ومن دقيق تعبيره: قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) «1» زعموا زيادة الكاف هنا، فرارًا من المحال العقلي، إذ لو كانت باقية على أصلها للزم التسليم بثبوت المثل! وحاول بعضهم توجيه عدم الزيادة، بأنّه من الدلالة على المطلوب بلازم الكلام، حيث نفي مثل المثل يستلزم نفي المثل. إذ لو كان له مثل لكان لمثله أيضًا مثل، وهو اللّه تعالى، تحقيقًا لقضية التماثل.
فهو نفي للمثل بهذه الطريقة الملتوية، نظير قولهم: أنت وابن أخت خالتك. يعدّ نوعًا من التعمية في الكلام شبيهًا بالألغاز... الأمر الذي تأباه طبيعة الجدّ في تعابير القرآن.
ولكن لتوجيه هذا الكلام تأويل مشهور:
لو قيل: «ليس مثله شيء» كان المنفي هو المماثل له تمامًا وفي جميع أوصافه ونعوته وخصوصياته الكلية والجزئية، أي ليس على شاكلته التامّة شيء. وهذا يوهم أن عسى قد يوجد من يكون على بعض أوصافه، وفي رتبة تالية من المماثلة التامّة، لأنّ هذا المعنى لم يقع تحت النفي.
وعليه فكان موضع الكاف هنا، نفيًا للمماثلة وما يشبه المماثلة أو يدنو منها بعض الشيء، فليس هناك شيء يشبه أن يكون مماثلًا له تعال ، فضلًا عن أن يكون مثًلا له على الحقيقة. وهذا من باب التنبيه بالأدنى دليلًا على الأعلى، على حدّ قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) «2».
وتأويل آخر أدق: وهو أنّ الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب، إذ كان يكفي لذلك أن يقول: «ليس كاللّه شيء» أو «ليس مثله شيء». بل ترمي وراء ذلك دعم النفي بما يصلح دليلًا على الدعوى والإلفات إلى وجه حجة هذا الكلام وطريق برهانه العقلي.
ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان، فقلت: «فلان لا يكذب» أو «لا يبخل» كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها. أمّا إذا زدت كلمة المثل وقلت: «مثل فلان لا يكذب» أو «لا يبخل» فكأنك دعمت كلامك بحجّة وبرهان، إذ من كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك، لأنّ وجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع عن الاستسفال إلى رذائل الأخلاق.
وهذا منهج حكيم وضع عليه أسلوب كلامه تعالى، وأنّ مثله تعالى - ذا الكبرياء والعظمة - لا يمكن أن يكون له شبيه، وأنّ الوجود لا يتسع لاثنين من جنسه «3».
فجيء بأحد لفظي التشبيه ركنًا في الدعوى، وبالآخر دعامة لها وبرهانًا عليها. وهذا من جميل الكلام، وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.
قال الزمخشري: قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنّهم إذا نفوه عمّن يسدّ مسدّه وعمّن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه، وهذا أبلغ من قولك: أنت لا تبخل.
ومنه قولهم: «قد أيفعت لدّاته» «4» و«بلغت أترابه» «5».
وفي الحديث : «ألا وفيهم الطيّب الطاهر لدّاته».
وهذا ما تعطيه الكناية من الفائدة «6».
وقال ابن الأثير: ومن لطيف هذا الموضع وحسنه ما يأتي بلفظة «مثل»، كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: «مثلي لا يفعل هذا» أي أنا لا أفعله لأنّه إذا نفاه عمّن يماثله فقد نفاه عن نفسه لا محالة، إذ هو بنفي ذلك عنه أجدر.
وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع أنه يجعل من جماعة هذه أوصافهم وتثبيتًا للأمر وتوكيدًا. ولو كان وحده لقلق منه موضعه ولم يرس فيه قدمه «7» قال الأستاذ درّاز: واعلم أنّ البرهان الذي ترشد إليه الآية - على هذا الوجه - «8» برهان طريف في إثبات الصانع لا نعلم أحدًا من علماء الكلام حام حوله، فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدّد بإبطال لوازمه وآثاره العملية، حسبما أرشد إليه قوله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) «9» أمّا آية الشورى المذكورة فإنّها ناظرة إلى معنى وراء ذلك، ينقض فرض التعدّد من أساسه ويقرّر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار فكأننا بها تقول لنا:
إنّ حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدّد والاشتراك والتماثيل في مفهومها، كلّا، فإنّ الذي يقبل ذلك فإنّما هو الكمال الإضافي الناقص، أمّا الكمال التامّ المطلق - الذي هو معنى الإلهية - فإنّ حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيني ، لأنّك مهما حقّقت معنى الإلهية حقّقت تقدّمًا على كل شيء وإنشاء لكل شيء: (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «10» وحقّقت سلطانًا على كل شيء وعلوّا فوق كل شيء: (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «11». فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا ومسبوقًا، ومنشأً، ومُنشأً، ومستعليًا ومستعلى عليه، أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيّد فيهما، إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا، فأنّى يكون كل منهما آلـهًا، وللإله المثل الأعلى! فكم أفادتنا هذه الكاف من وجوه المعاني كلها كاف شاف، وهذا من دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم في القرآن الكريم «12».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). الشورى : 11 .
(2) الإسراء : 33 .
(3) النبأ العظيم : ص 128 .
(4) أيفع الغلام : ترعرع وناهز البلوغ ، فهو يافع . واللدّ : القرن والخصم .
(5) الأتراب : جمع ترب بمعنى المتوافق في السنّ .
(6) تفسير الكشاف : ج 4 ص 213 .
(7) المثل السائر : ج 3 ص 61 ذكره في باب الإرداف في الكناية .
(8) أي إرداف اللفظ بحجّته في أوجز كلام .
(9) الأنبياء : 22 .
(10) الأنعام : 14 ، يوسف : 101 ، إبراهيم : 10 ، فاطر : 1 ، الزمر : 46 ، الشورى : 11 .
(11) الزمر : 63 .
(12) النبأ العظيم : ص 130 .
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (7)
العلاقة بين المعجزة والوحي
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى