قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

القرآن تبيان لكل شي‏ء

﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾. [ النحل: 89]

 

يمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بيانًا لكل شي‏ء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شي‏ء»، ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع- على الأصعدة المادية والمعنوية كافة- إلى حال التكامل والرقي.

 

يتّضح لنا أنّ المقصود من كل «شي‏ء» هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية... إلخ، وإنّما القرآن دعوة حق لبناء الإنسان، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم، وصحيح أيضًا أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية، ولكن ليس ذلك الكشف هو المراد، وإنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.

 

ويشير القرآن الكريم تارة إلى جزئيات الأمور والمسائل، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض، حيث ذكر (18) حكمًا في أطول أية قرآنية وهي الآية (282) من سورة البقرة. وتارة أخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإنسان بصورها الكلية، حيث يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى‏ وَيَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ).

 

وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (34) من سورة الإسراء: (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا)، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأولى من سورة المائدة: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (78) من سورة الحج: (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) وكمفهوم إقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (45) من سورة الحديد: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأمور في الآيات (7، 8، 9) من سورة الرحمن: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)، وعموم الميزان (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)، وعموم مفهوم الامتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (85) من سورة الأعراف: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)، بالإضافة إلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن، لتكون للإنسان نبراسًا وهاجًا في مجالات الفكر والحياة والإنسان كافة.. وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم (فيه تبيان لكل شي‏ء) بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه، وإنّما عيّن لها من يؤخذ منه التفاصيل، كما تبيّن لنا ذلك الآية (7) من سورة الحشر: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

 

والإنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه، واستخرج برامج وتوجيهات توصله إلى السعادة، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله. ولهذا، فمن استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن، فهو لم يعرف القرآن، وطلب من الغير ما هو موجود عنده.

 

وإضافة لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإسلام في كل الأمور، فقد حمّلت المسلمين مسؤولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجون.

 

وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات منها: ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي‏ء حتى واللّه ما ترك شيئًا تحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا و قد أنزله اللّه فيه» (تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 74).

 

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئًا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وجعل لكل شي‏ء حدًّا، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدًّا» (المصدر السابق).

 

وجاءت في الرّوايات الشريفة الإشارة إلى هذه المسألة أيضًا. وهي أنّه مضافًا إلى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلّا النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأوصياؤه بالحق، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال» (تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 75).

 

إنّ عدم إدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه بــ (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والاستفادة منه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد