قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (3)

وقوله: ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأرجع إليه الضمير.

وإضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى وهي التحرز والتجنب عن سخطه تعالى والتورع عن محارمه أمر معنوي يرجع إلى القلوب وهي النفوس وليست هي جسد الأعمال التي هي حركات وسكنات فإنها مشتركة بين الطاعة والمعصية كالمس في النكاح والزنا، وإزهاق الروح في القتل قصاصًا أو ظلمًا والصلاة المأتي بها قربة أو رياء وغير ذلك، ولا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان والطاعة ونحوها.

 

قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ المحل بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل، وضمير فيها للشعائر، والمعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر -وهي البدن- منافع من ركوب ظهرها وشرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، والجملة في معنى قوله: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ هذا على تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام.

وأما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك ومنتهاها إلى البيت العتيق لأن آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت.

 

قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ إلى آخر الآية.

المنسك مصدر ميمي واسم زمان ومكان، وظاهر قوله: ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ إلخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة وهي العبادة التي فيها ذبح وتقريب قربان.

والمعنى: ولكل أمة -من الأمم السالفة المؤمنة- جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أمة شرعت لهم التضحية وتقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.

وقوله: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع لكم وللأمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم وإله من قبلكم إله واحد فأسلموا واستسلموا له بإخلاص عملكم له ولا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في ﴿فَإِلَهُكُمْ﴾ لتفريع السبب على المسبب وفي قوله: ﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ لتفريع المسبب على السبب.

 

وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين، وقد فسره بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون﴾َ وانطباق الصفات المعدودة في الآية وهي الوجل والصبر وإقامة الصلاة والإنفاق، على من حج البيت مسلمًا لربه معلوم.

قوله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ إلى آخر الآية، البدن بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين وهي السمينة الضخمة من الإبل، والسياق أنها من الشعائر باعتبار جعلها هديا.

وقوله: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَاف﴾ الصواف جمع صافة ومعنى كونها صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها ورجلاها وجمعت وقد ربطت يداها.

 

وقوله: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ الوجوب السقوط يقال: وجبت الشمس أي سقطت وغابت، والجنوب جمع جنب، والمراد بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها وهو كناية عن موتها، والأمر في قوله: ﴿فكلوا منها﴾ للإباحة وارتفاع الحظر، والقانع هو الفقير الذي يقنع بما أعطيه سواء سأل أم لا، والمعتر هو الذي أتاك وقصدك من الفقراء، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى﴾ مِنكُمْ  إلى آخر الآية.

بمنزلة دفع الدخل كأن متوهـمًا بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعًا في هذه الضحايا ولحومها ودمائها فأجيب أن الله سبحانه لن يناله شيء من لحومها ودمائها لتنزهه عن الجسمية وعن كل حاجة وإنما يناله التقوى نيلًا معنويًّا فيقرب المتصفين به منه تعالى.

 

أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزها عن الجسمية وعن كل نقص وحاجة ولا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فأجيب بتقرير الكلام وأن الأمر كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها وهذه الصفة المعنوية من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى وتقرب صاحبها منه تقريبًا لا يبقى معه بينه وبينه حجاب يحجبه عنه.

وقوله: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ الظاهر أن المراد بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء والعظمة، فالهداية هي هدايته إلى طاعته وعبوديته والمعنى كذلك سخرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته والتقرب إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء والعظمة على هذه الهداية.

 

وقيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة وبالهداية إلى تسخيرها، والمعنى كذلك سخرها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها.

وأول الوجهين أوجه وأمس بالسياق فإن التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام وهو تسخيرها لتضحى ويتقرب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه العبادة التي فيها رضاه وثوابه، وأما مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها لهم فلا اختصاص له بالمقام.

وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينْ﴾ أي الذين يأتون بالأعمال الحسنة أو بالإحسان وهو الإنفاق في سبيل الله.

 

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾ إلخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجري والآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة فنزلت فيه ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾ٍ يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.

أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها ورجوع الذيل إلى الصدر وكونه متمما لمعناه كما مر.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ إلى قوله ﴿وَالْبَاد﴾ قال: نزلت في قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة، وقوله: ﴿سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ قال: أهل مكة ومن جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول ودخول الحرم وفي التهذيب، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله عليه السلام هذه الآية ﴿سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد﴾ِ فقال كانت مكة ليس على شيء منها باب، وكان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور ومنازلها.

 

أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة وتحرير المسألة في الفقه.

وفي الكافي، عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ قال: كل ظلم إلحاد، وضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإلحاد.

وفيه، بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾ فقال: كل ظلم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإني أراه إلحادًا، ولذلك كان يتقي أن يسكن الحرم.

أقول: ورواه أيضا في العلل عن أبي الصباح عنه عليه السلام وفيه: ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم، وفي معنى هذه الرواية والتي قبلها روايات أخر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد