«الآية الثالثة» تستعرض أحد المواهب الإلهية الكبيرة على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأنّ الله تعالى هو الذي جمع المؤمنين حول النبي وألّف بين قلوبهم بحيث لا يتسنى ذلك أبداً من خلال الوسائل الطبيعية والأدوات العادية فتقول الآية: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
لو أنّ الإسلام يرى في العزلة والانزواء عن المجتمع قيمة أخلاقية، فإنّه لم يكن يعدّ التأليف بين قلوب المسلمين بعنوان معجزة كبيرة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وهذا التعبير في الآية الشريفة لا يدلّ على مطلوبية المعاشرة والاجتماع بين الأفراد فحسب، بل أن تكون الرابطة شديدة وإلى درجة كبيرة من الوثاقة في العلاقات الاجتماعية.
وبديهي أنّه لا يصحّ أن تقرر الآية هذا المفهوم في زمان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقط، بل إنّ هذا المفهوم الإسلامي يستوعب جميع الأزمنة والأمكنة وعلى كلّ طائفة مؤمنة أن تجتمع حول محور واحد وترتبط فيما بينها برابطة وثيقة من الألفة والمحبّة كما كان حال المؤمنين في عصر النبوّة والبعثة.
والملفت للنظر أنّ الله تعالى نسب تأليف القلوب إليه مباشرة كما ورد هذا المضمون في الآية 103 من سورة آل عمران، رغم أننا نعلم أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو الذي قام بهذا العمل الإنساني والاجتماعي، وذلك لتشير الآية إلى أنّ هذا العمل إنّما هو معجزة إلهية جعلها الله تعالى في يد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأظهرها على يده، وإلّا فمن المحال أن تزول وتتلاشى كل تلك الأحقاد والعداوات القديمة والجديدة بين العرب المتعصّبين والجاهلين مهما بلغت قدرة المخلوق ومهما أوتي من أموال وثروات طائلة كما تقول الآية بأنّك لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن تسنى للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ذلك من خلال تعليمات الإسلام وأخلاقه الإلهية والإمدادات الربانية واستطاع بذلك من تحقيق أعظم معجزة في عالم العلاقات الاجتماعية، وحقّق الألفة وهي في اللغة بمعنى الاجتماع المقارن للانسجام والأنس والالتئام وربط تلك القلوب المتنافرة والمتباغضة مع بعضها وجعلها كالبنيان المرصوص.
وتأتي «الآية الرابعة» لتتحدّث عن وحدة صفوف المسلمين والتي لا تتسنى ولا تتحقّق اطلاقاً مع العزلة والانزواء: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).
(بنيان) بمعنى كل بناء يبنيه الإنسان لسكنه أو لمآرب أخرى، كإقامة السدود مثلاً، أمّا (مرصوص) فهو من مادة (رصاص) ونظراً إلى أنّ البشر في ذلك الزمان كان يستخدم الرصاص في عملية البناء ليزيد في قوّته واستحكامه وليملأ الفراغات والثقوب والثغرات الموجودة بين أحجار البناء، فلذلك أطلق على كل بناء محكم أنّه (مرصوص) إشارة إلى قوّته واستحكامه.
وصحيح أنّ الآية الشريفة ناظرة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى والتحرّك العسكري في ميادين القتال مع الأعداء، ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى يجري في سائر التفاعلات الاجتماعية على مستوى السياسة والثقافة والاقتصاد وأمثال ذلك، ففي هذه الموارد يلزم أن يكون الناس في المجتمع الواحد منسجمين ومتّحدين إلى درجة أنّهم كالبنيان المرصوص، وهذا المعنى يتقاطع حتماً مع العزلة والانزواء فلا يتسنى للمجتمع الدفاع القوي أمام الأعداء ولا النهضة الحضارية ولا حلّ المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية من دون الألفة والمعاشرة والاجتماع بين الأفراد.
وتأتي «الآية الخامسة» والأخيرة من الآيات محل البحث لتشير إلى مسألة الرهبانية وترك الدنيا والعزلة عن الناس للعبادة والتبتّل إلى الله تعالى كما كان شأن جماعة من النصارى، فتأتي هذه الآية لتقول إنّ هذا السلوك العبادي في الظاهر إنّما هو بدعة من قبل هؤلاء الرهبان ولم يؤمر به في الشريعة الإلهية وتقول: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).
ونعلم أنّ جماعة من المسيحيين في هذا العصر والزمان سلكوا طريق الانقطاع عن الناس والرهبنة والعيش في الأديرة وعدم الزواج، كل ذلك لغرض العبادة في هذه الأماكن التي بنيت لهذا الغرض.
وهذا الموضوع لا يختص بهذا الزمان بل هو من البدع التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي في حكومة (ديس يونس) الإمبراطور الرومي الذي شدد النكير على النصارى وأتباع السيد المسيح وأخذ بتعذيبهم والتنكيل بهم، فلم يجد هؤلاء بدّاً للخلاص من شرّ هذا الطاغية من اللجوء إلى الأديرة والهرب باتّجاه الجبال والمغارات والكهوف وبذلك زرعوا بذرة الرهبانية في الديانة المسيحية.
وعلى هذا الأساس فإنّ مثل هذه الرهبانية تتعارض تماماً مع روح تعليمات الأنبياء الإلهيين ولم تكن موجودة في العصور الاولى للمسيحية، بل كانت بدعة ظهرت على يد الأشخاص الجهلاء والمنحرفين واستمرت إلى يومنا هذا، حيث نجد أنّ جماعة من المسيحيين يتركون حياتهم الاجتماعية وتأسيس الأسرة والزواج وسائر النشاطات الاجتماعية ويلجأون إلى الأديرة لممارسة الطقوس العبادية ويقوم الأشخاص من أهل الخير بالإنفاق عليهم لتأمين نفقاتهم.
أمّا ما يجري في هذه الأديرة من الانحرافات والممارسات اللّاأخلاقية والبعيدة عن أصول الفطرة الإنسانية فلها حديث مفصّل ومؤلم حتى أنّ بعض الكتّاب المسيحيين أشار إلى بعض هذه الأديرة وأطلق عليها اسم دار الفحشاء، وأساساً فإنّ مثل هذه الحياة غير الطبيعية للإنسان تؤثر سلبياً على روحه وفكره وتسبب له الكثير من الاهتزاز والارتباك في قواه النفسية والعقلية.
وجاء الإسلام وأبطل كل هذه الممارسات العباديّة في الظاهر ودعا الناس إلى ممارسة الحياة الاجتماعية المتزامنة مع التقوى والإيمان.
والجدير بالذكر أنّ الرهبانية في الأصل اللغوي من مادة (رهبة) على وزن ضربة، بمعنى الخوف والخشية، والمراد منها هنا الخوف من الله تعال ، وكما يقول الراغب في مفرداته أنّها الخوف المقترن بالخشية والاضطراب والقلق، ثمّ استعملت هذه المفردة في خصوص سلوك جماعة من المسيحيين أو من غيرهم الذين رجّحوا الانزواء والعزلة عن الناس طلباً للعبادة والتبتّل إلى الله تعالى، ومن جملة البدع السيئة للمسيحيين في دائرة الرهبانية هو تحريم الزواج بين النساء والرجال الذين يسلكون في خط الرهبنة وكذلك ترك جميع المسؤوليات الاجتماعية وأشكال العلاقات بين أفراد المجتمع واختيار الصوامع والأديرة البعيدة لهذا الغرض.
ويستفاد من الآية أعلاه أنّ الرهبانية على قسمين: إيجابية وسلبية، ومن المعلوم أنّ الرهبانية السلبية هو ما ذكرنا آنفاً، وأمّا الرهبانية الإيجابية فتتضمّن معنى الزهد وعدم التكالب على الدنيا وترك التجمّلات المادية في حركة الحياة الفردية والاجتماعية لكي لا يقع الإنسان في أسر هذه الزخارف الدنيوية من المال والمقام ولكن ذلك يجتمع مع الحياة الاجتماعية للفرد وإقامة علاقات بنّاءة في مسير المجالات المعنوية والمادية، وبعبارة أخرى: إنّ الآية الشريفة تقرّر وجود رهبانية في الديانة المسيحية مشروعة من الله تعالى وتتضمّن ما كان عليه السيد المسيح (عليه السلام) من الزهد والترك للدنيا، ولكن المسيحيين في القرون التالية ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم تكن في الديانة المسيحية أصلاً، وهي عبارة عن الانزواء والعزلة عن المجتمع والحياة الاجتماعية وترك الزواج والانقطاع إلى العبادة في الكهوف والأديرة.
ويمكن أن يقال إنّ السيد المسيح لم يتزوج طيلة حياته أيضاً، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ عمر السيد المسيح كان قصيراً فلم يبلغ من العمر سوى ثلاثين سنة تقريباً، وكان في هذه المدّة مشغولاً بتبليغ الرسالة الإلهية والترحال من منطقة إلى منطقة اخرى لهذا الغرض فلم يسعه المجال للزواج.
وعلى أيّة حال فإنّ الإسلام يرى الرهبانية بدعة ويذم النصارى على هذا السلوك السلبي، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف : «لا رهبانية في الإسلام» في مصادر موثوقة كثيرة.
أمّا الحديث عن أبعاد الرهبانية وتاريخها ونتائجها فيطول بنا ويمكن لمن أراد التفصيل في هذا البحث مراجعة التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة...
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد الريشهري
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عدنان الحاجي
الفيض الكاشاني
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ نجم الدين الطبسي
د. سيد جاسم العلوي
جاسم بن محمد بن عساكر
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
سفينة البحار ومدينة الحِكم والآثار
تمهيد في تعريف المفهوم
الكسل عنوان الفشل
يوسف الصدّيق، أسوة الشباب في القرآن الكريم
آثار الانتظار (2)
الألفة والانفراديّة في القرآن الكريم (2)
إظهار مشاعر الاندهاش والإجلال تجاه الطّفل تجعل تربيته أكثر سعادة
وعلى هواك
منشأ العصمة وسببها
الألفة والانفراديّة في القرآن الكريم (1)