إن الأخلاقية تعني، باختصار، ذلك الانسجام الكامل بين الفكرة والحكم، وبالتالي بين النظام وهدف الخلقة الإنسانية العام وما يقتضيه من قيم عملية ضرورية التحقق حتى يتم تأمين ذلك الهدف. وهكذا يكون النظام أخلاقياً إذا كان يستمد غاياته من ذلك الهدف وتلك القيم المتفرعة منه، ويركّز ـ من حيث الطريقة ـ على الغور إلى الأعماق النفسية وتجلية الدوافع الفطرية، وبناء الداخل الإنساني وفقاً لتلك الغايات.
ولن يكون أي نظام متمتعاً بهذه الصفة إذا كان يستمد غاياته من ظروف بعيدة عن الإنسان وهدف خلقته ـ كالماركسية حين تستمد غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها، والمذاهب اللامبالية التي تتناسى الهدفية الإنسانية، بل وكل المذاهب المادية التي تتغافل عن التنسيق والتخطيط السابقين على ولادة المسيرة الإنسانية السائرة على طريق إعمار الأرض حتى حين، وحتى اننا نستطيع القول: إن كل النظم التي وقفت موقفاً حيادياً من الأيديولوجية الإنسانية والرؤية التي يمكن أن تستقر عليها النفس الإنسانية بالنسبة للكون والحياة واعتبرتها موقفاً شخصياً لا يؤثر على نوع النظام السائد، كل هذه النظم كالرأسمالية في وجوهها العديدة والعلمانية في الجانب السياسي هي نظم لا تستطيع أن تدعي مطلقاً إمكان إطلاق الصفة الأخلاقية عليها.
هذا في مجال الغايات، والكلام نفسه يقال في السبل التي تسلكها النظم لتحقيق غاياتها، إذ إن الغايات ربما تكون أخلاقية باعتبار انسجامها مع الأهداف العليا، ولكن ذلك لا يكفي في التحلي بهذه الصفة، إلا إذا كان النظام يركز على العمق البشري، وذلك لوجود العلاقة القوية بين هذه التركيبة الإنسانية وبين أهدافها، ولا يمكن الفصل بينهما بالسعي لتحقيق الأهداف دونما تأكيد أخلاقية الطريقة.
وهذه الحقيقة تسوقنا إلى الحديث عن الصلة بين الهدف والتركيبة الإنسانية بشكل أكثر تفصيلاً، ذلك إننا نؤمن على ضوء التأمل الوجداني الواعي في الأنفس والآفاق وعلى أساس من نظرة الإسلام الأصيلة للنفس الإنسانية، والنصوص الكريمة الناظرة إلى هذا المجال نؤمن (بنظرية الفطرة الإنسانية الأصيلة) التي تحدد هوية الإنسان وتفصله عن غيره، والتي تقرر ذلك الترابط المذكور آنفاً بين الهدف والتركيبة من خلال انسجام الدوافع الغريزية، والمعلومات والإدراكات البديهية، والقدرة الذهنية، والإرادة المسيطرة مع مسيرة طبيعية لها معالمها وحدودها لتحقيق هدف الكمال الإنساني والذي يتوافق تماماً مع مسيرة العبودية لله تعالى والتقرب إليه باعتباره تعالى الكمال المطلق.
على أساس من هذا الترابط تقوم نظرية الفطرة، أما الدين فيعمل على جلاء الفطرة لتعود إلى صفائها بعيداً عن الغش والقتام المتراكم فتعمل مكوناتها بكل انتظام كما يعمل على تجليها في السلوك الإنساني ويوضح لها ما تجهله من الحقائق الهائلة ويعبد لها الطريق نحو هدفها بعد توضيحه لها ورسمه أمامها بكل جلاء.
إن الأخلاق تستقي ثباتها وأسسها وأضواءها من الفطرة، وكل ادعاء خلقي ينفي هذا الثبات في المعايير وهذا الرسوخ في الفطرة، إنما هو ادعاء فارغ ودعاية للتصريف المحلي والتمويه على الآخرين واستغلال ميولهم الطبيعية لأغراض ضيقة. ذلك أن النسبية في الأخلاق، والسطحية في تصورها يعني نفيها تماماً، كما أن النسبية في المعرفة تؤدي بالتالي إلى إغلاق بابها حتماً.
ومن هنا نعود فنقول: إن المذاهب التي لا تعترف بالفطرة لا يمكنها أن تطرح المفاهيم الأخلاقية الصرفة؛ كالعدالة، والظلم، والحق، والإنسانية وأمثال ذلك.
وقبل الحديث عن أخلاقية النظام الإسلامي المقام في أي مجتمع، ينبغي الحديث عن الأرضية التي يوجدها الإسلام في المجتمع ليكون مؤهلاً للتطبيق الإسلامي الجيد. ومثل هذا المجتمع لابدّ وأن تتوفر فيه العناصر التالية:
الأول: العقيدة المتأصلة في النفوس والمتعدية من مجال الإيمان المنطقي إلى مجال توجيه الوجود الإنساني كله.
الثاني: الرؤى والمفاهيم التي تستمد معالمها من العقيدة وتصب مباشرة في السلوك الإنساني.
الثالث: العواطف المنسجمة كل الانسجام مع العقيدة والمفاهيم.
يقول آية الله الشهيد الصدر في هذا الصدد: "فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية، ولنأخذ لذلك مثلاً عن التقوى، ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان، وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة للتقوى والمتقين وهي عاطفة الاجلال والاحترام" (1).
فإذا كان المجتمع المتهيئ لتطبيق الأطروحة الإسلامية بهذا النحو، فإن ذلك يعني أن الترابط الأخلاقي ـ بالمعنى الذي طرحناه ـ يسود كل الحياة الفردية والاجتماعية ويشكل روحها وإطارها بلا ريب. ويتأكد هذا المعنى عندما نؤمن بحقيقة الترابط التام بين كل أجزاء الأطروحة، فإن هذا الترابط يعني أن أي بلورة لأي جانب يتم على ضوء المسيرة المجموعية نحو الهدف الكبير تماماً، كما نعتقد بأن أي حركة في هذا الكون الرحيب تترك أثرها على كل المجموعة الكونية الهائلة من خلال هذا الترابط التكويني المشهود والمبرهن. وهذا الترابط الهادف بين أجزاء الأطروحة وهذا الانسجام بينها وبين الهدف هو الذي أهَّل الإسلام ليكون دين الفطرة والقيم على كل الحياة.
بعد هذه الحقائق نجد أنه ليس من الضروري أن نستعرض مفردات النظام الإسلامي كلها حتى نكتشف مظاهر هذه الروح الأخلاقية فيها، فيكفي أن نلقي نظرة على بعض العينات لنطمئن إليها.
وكمثال على ذلك نقول: إننا نلاحظ تركيز الإسلام القوي على نظامين رئيسين قبل غيرهما معبراً بذلك عن اتجاهه الأخلاقي هذا، وهما:
نظام العبادات، والنظام الأخلاقي والتربوي، معتبراً إياهما أساس الحياة الإسلامية وقوامها. فالصلاة ـ كما تصفها النصوص ـ عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها ومكارم الأخلاق وتركيزها في المجتمع تبلغ من القيمة حدّاً يجعلها هدف البعثة النبوية الشريفة بل يصل الأمر إلى طرح هذه المعادلة (الدين = الأخلاق).
وإذا طالعنا بعض أهداف نظام العبادات وجدناه نظام التربية الخلقية بعينه فهو يستهدف ـ من جملة ما يستهدف ـ إشباع الحاجة الفردية والحضارية الإنسانية إلى الارتباط بالوجود المطلق بأفضل وجه، والحاجة الحضارية إلى تأصل الموضوعية والإخلاص في العمل وتجاوز المنافع الضيقة، والحاجة الفردية والحضارية إلى الإحساس الذاتي بالمسؤولية الآنية والتاريخية كضمان للتنفيذ، وبالتالي فهو يستهدف إشباع حاجة الإنسان الدائمة للتذكير بالحقيقة وانقاذه من مرض الخمول في الطاقة الإيمانية، والتقاعس عن الفاعلية الحضارية نتيجة نمط من أنماط التخلف (العقلي، النظامي، الفردي و...).
وحتى العبادات المالية نجدها تسير على هذا المنوال أروع سير، إذ إنها تستهدف الكمال الإنساني كغاية لا محيد عنها. فدافع الزكاة لن يقبل منه عمله إلا إذا قصد التقرب إلى الله، والجابي لها يرغب في الدعاء للدافع (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم...).
إن الشمولية في العبادة تعطينا معنى الشمولية الأخلاقية في الإسلام وتركز في ذهن الإنسان أن يعيش لله دائماً (وفي رواية من وصايا رسول الله (ص) لأبي ذر: يا أبا ذر، إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلا لله فافعل) (2) فالإنسان يمكنه أن يتكامل ويتقرب إلى الكمال المطلق في كل حركاته وسكناته، في قيامه وقعوده وسجوده، في إنفاقه ودفاعه، في صومه وأكله. وهكذا نجد الإسلام يوسع من روح المسجد لتسع الحياة بدلاً من الفصل بين الحياة والمسجد، أو حصرها فيه كما يفعل المتطرفون من كل جانب.
أما النظام الأخلاقي فهو المثال العيني على الأخلاقية الإسلامية. ولن نحاول التفصيل فيه، وإنما نشير إلى تحلي النظام الأخلاقي في الإسلام بالصفة الواقعية، بعيداً عن التطرف الذهني والخيال المتصوف، والرياضات الباطلة. والغريب أن نجد بعض المبادئ المادية تفرط في الخيال فيرجعها الواقع إلى صوابها، فقد ظنت الماركسية أنها تستطيع ايصال البشرية إلى مرحلة الشيوعية باعتبارها جنة الإنسانية الموعودة التي تغدق فيه الطبيعة خيراتها وتنسى الذات الإنسانية كل دوافعها الأصيلة وتموت (الأنا) لتحيا (النحن) وبالتالي لا يبقى أي مسوغ لبقاء الحكومة والقضاء والنزاع!!
إن هذا الخيال المجنح مبتلى بضعفين، ومن وجهتي نظر مختلفتين:
الأول: إنه خيال لا علاقة له بالواقع، وإلا فمتى يمكن سلب النفس الإنسانية كل غرائزها وأهمها حب الذات؟ اللهم إلا أن يبدل الإنسان غير الإنسان، وهذا ما لا تفعله المبادئ المادية، في الأقل، ولا غيرها أيضاً.
والثاني: إنه يعني انطفاء قوانين الديالكتيك نفسها التي تجعل التحولات الاجتماعية رهن الصراع الطبقي وتوابعه، فإذا مات الصراع مات الديالكتيك، وبموت هذا يموت التطور ويتحول المجتمع إلى مستنقع رجعي مقيت!!
إن الإسلام بمقتضى واقعيته يرفض مثل هذا المنطق وإنما يعلن قبوله بمبدأ حب الذات (النفس) أولاً ويستجيب لكثير من متطلباتها وأهمها (الحرية)، إلا أنه يضع مخططاً تربوياً دقيقاً نلخصه بالخطوات التالية ولا يشترط فيها أن تأتي بالترتيب:
أولاً: يبدأ قبل كل شيء بتعيين مركز الإنسان من الكون. وخلاصته: إن الإنسان موجود خلقه الله الكامل المطلق خالق الكون، ذو القدرة، والعلم، والحياة المطلقة، لأجل أن يعمر الأرض من خلال ممارسة حياة اجتماعية طويلة، ووضع له تشريعاً في سبيل ذلك.
ثانياً: وعلى ضوء الخطوة الأولى ينمي في المسلم حب الله تعالى حتى يصل إلى الحد الذي يضحي فيه بذاته في سبيله تعالى....
ثالثاً: ثم يربط بين التقرب إلى الله والحياة الاجتماعية، ليكون سبيل الله يعني سبيل العمل لصالح الرسالة، وتحقيق رضا الله في الأرض ونشر تعاليمه بين الناس، وفي خدمة المؤمنين ورفع أدوائهم ونقائصهم، وإشاعة الأخلاق الحسنة، بالإضافة إلى التكامل الفردي: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له...). (البقرة: 245) (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون). (البقرة: 154) (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله...). (البقرة: 218) (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء...). (البقرة: 261)
وهكذا يرتبط سبيل الله بخدمة المجتمع خدمة يأذن بها الله ويراها لصالحه.
رابعاً: وعلى ضوء الخطوة الثالثة، يبدأ الإسلام بتربية أخلاقية طويلة المدى، من خلال نظم عديدة (كنظام العبادات، والنظام التربوي والأخلاقي، ونظام الاسرة، وغيرها) كلها تؤكد تنمية الحس الاجتماعي فيه، وتعمل على تربية الوجدان والضمير الأخلاقي في الإنسان، وتركز على أن يرتبط بعلاقات مودة كبرى مع مجتمعه المؤمن خاصة، ومع مجتمعه الإنساني عامة.
خامساً: وبعد هذا يعمل على أن يذكر الإنسان بالمنابع الكبرى التي تنفذ عبرها غريزة حب الذات فتنمي نفسها وتطغى لتنتهي بتلك الصور. وكمثل لذلك: نلاحظ موقف الإسلام من كل من عنصري الغفلة والتكبر، وهما منفذان كبيران للذاتية.
سادساً: ومع كل هذا يأتي دور أصيل يشكل نقطة الحل الرئيسة، وهو الدور الذي يجعل المسألة الفردية والمسألة الاجتماعية أمراً واحداً، وهي تلك المعجزة التي عجزت عنها جميع الأنظمة الوضعية، وذلك بتركيز الاعتقاد بالآخرة، وإعطاء صورة واضحة عنها. وحينذاك، فالذات الإنسانية واحدة في كلا الحالين، وعندها يكون التنازل البسيط المؤقت في هذه الحياة القصيرة عن بعض اللذات لصالح المجتمع الذي يحبه، ولصالح رقي الإنسانية وهو عضو منها، يكون هذا التنازل موجباً لإشباع النفس والذات عينها بأسمى أنواع الإشباع بدخولها جنة الخلد والرضا، وخلاصها من عذاب الخلد في النيران.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اقتصادنا، ج1، ص271.
(2) وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) قال: "ما كان عبد ليحبس نفسه على الله إلا أدخله الله الجنة" آمالي الشيخ المفيد، ص400.
حيدر حب الله
الشيخ محمد علي التسخيري
السيد عادل العلوي
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
حجّ هذا العام
تبياناً لكلّ شيء
زكي السالم: الجايّات أكثر .. فلا تتحسر
الأخلاقية: روح النظام الإسلامي وإطاره العام (1)
لوازم الأنس الإلهي (4)
العقل بوصفه اسمًا لفعل (4)
حول قتل الشغف في أبنائنا
اكتشاف جينات تؤّثر في بدء الأطفال الرضع بالمشي أوّل مرة
﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾
ما الذي سيصنعه الله معي؟!