كان من أشكال تغييب القضية الحسينية عن ذاكرة المسلمين وتقليص حضورها فيهم تفسيرها بحزمة خاطئة من الأفكار، بحيث بدل أن تكون مثالاً أعلى يحتذى في البطولة والفداء ونصر الدين ومقاومة المنكر، تتحول إلى محل سؤال: هل هي مشروعة أو غير مشروعة؟ وهل كان ينبغي أن يقوم الحسين بما قام به أو كان ينبغي أن يترك ذلك؟ هل عادت بالنفع أو المضرة عليه وعلى الأمة؟ وبالطبع ستنتهي كل تلك الأجوبة إلى الجانب السلبي!
وهذا الجانب قد يكون أكثر تأثيراً من الجانب السابق وهو تشويه مصادر الواقعة، وسبب ذلك أن تشويه مصادر الواقعة إنما يتعامل معه المتخصصون والباحثون في التاريخ، لكنهم هنا في تشويه النهضة الحسينية من خلال بث الأفكار الخاطئة يتعاملون مع عامة الناس.
وذلك أن الحدث مهما كان إنما يراد منه الفكرة التي تستنتج منه، وتستفاد من حصوله وهو ما يسميه القرآن الكريم العِبرة، فقصص القرآن سواء كانت عن الأنبياء والمرسلين أو عن الطغاة والفاسدين أو عن عامة المجتمعات إنما يراد منها فكرة القصة وعبرة الحادثة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
ونشير في هذه الصفحات إلى بعض الأفكار المشبوهة التي بثها الاتجاه الأموي والرسمي في الأمة حول نهضة الحسين عليه السلام:
1) الزعم بأن حركة الإمام الحسين كانت من أجل السيطرة على الحكم:
سوف نأتي على ذكر بعض المصادر والكلمات التي قيلت في هذا الصدد، لكن نشير إلى الهدف من بث هذه الفكرة. إن تجاوز الحقيقة والتعامي عنها في أهداف النهضة الحسينية والتي كانت لطلب الإصلاح في الأمة، ورفع المنكر الأموي عنها، مما تحدثنا عنه في فصل السيرة الحسينية، وتحويل القضية إلى حركة من أجل السيطرة على الحكم ليس إلا، سينتهي إلى القول بأنه ما دام الأمر هكذا، فلماذا أتعاطف وأتفاعل معها؟ ولماذا أحزن وأبكي على شخص قام لأجل السلطة والرئاسة والدنيا فقتل؟
سيكون حاله حال سائر الأشخاص الذين طلبوا الرئاسة والدنيا فلم يتهيأ لهم أن يحصلوا عليها؟ ما الفرق بينه وبين غيره حتى يختص بكل هذا الاهتمام؟
بل سيقال على أثر ذلك كما قيل: مثلما أن الحسين قام لأجل السيطرة على الحكم ولأجل الإمارة فإن دفاع يزيد وابن زياد عما كان في يدهم منها هو دفاع مشروع، وقضاؤهم على الحسين كان أمرًا طبيعيًّا! بل هو المدان في هذه الحالة!
وعندما تتحول المسألة من كونها نهضة لإنقاذ الإسلام، ومحاربة الانحراف إلى حركة سياسية لأجل السيطرة على الحكم، تنتقل من خانة القيم والشهادة إلى خانة السياسة وألعابها وأدواتها! في الحالة الأولى المنطق السائد فيها هو: هوَّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله! وشعارها: رضا بقضائك وتسليماً لأمرك! وبيانها الأساس: إنا على الحق.. فلا نبالي وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا!
من هنا نفهم لماذا كانت كلمات الإمام الحسين عليه السلام حول أهداف نهضته وبواعثها كثيرة ومتعددة الأساليب وفي مختلف المناطق (المدينة، مكة، الطريق إلى كربلاء، في كربلاء) حتى لو فات البعض في مكان يسمعونها في مكان آخر ولو لم تُنقَل في مكان أو بواسطة أشخاص تنقل في مكان آخر بواسطة آخرين وهكذا مثل قوله عليه السلام في المدينة (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد عليّ أصبر). و"إنما" هي أداة حصر كما يقول علماء اللغة العربية، بمعنى لهذا السبب ليس إلا، وتراه في كربلاء يقول (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فصول الخصام ولكن لنري المعالم من دينك ويظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك)، فليست القضية لأجل السيطرة على الحكم والرئاسة أو في طلب الإمارة!
وقد يكون تفسير النهضة الحسينية بهذا النحو المادي والسياسي الدنيوي مفهوماً إذا جاء من دراسات المستشرقين الذين تناولوا هذه الفترة التاريخية بالبحث والدراسة، فإنهم يتعاملون مع كل هذه القضايا بعيدًا عن دائرة المقدس ومنطلقات القيم الروحية.. لكننا لا نستطيع تفهم أن يقوم بهذا مؤرخون مسلمون هم أنفسهم يقدمون قبل مقتل الحسين عشرات الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حق الحسين عليه السلام وأنه سيد شباب أهل الجنة وأن رسول الله رُؤي في المنام باكيًا وأنّ جبرئيل أو ملك القطر قد نعيا الحسين لرسول الله وأتيا له بتربة من قبره وأن النبي بكى على إثر ذلك! بل وقد نقلوا من الروايات ما نقلوا في الأمور الكونية التي حصلت بعد شهادة الحسين من الدم العبيط في الأرض وأمثال ذلك.
ما الذي يجعل الكون يتفاعل لأجل مقتل شخص خرج للسيطرة على الحكم والتمتع بميزات الرئاسة ثم لم يستطع ذلك؟ هل يستحق مثل هذا بكاء من النبي أو نعياً من ملائكة السماء أو تفاعلاً من الكون؟
كأحد الشواهد على هذا الاتجاه فإن العنوان الذي جعله ابن كثير الدمشقي لتاريخ مقتل الحسين في كتابه البداية والنهاية كان بهذا النحو: قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله.
الأسوأ من فكرة أن خروج الحسين وبالتالي مقتله كان في طلب الإمارة والرئاسة والصراع على السلطة ما سيأتي من ترقّي (ولا رقي في ذلك) بعض أتباع الاتجاه الأموي في المسلمين ليشير بالصراحة أو بالمواربة إلى أن:
2) خروج الحسين كان خروج بغي على إمام للمسلمين!
والذين قال هذه الفكرة بالصراحة كان ابن العربي المالكي في كتابه العواصم من القواصم، فإنه رأى أن الذين خرجوا لقتاله قد خرجوا لذلك بفكرة واجتهاد في الدين ومعرفة بالأدلة الشرعية! ومنها أن خروجه كان فتنة على الأمة - في نظر ابن العربي وابن زياد ويزيد - وتفرقة لوحدتها وأن ذلك يدخل تحت كلام النبي في أن من يفعل ذلك يجب أن يقتل بالسيف كائناً من كان! وهكذا الجيش الذي خرج لقتاله، فلم يخرج أولئك الناس إلا بمثل هذا، ولم يقتلوا الحسين لأنهم طامعون في المال أو خائفون من عقوبة ابن زياد وإنما لأنهم كانوا مجتهدين ولهم أدلتهم في لزوم الوحدة!
ومن خلال كلامه فهم غير واحد من العلماء والمؤرخين أنه ينتهي إلى القول بأن الحسين إنما قتل بسيف جده رسول الله، فقالوا إنه قال ذلك، وهو وإن لم يقل هذا بالنص والحرف لكن هذا المعنى واضح في كلامه، قال - عامله الله بما يستحق - في حق الإمام الحسين عليه السلام "وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها قوله (ص) «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان». فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين وسعه بيته أو ضيعته أو إبله - ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر - لم يلتفت إليهم، وحضره ما أنذر به النبي (ص) وما قال في أخيه ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟
قادة هذا الاتجاه الأموي هم على قسمين؛ من يعلن الأمر بالصراحة؛ تخطئة الحسين بوضوح وإعلان أن الإمام الشرعي هو يزيد بن معاوية، وخروج الحسين عليه خروج بغي وفتنة والموقف الطبيعي هو أن يقتل الخارج الباغي الممزق للأمة، وهذا هو توجيه النبي وهو معنى أن الحسين قتل بسيف جده كما قال ابن العربي المالكي.
والقسم الثاني يرى هذه المقالة فجة، وهي أوقح من أن تُقبَل بهذه الصيغة، فيتم تخفيفها بالنحو التالي: يزيد بايعه الناس بعد تولية أبيه إياه فهو إمام شرعي، وانفرد الحسين وخمسة نفر بعدم البيعة، فهم مخطئون في ذلك، ثم خُدع الحسين بشيعته وأهل الكوفة، ولم يستمع إلى نصح الصحابة، فكان من الطبيعي أن تقاومه الدولة بعد أن حاولوا معه بالرفق فلم يستجب! فكان أن قتله عبيد الله بن زياد أو قتله شيعته من أهل العراق! لكننا نترحم على الحسين فهو ابن بنت رسول الله وهو كذا وكذا لكننا لا نفعل كما يفعل الشيعة والروافض من البدع في إظهار الجزع الذي هو غير جائز.. إلى آخر هذه المعزوفة.
ويظهر ذلك بصياغة أوضح في كلام ابن كثير ".. وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها، فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها ونتهم على نبيها صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديماً وحديثاً كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.
فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون في الدنيا وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه. وليس كل ذلك الجيش كان راضياً بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبراً عن نفسه بذلك، وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك والله أعلم..".
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد عبد الحسين دستغيب
الشيخ فوزي آل سيف
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد صنقور
السيد عادل العلوي
عبدالله طاهر المعيبد
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
بين القيادة العلمية والقيادة الذرائعية
أَإِذا كُنَّا عِظاماً ورُفاتاً ؟!
لا تظنّوا بالآخرين سوءًا
خصائص الأربعينيّة
الأفكار المشبوهة وتغييب النهضة الحسينية (1)
يمٌّ... وألواح ابن موسى
المشكلة الاستقرائية ليس لها حل قياسي في فكر الشهيد محمد باقر الصدر (2)
لقاء لعساكر بالدّكتور النّزر، وحديث حول الإصدارات الأدبيّة والنّقديّة
(فصل من مواعظ الضّليل) ديوان شعريّ للسّيّد صادق النّمر
معنى كلمة ثمود