأثرى المناسك العباديّة والأحكام الفرديّة والاجتماعيّة حكمة، وأكثر المواعظ والنّصائح تأثيراً ونفعاً، وأفضل الحكايات التّاريخيّة عظة وتربية، وأنجع الأساليب التّربويّة والتّعليميّة.

وبإيجاز فإنّه يشتمل على كلّ الأصول والمبادئ الّتي يحتاجها البشر من أجل تحقيق سعادتهم الدّنيويّة والأخرويّة. وقد امتزج كلّ ذلك بأسلوب رائع بديع لم يسبق له مثيل، بحيث يمكن لفئات المجتمع - جميعاً - الاستفادة والتّزوّد منها، كلٌّ بحسب استعداده وقابليّته.

إنّ جمع كلّ هذه المعارف والحقائق في مثل هذا الكتاب يفوق قدرة البشر العاديّين، ولكن ممّا يزيد الدّهشة والإعجاب أكثر، أنّ هذا الكتاب العظيم ظهر على يد إنسان لم يعرف الدّرس والتّعلّم خلال حياته أبداً، ولم يُمسك - يوماً - بيده قلماً وقرطاساً، وقد نشأ في محيط بعيد عن الحضارة والثّقافة. والأعجب من ذلك أنّه لم يُسمع منه - خلال أربعين عاماً قبل بعثته - مثل هذا الكلام المعجز، وخلال أيّام رسالته وبعثته أيضاً كان ما يصدر منه من آيات قرآنيّة ووحي إلهي يتميّز بسبكه وأسلوبه الخاصّ، وهو يختلف - تماماً - عن سائر كلامه وأحاديثه، وهذا الفرق الواضح بين هذا الكتاب وسائر أحاديثه مشهود وملموس للجميع.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الأمور فيقول: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(6).

وفي آية أخرى يقول: ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(7).

وثمّة احتمال كبير في أن تكون الآية في قوله -تعالى-: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾(8) مشيرة إلى هذا العنصر الإعجازي، أي: أنّ هناك احتمالاً كبيراً في رجوع ضمير (مثله) إلى (عبدنا). والحاصل: إذا افترضنا - محالاً - قدرة المئات من الجماعات المتخصّصة والمثقّفة -وبالتعاون والاشتراك فيما بينها - على الإتيان بمثل هذا الكتاب لما استطاعوا، وبالتالي لا يمكن لفرد أميّ واحد القيام بذلك، إلّا إذا كان مؤيّداً بالوحي كما هو الحال مع النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

3. التناسق وعدم الاختلاف: إنّ القرآن الكريم كتاب نزل خلال ثلاثة وعشرين عاماً من حياة النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم، وهي فترة شهدت مرحلة مضطّربة مليئة بالحوادث الملتهبة، وزخرت بالكثير من التّحدّيات والمحن والحوادث المرّة والسّعيدة، ولكن كلّ هذه المتغيّرات والمؤثّرات لم يكن لها أيّ تأثير في تناسق محتويات القرآن وأسلوبه المعجز. ويُشكّل هذا التّناسق وعدم الاختلاف في شكله ومضمونه جهة أخرى من جهات إعجازه. وقد أُشير إليها كما أُشير إلى العلامتين السّابقتين في القرآن الكريم: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(9).

إذاً، فهذا الانسجام وعدم الاختلاف في مضامين القرآن، وفي مستوى بلاغته المعجز، يُعدّ علامة أخرى على صدور هذا الكتاب الشّريف من مصدر العلم الثّابت واللّامتناهي لله تعالى، الحاكم على الطّبيعة وغير المحكوم لكلّ الظّواهر مهما اختلفت وتغيّرت.

 

ملاحظة

لقد اقتضت الحكمة والعناية الإلهيّة أن تكون معجزة كلّ نبيّ متلائمة مع العلم والفن الشائع في ذلك الزمان، حتّى يُدرك جيّداً امتيازها وتفوّقها المعجز على كلّ المحاولات والمنجزات البشريّة، لأنّ إقرار أصحاب العلم وأرباب الفنّ بعجزهم عن مجاراة المعجزة، كافٍ في إثبات إعجازها بالنّسبة إلى عامّة النّاس. 

 

جواب الإمام الهادي عليه السلام حول تنوّع معجزات الأنبياء عليهم السلام

لقد أجاب الإمام الهادي عليه السلام ابن السكّيت عندما سأله: لماذا بعث اللَّه موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السّحر؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ؟ وبعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الأنبياء عليهم السلام بالكلام والخطب؟

فقال الإمام عليه السلام:

"إنّ اللَّه لـمّا بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السّحر، فأتاهم من عند اللَّه بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ اللَّه بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزُّمانات(10)، واحتاج النّاس إلى الطبّ، فأتاهم من عند اللَّه بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللَّه، وأثبت به الحجّة عليهم. وأن اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فأتاهم من عند اللَّه من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم"(11) .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الطلاوة: الحسن والرونق.

2 والمغدق: غدق المكان: ابتلّ بالغدق وخصب. والغدق: الماء الكثير.

3 الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان -بيروت، 1415هـ.ق - 1995م، ط1، ج10، ص178.

4 الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص27 و 28، وص49.

5 سورة الإسراء، الآية 88، وانظر تفسير (نور الثقلين) حول هذه الآية.

6 سورة العنكبوت، الآية 48.

7 سورة يونس، الآية 16.

8 سورة البقرة، الآية 23.

9 سورة النساء، الآية 82.

10 الزُّمانات: الآفات الواردة على بعض الأعضاء فيمنعها عن الحركة، كالفالج واللقوة، ويُطلق المزمن على مرض طال زمانه. (حاشيّة أصول الكافي، ج1، ص24).

11 الكافي، الشيخ الكليني، مصدر مذكور، ج1، ص24.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد