قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

الدين في ذاته يتأبّى الإكراه عليه

لا شكّ أنّ الدين، بما أنّه إيمان وعقيدة، فإنّه يستدعي أن يكون الباعث له قدرة بيان ووضوح برهان. وفي جوّ هادئ فاره وديع، لا إكراه فيه ولا إرعاب. إنّه اقتناع نفسيّ وعقد قلبيّ، لا بدّ له من قوّة دليل الإقناع، وفي ظلّ من التفاهم الحرّ النزيه، لا يعكر صفوه تشويش خاطر ولا بلبلة فكر.

 

ومن ثمّ فليس من طبيعة الدين، إمكان الإكراه عليه.

 

هذا شيء ينفيه القرآن وأن لا إكراه في الدين، إذ قد تبيّن للناس في فطرهم طريق الرشد وطريق الغيّ: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) «1» قد علم كلّ مشربه، الأمر الّذي لاح به الدين في وضح النهار وليس في ستار من الظلام.

 

وهذه خصيصة الدين وميزة شريعة السماء، تتوافق مع الفطرة وتتلاءم مع منهج العقل الرشيد: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها....) و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) «2». وإن كان أصحاب الشغب الزائفون يحاولون إنكاره، فحسبوا من الدين أفيون الشعوب!!

 

قال الفخر الرازي: في تأويل هذه الآية وجوه، أحدها - وهو قول أبي مسلم والقفّال، وهو الأليق بأصول المعتزلة -: معناه أنّه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنّما بناه على التمكّن والاختيار.

 

قال: احتجّ القفّال على أنّ هذا هو المراد، بأنّه تعالى لـمّا بيّن دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر، قال بعد ذلك: إنّه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل، للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلّا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك ممّا لا يجوز في دار الدنيا، الّتي هي دار الابتلاء؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان.

 

قال: ونظير هذا قوله تعالى: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) «3». وكذا قوله: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) «4». وقوله: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) «5».

 

قال: وممّا يؤكّد هذا القول أنّه تعالى قال - بعد هذه الآية (آية نفي الإكراه) -: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)ِ. يعني ظهرت الدلائل ووضحت البيّنات، ولم يبق بعدها إلّا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز، لأنّه ينافي التكليف «6».

 

وقال أبو عليّ الطبرسيّ: في الآية عدّة أقوال: أحدها، أنّه في أهل الكتاب خاصّة، حيث يؤخذ منهم الجزية. عن الحسن وقتادة والضحّاك. وثانيها: أنّه في جميع الكفّار، ثمّ نسخ. عن السدّي وغيره. وثالثها: أنّ المراد: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب: أنّه دخل مكرها، لأنّه إذا رضي بعد الحرب وصحّ إسلامه فليس بمكره. عن الزجّاج. ورابعها: أنّها نزلت في قوم خاصّ من الأنصار، حسبما جاء في أسباب النزول. عن ابن عبّاس وغيره. وخامسها: أنّ المراد: ليس في الدين إكراه من اللّه، ولكن العبد مخيّر فيه؛ لأنّ ما هو دين في الحقيقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه، فأمّا ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة، كما أنّ من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرًا. والمراد: الدين المعروف وهو الإسلام ودين اللّه الّذي ارتضاه... «7».

 

قال الأستاذ محمّد عبده: كان معهودًا عن بعض الملل - لا سيّما النصارى - حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه. وهذه ألصق بالسياسة منها بالدين! لأنّ الإيمان هو أصل الدين، وجوهره عبارة عن إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنّما يكون بالبيان والبرهان، ولذلك قال تعالى - بعد نفي الإكراه - : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أي قد ظهر أنّ في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير في الجادّة على نور، وأنّ ما خالفه من الملل والنحل، على غيّ وضلال «8».

 

وقال سيّدنا العلّامة الطباطبائي: هذه الآية تنفي أن يكون الدين إجباريًّا، ذلك أنّ الدين عبارة عن سلسلة من معارف علميّة، تتبعها سلسلة من الأعمال الخارجيّة. ويجمعها: اعتقادات، والاعتقادات والإيمان من الأمور القلبيّة الّتي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنّ الإكراه إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك. ومن المحال أن ينتج الجهل علمًا، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقًا علميًّا.

 

فقوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ....) إن كانت قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين، أنتج حكمًا شرعيًّا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد.

 

وإن كان حكمًا إنشائيًّا تشريعيًّا، كما يشهد به ما عقّبه من قوله: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) كان نهيًا من الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهًا، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي أنّ الإكراه إنّما يؤثّر بشأن الأفعال الخارجيّة لا المعتقدات القلبيّة «9».

 

وبعد فالإسلام هو أرقى تصوّر للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء، هو الّذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الّذي يفرض على معتنقيه أن يدعو الناس على اختيارهم فلا يكرهوا أحدًا على قبول الدين، حيث الدين - بطبيعته الذاتيّة - يرفض إمكان الإكراه عليه.

 

ثمّ إنّه لا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه، وتشوّقه إلى اختيار الهدى، وتهديه إلى الطريق، وتبيّن حقيقة الإيمان الّتي أعلن أنّها أصبحت واضحة، وهو يقول: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

 

فالإيمان هو الرشد الّذي ينبغي للإنسان أن يتوخّاه ويحرص عليه، والكفر هو الغيّ الّذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتّقي أن يوصم به! نعم، والأمر كذلك فعلاً، فما يتدبّر الإنسان نعمة الإيمان، وما تمنحه للإدراك البشري من تصوّر ناصع واضح، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشريّة من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة، وما تحقّقه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقيتها، ما يتدبّر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو، حتّى يجد فيها الرشد الّذي يتقبّله كلّ ذي قلب سليم، ولا يرفضه إلّا سفيه، يترك الرشد إلى الغيّ، ويدع الهدى إلى الضلال، ويؤثر التخبّط والقلق والهبوط والضآلة، على الطمأنينة والسّلام والرفعة والاستعلاء!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشمس 91 : 7 - 8 .

(2) الروم 30 : 30 .

(3) الكهف 18 : 29 .

(4) يونس 10 : 99 .

(5) الشعراء 26 : 4 .

(6) التفسير الكبير 7 : 14 - 15 .

(7) مجمع البيان 2 : 163 .

(8) المنار 3 : 37 .

(9) الميزان 2 : 360 - 361 .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد