مقالات

أوّل الذكر وآخره، الأنس والحبّ


الشيخ محمّد مهدي النراقي ..

النافع من الذكر هو الذكر على الدوام، أو في أكثر الأوقات، مع حضور القلب، وفراغ البال، والتوجّه الكلّي إلى الخالق المتعال، حتّى يتمكّن المذكور في القلب، وتتجلّى عظمته الباهرة عليه، وينشرح الصدر بشروق نوره عليه، وهو غاية ثمرة العبادات.
وللذكر أوّلٌ وآخِر، فأوّله يوجب الأنس والحبّ، وآخِرُه يوجبه الأنس والحبّ، والمطلوب منه ذلك الحبّ والأنس. فإنّ العبد في بداية الأمر يكون مُتكلّفاً بصرف قلبه ولسانه عن الوساس والفضول إلى ذكر الله، فإن وفِّق للمداومة أنس به وانغرس في قلبه حبُّ المذكور، ومَن أحبَّ شيئاً أكثر ذكره، ومَن أكثر ذكر شيء، وإن كان تكلّفاً، أحبَّه. ومن هنا قال بعضهم: (كابَدْتُ القرآنَ عشرين سنة، ثمّ تنعّمت به عشرين سنة). ولا تصدر النعم إلّا من الأنس والحبّ، ولا يصدر الأنس والحبّ إلّا من المداومة على المُكابدة والتكلّف مدة طويلة، حتّى يصير التكلُّف طبعاً. وكيف يستبعد هذا وقد يتكلّف الإنسان تناول طعام يستبشعه أوّلاً، ويُكابد أكله، ويواظب عليه، فيصير موافقاً لطبعه حتى لا يصبر عنه؟ فالنفس تصير معتادة متحمّلة لما تكلّفت: «هي النفس ما عوّدتها تتعوّد».
الذكر أنسٌ بعد الموت
ثمّ إذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى الله يفارقه عند الموت، ولا يبقى إلّا ذكر الله، فإن كان قد أنس به تمتّع به وتلذّذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ إنّ ضرورات الحاجات في الحياة تصدّ عنه ذكر الله تعالى ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنّه خلّى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته، وتخلّص من السجن الذي كان ممنوعاً فيه عمّا به أنسه، وهذا الأنس يتلذّذ به العبد بعد موته إلى أن ينزل في جوار الله، ويترقّى من الذكر إلى اللقاء.
قال الإمام الصادق عليه السلام: «مَن كانَ ذاكِراً للهِ عَلى الحَقيقَةِ فَهُوَ مُطيعٌ، وَمَنْ كانَ غافِلاً عَنْهُ فَهُوَ عاصٍ، وَالطاعَةُ عَلامَةُ الهِدايَةِ، وَالمَعْصِيَةُ عَلامَةُ الضَّلالَةِ، وَأَصْلُها مِنَ الذِّكْرِ وَالغَفْلَةِ، فَاجْعَلْ قَلْبَكَ قِبْلَةً لِلِسانِكَ، وَلا تُحَرِّكْهُ إِلّا بِإشارَةِ القَلْبِ، وَمُوافَقَةِ العَقْلِ، وَرِضى الإيمانِ، فَإِنَّ اللهَ، تَعالى، عالِمٌ بِسِرِّكَ وَجَهْرِكَ. وَكُنْ كَالنَّازِعِ روحَهُ، أَوْ كالواقِفِ في العَرَضِ الأَكْبَرِ، غَيْرَ شاغِلٍ نَفْسَكَ عَمّا عَناكَ مِمّا كَلَّفَكَ بِهِ رَبُّكَ في أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعيدِهِ، وَلا تَشْغَلْها بِدونَ ما كَلَّفَكَ بِهِ رَبُّكَ..».
فضيلة الأذكار
الأذكار كثيرة، كالتهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، والتسبيحات الأربع، وأسماء الله الحسنى، وغير ذلك. وقد وردت في فضيلة كلٍّ منها أخبار كثيرة، والمواظبة على كلٍّ منها توجب صفاء النفس وانشراح الصدر، وكلّما كانت أدلّ على غاية العظمة والجلال والعزّة والكمال، فهي أفضل. ولذا صرّحوا بأنّ أفضل الأذكار التهليل، لدلالته على توحّده في الألوهيّة، واستناد الكلّ إليه. وربّما كان بعض أسماء الله تعالى في مرتبته أدلّ، والعارف السالك إلى الله يعلم أنّه قد ينبعث في القلب من عظمة الله وجلاله وشدّة كبريائه وكماله ما لا يمكن التعبير عنه باسم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد