ورد في الحديث: "لِلْكَسْلَانِ ثَلَاثُ عَلَامَات: يَتَوَانَى حَتَّى يُفَرِّطَ، وَيُفَرِّطُ حَتَّى يُضَيِّعَ، وَيُضَيِّعُ حَتَّى يَأَثَمَ"[1]
يتوانى عن الشيء حتى يفرط فيه حيث لا تبقى الأشياء بانتظاره دائمًا، وإنما هي مرهونة بأوقاتها، وهي فرص محدودة بحدودها الزمانية والمكانية ولا تبقى إلى الأبد وفي كل الأماكن! فلنفترض: صلاة الجمعة. فإن النشط يقوم قبل وقتها بمدة كافية فيغتسل غسل الجمعة، ويتطيّب، ويتهيأ، ويبادر للذّهاب وقد حسب مقدار المسافة لكي يكون مع أول وقتها في المسجد.
وأما الكسلان فإنه يتوانى ويتأخر إلى أن يقترب وقت الآذان، فيضيق عليه الوقت أن يغتسل إذ الوقت لا يتوقف ولا ينتظره، وهكذا ضاع عليه الاغتسال، لكنه لـمّا كان متعودًا على التواني والتأخّر فهو يتوانى حتى عن الوصول إلى الصلاة وربما فاته أكثرها أو فاتته كاملة! فرط حتى فقد الثواب، لكنّه في موارد أخر قد يفرط حتى يأثم عندما تفوته الواجبات كصلاة الفجر. فهو يجعل المنبّه على ما قبل طلوع الشمس بدقائق، حتى إذا رنّ جرسه على ذلك الوقت توانى عن الاستيقاظ بزعم أنه سينهض بعد قليل وهكذا يفرط حتى يأثم بتأخيره صلاته إلى ما بعد طلوع الشمس!
وكما أنّ هناك كسلاً في أمور المعاش والحياة الاقتصادية، فهناك أيضًا ما يرتبط بالكسل في المجال العلمي.
ما هو الأسوأ من الكسل؟ هو التبرير الذي يسوقه هؤلاء لحالتهم! وهو عندما يقول: أنا هكذا، طبيعتي على هذا النحو! شخصيتي هكذا.
كلا! ليس هذا صحيحًا. لم تكن شخصيتك هكذا، بل هكذا أردت لشخصيتك أن تكون. وإلا فإن الله لم يخلقك كسولًا وخلق غيرك نشيطًا! أردت الكسل فصار وضعك هكذا. ولو أردت النشاط لتغيرت طبيعتك. لو عوّدت نفسك على الحركة والنشاط لاعتادت عليها. ولو تعودت على القيام فجرًا، والذهاب باكرًا إلى العمل أو العلم. لصار برنامج حياتك هكذا. لكنك لم ترد ذلك.
وبشكل عام فإن من أسوء التبريرات أن يعتمد شخص على قوله: أنا طبيعتي هكذا! ويتخذ هذا مبررًا له في وقت الغضب لأن طبيعته كما يقول أنه إذا انتقد أحد تصرفه أن يغضب! أو إذا تأخر عليه يشتم! أو إذا جاع يصرخ على غيره! أو ما شابه.. التبرير لكل هذه الأخطاء بأن طبيعته هكذا قد يكون أسوء من الفعل السيء نفسه. وذلك لأن التبرير ينبئ عن كونه متعايشًا مع الخطأ وقابلًا به، ويراه طبيعيًّا! وهذا من معاني (كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفًا)! ويستبطن أنه لا ينوي تغيير هذه (الطبيعة) ولا إعادة النظر فيها، إنه لا يبرر لها كخطأ وقع فيه، وإنما يبرر بها سائر الأخطاء!
لا بد من فضح هذا التبرير السقيم وعدم القبول به أبدًا. كيف صارت طبيعتك هكذا مع أن أخاك وشقيق نفسك ومن تربيت معه في بيت واحد وبيئة واحدة، نشط وسباق في مجالات العلم والعمل والرزق؟ هل عندما عجنت طينتك وضع فيها محلول الكسل والتواني والتضييع؟
إن نظرة في حياة العلماء العظماء لتشير بوضوح إلى أن هؤلاء لم يكونوا أصحاب ذكاء خارق بالضرورة وإنما كانوا نشطين في طلب العلم، تاركين للكسل وعوامله. ذلك أنه حتى أصحاب الذكاء الخارق إذا كانوا كسالى لا ينفعهم ذكاؤهم ذاك في صنع شيء مهم، بخلاف ما إذا كانوا نشطين رافضين للكسل فإن ذلك النشاط يوصله إلى مبتغاه حتى لو لم يكن ذكيًّا بشكل كبير.
وسنأتي بذكر مثال من علمائنا وهو المولى صالح المازندراني[2] نقل عنه القول: "أنا حجة على جميع طلبة العلم فإنني لا أتصور أحدًا أضعف حافظة مني ولا أكثر فقرًا". ومع ذلك فقد وصل إلى أعلى المراتب، وله شرح كبير على كتاب الكافي للكليني (الأصول والروضة) في اثني عشر مجلدًا وفيه بحوث دقيقة، كما له شرح على من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.
ونتناول جوانب من حياته المباركة، لنبدأ مما نسب إليه من أنه ممن يحتج بهم على طلاب العلم، فإنه ينقل عنه: أنه ما تعلم القراءة والكتابة إلا في الثلاثين من العمر! وذلك لأنه كما قيل كان كثير النسيان، فما يدرسه اليوم ينساه في اليوم الذي بعده، بل كان نسيانه إلى حد أنه يخرج من بيتهم، ثم ينسى أين هو، فيظل حائرًا كيف يعود إليه. أو يذهب اليوم إلى بيت أستاذه. ثم اليوم الثاني ينسى أين البيت! بل أحيانًا ينسى طريق منزله هو! ولكنه وصل إلى مرتبة قيل عنه فيها " كان ماهراً في المعقول والمنقول، جامعاً للفروع والأُصول".[3] ويتحدثون عن فقره فيقولون إنه كان قبل زواجه لا يملك غير ثوب واحد، فإذا تنجس أو اتسخ غسله وظل ينتظر حتى يجف، ثم يذهب فيه إلى الدرس. وأما وسائله في الكتابة والتحرير فكان يجمع الأوراق الموجودة في الطريق ويكتب عليها.
مع أن الحالة كانت في زمن أستاذه العلامة المجلسي الأول محمد تقي ووالد زوجته حالة يسر، وكان الورق فيها منتشرًا. واستمر به الحال هكذا إلى أن تزوج ابنة المجلسي الأول وأخت العلامة المجلسي الثاني محمد باقر، فتغيرت حالته بالتدريج. ومحل الشاهد في هذه القصة: أن هذا الذي كان ينسى إلى حد أنه لا يتذكر طريق منزله الشخصي، وطريق منزل أستاذه، والذي تعلم القراءة والكتابة وهو في الثلاثين من العمر، هو نفسه بسعيه ونشاطه واستمراه صار أحد أعاظم علماء الطائفة. مع أنه لم يكن لديه حافظة استثنائية بل ولا عادية.
أما النموذج الآخر في النشاط والسعي والدأب وعدم الكسل، وهو نموذج معاصر فهي المرأة الأمريكية المعروفة: هيلين كيلير.
هيلين كيلير، كاتبة وأديبة وناشطة سياسية، توفيت سنة 1968 عن عمر يقارب 79 سنة كانت فيها صماء وبكماء وخرساء! فهي قد أصيبت بعد ولادتها بـ 20 شهرًا تقريبًا، بمرض أفقدها السمع والبصر، وهذا يعني أن اثنين من منافذ المعرفة الثلاثة (السمع والبصر والفؤاد) قد ذهبا. لكن الذي لم يذهب عنها مساعدة والديها، وعزيمة بقيت تغذي طموحها باستمرار وتقدح إرادتها! ولولا ذلك لكان أقصى ما ستحققه أن تكون متسولة على قارعة طريق!
بمساعدة مدرّسة جلبها والدها لها، تمكّنت من تعلم الأشياء بالإحساس، باللمس، وبحركة الشفة حتى دخلت المدرسة الابتدائية بعد ذلك، والمدرسة المتوسطة، والمدرسة الثانوية، ثم الجامعة (هذا كلّه وهي لا ترى ولا تسمع) وتخرّجت في تخصص العلوم والفلسفة! وهي أول جامعيّة كفيفة البصر وصماء في تاريخ الجامعات.
ولأن (المرء يطير بهمته كما يطير الطير بجناحيه) فقد تعلّمت بالإضافة إلى لغتها الإنكليزية اللغتين الألمانية والفرنسية، ومارست أدوارًا سياسية وأسست جمعيات في هذا الاتجاه! وتعد داعية للحريات المدنية وقضايا النساء. كما ألفت ونشرت ثمانية عشرة كتاباً، ترجم بعضها إلى خمسين لغة منها قصة حياتها.
إن مثل هذه المرأة لتكون حجة على أولئك الشباب أصحاب الأسماع والأبصار والقوى العضلية، والذين يحارون بأنفسهم كيف يتدبرون أمر قوتهم وطعامهم!!
إن هذه الشخصيات تعلم الإنسان ألّا يتزيّ بزيّ الكسالى، بل أن يطلب العلم الديني أو الدنيوي بجد، وأن يبعد التواني من حياته حتى لا يفرط فيضيع فيأثم.
إن الكسلان يضيع عمره ويخسره بالتدريج بينما هو مطالب بأن يستثمر كل ساعة فيه، فإنما عمره هو أيام فإذا مضى يوم فقد مضى بعضه، ولذلك فينبغي في هذه الفترة الزمنية أن يكون كادحًا جادًّا سواء كان في أمر العبادة (يَا أَيُّهَا الْإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) أو العلم أو الكسب والمعاش.
ولقد صدق الشيخ حسن الدمستاني حين قال:
أنفاس عمرك أثمان الجنان فهل
تشري بها لهبًا في الحشر يشتعل
أرأيتم الساعة الترابية؟ فيها كرتان، علوية وسفلية، والعلوية مملوءة رملًا، ينساب بالتدريج في فتحة صغيرة للكرة السفلية، وكلما مر زمان نزلت حبّات الرمل حتى تنتهي بالكامل. وهي بهذا تلخص عمر الإنسان الذي تمر دقائقه وساعاته من فتحة ضيقة إلى كرة أخرى لا يمكن استرجاعها، فإذا مضت هذه مضى عمر الإنسان! "أنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك"[4].
والطريق الوحيد لتعويض العمر المتصرم هو الإنتاج والإنجاز فيه، سواء كان في أمور العبادة أو العلم أو الإنجازات الدّنيوية والمعاشية، وهذا ما لا يحصل للكسلان فإنه "يَتَوَانَى حَتَّى يُفَرِّطَ، وَيُفَرِّطُ حَتَّى يُضَيِّعَ وَيُضَيِّعُ حَتَّى يَأَثَمَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البروجردي؛ السيد حسين: جامع أحاديث الشيعة 14/ 80 عن أمير المؤمنين علي (ع) ورواه الصدوق في العيون عن أبي عبد الله (ع) وكذلك هو مروي عن الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) وعن لقمان الحكيم..
[2] توفي في أصفهان سنة 1081 أو 1086 هـ، ونقل عنه المحدث النوري في خاتمة المستدرك 2/ 197 أنه كان يقول: وكان (رحمه الله) يقول: أنا حجّة على الطلّاب من جانب ربّ الأرباب؛ لأنّه لم يكن في الفقر أحد أفقر منّي، وقد مضى علَيّ برهة لم أقدر على ضوء غير ضوء المستراح. وأمّا في الحافظة والذهن فلم يكن أسوأ منّي، إذا خرجت من الدار كنت أضلّ عنها وأنسى أسامي أولادي، وابتدأت بتعلّم حروف التهجّي بعد الثلاثين من عمري، فبذلت مجهودي حتّى مَنّ اللّٰه تعالى عَلىّ بما قسمه لي...
[3] روضات الجنات / محمد باقر الخوانساري
[4] ميزان الحكمة 3/ 2112 عن غرر الحكم
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
تطوّر اللّغة واضطراباتها، جديد المترجم عدنان الحاجي
القرآن وخلق العالم
مفهوم العبادة وحدّها
أملٌ وَشيك
من كان في هذه أعمى
السيد حسن النمر: من يحبهم الله ومن لا يحبهم (2)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (8)
كانت الأحلام
جمعيّة ابن المقرّب تحتفي باليوم العالميّ للّغة العربيّة
طاهرة آل سيف و (رسائل متأخّرة) في أدبي جازان