كان أصعب الأمور تعقلاً على الناس؛ كيف يتولى صبي في الثامنة من العمر الإمامة مع ما تحتاج إليه من إمكانات علمية هائلة، ولا سيما على ما يراه الإمامية حيث أن الإمام عندهم له مواصفات خاصة - علمية وعملية - لا يصل إليها شخص مهما علا إلا إذا كان منتخبًا من الباري سبحانه.
ومثلما هو اليوم مستغرب عند بعض الناس، فقد كان كذلك في حينها بل ربما كان بنحو أشد. ولتوضيح الأمر نقول: مرجع هذا كله إلى الاستغراب والاستبعاد وليس راجعاً إلى استحالة عقلية، أو عدم إمكان وقوعي.. وإنما لأن الناس لم يروا ولم يشاهدوا قبل هذه الحادثة أن صبيًّا يؤتيه الله العلم والحكمة، وإنما اعتادوا على أن العالم إنما يكون كذلك إذا ضرب في العمر وطعن في السن فستزداد مداركه ومعارفه، وأما الصبي فلا يحصل له ذلك.
ونسي هؤلاء أو غفلوا أن الإمام - بالمقياس الشيعي - حتى لو كان كبير السن فإنه لم يكتسب هذه العلوم المتنوعة بل الغريبة بشكل طبيعي واكتساب متعارف، وإنما علمه بها كان بشكل خاص ولطف إلهي، وإلا فلا معنى لأن يتقن الإمام لغات كثيرة وهو لم يدرسها ولم يعش في بيئاتها ثم يتكلم بها بنحو أفصح من أبنائها الأصليين!
ولا معنى لأن يتقن مختلف العلوم من طبيعية ودينية وتاريخية وغيرها، ولم يعرف عنه أنه درس على يد مدرس معروف! فإذا كان هذا العلم يأتي بغير الطريق الطبيعي فلا فرق حينها بين أن يكون كبير السن أو صغيره!
ويمكن أن يتم رفع الاستغراب والاستبعاد هذا بطرق:
الأولى: التأكيد على قدرة الله سبحانه على إعطاء هذا المقدار من العلم والإمكانات فإنه على كل شيء قدير. وقد استعمل الإمام الجواد عليه السلام هذه الطريقة مع أحد المخالفين له والذي كان يشكك قائلاً: إنّ شيعتك تدّعي أنّك تعلم كلّ ماء في دجلة ووزنه؟ وكنّا على شاطئ دجلة.
فقال عليه السلام: يقدر الله تعالى على أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضته من خلقه أم لا؟
قلت: نعم! يقدر.
فقال: أنا أكرم على الله تعالى من بعوضته ومن أكثر خلقه.
وهذه الطريقة إنما ترفع الاستغراب وتثبت إمكان ذلك وعدم تعسره، ولا تثبت وقوع القضية وحصول العلم، وإثبات القضية يتم بما سيأتي من التحدي العملي.
الثانية: رفع الاستبعاد والاستغراب بالتأكيد على أن مثل هذا قد حصل ووقع في حياة البشر وتاريخ الأنسان، لأكثر من مرة، وفي موارد هي بنظر الناس أكثر أهمية، فلو حصلت هذه المرة أيضاً فلا استحالة فيها ولا بُعد! وذلك بالبرهان على أن الله سبحانه بعث عددًا من أنبيائه وهم في هذا السن أو دونه.
فقد جعل الله سليمان بن داود وآتاه من الملك ما لم يؤت أحدًا قبله، فقد كان {وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَة تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ - وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ} {وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ - وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ}[1].
كل ذلك الذي كان فيه إمارة الدين والدنيا، مع أن سليمان كان حين آتاه الله النبوة ابن اثنتي عشرة سنة... فإن عظمة النبي سليمان وسعة ملكه وعلمه في نفوس الناس، وفي نفس الوقت توليه كل ذلك وهو بعمر اثنتي عشرة سنة مما ينبغي معه أن يرفع الاستغراب عندما يقال لهم تولى الإمام الجواد الإمامة وعمره ثمان سنين أو تسع!
وهكذا الحال في شأن النبيين العظيمين عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، فإن الأول هو من أنبياء أولي العزم الذين كانت لهم رسالة عالمية شاملة، ومع ذلك يتحدث عنه القرآن قائلاً {فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّا - قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّا}[2]، وكذلك الحال في يحيى بن زكريا النبي حيث خاطبه ربه {يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّا - وَحَنَانا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةۖ وَكَانَ تَقِيّا}[3].
فهؤلاء أنبياء ثلاثة أحدهم سيطر على الدنيا وملكها بما لم يحصل لأحد قبله، بالإضافة إلى سيطرته على الدين والشريعة، وقد أوتي النبوة صبيًّا صغير السن، والآخر كان من أولي العزم أصحاب الرسالة العالمية، وبجانبه يحيى النبي وقد أوتيا الكتاب والحكم صبيين!
فإذا كان هذا قد حصل في نفس الإطار الديني الذي يتحدث الإمامية عن حصوله للإمام الجواد (ومن بعده سيحصل للإمام الهادي وللإمام المهدي عليهم السلام) فما هي الغرابة في ذلك؟ ولماذا عندما يحصل للأنبياء يكون الأمر طبيعيًّا، بينما عندما يحصل للأئمة يكون غير طبيعي؟
الثالثة: رفع الاستغراب من خلال حصول نوابغ بشرية (لم تكن لهم صفة إلهية ولا كان ينتظر منهم دور رباني) حصل لهم من العلم الاستثنائي والمعارف المحيرة للعقول وهم أطفال أو صبيان.. وقد سجلت حالاتهم في العصر الحديث كما نقلت حالات أخر في العصور السابقة.. فإذا كان هؤلاء لهم هذه الكفاءات الاستثنائية من العلم والذكاء والمعرفة، وهم لم يُعَدّوا لدور الهي أو استثنائي فما الذي يمنع منه بالنسبة لإمام أو أئمة قد أعدوا للقيام بأدوار إلهية ومهمات ربانية وهي هداية الخلق؟
وقد أشرنا في كتابنا الإمام المهدي: عدالة منتظرة ومسؤولية حاضرة إلى هذه الفكرة في الرد على استبعاد توليه عليه السلام الإمامة وهو صغير السن، وننقل خلاصة ما ذكرناه هناك فقد قلنا؛ إنه يوجد «للإنسان عُمْران؛ عمر تكويني وآخر عقلي» التكويني هو هذا العمر الظاهري الذي يتأثر بالزمان، فهو في البداية طفل ذو مدارك ومعارف محدودة، وبالتدريج يصبح شاباً فيكتسب معارف جديدة وعلوماً حادثة، وبتتبع نظره في ما حوله وتأمله ينمو عقله، حتى يبلغ أشده كما يقول القرآن ببلوغ أربعين سنة.. ثم يميل تدريجياً باتجاه الانحدار في القوى العضلية والعقلية والإدراكية، حتى يصل {إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}[4] من الناحية الإدراكية، ويحتاج إلى من يتولى له أبسط الأمور من الناحية البدنية! هذا العمر التكويني يمر به غالب البشر.
لكنَّ هناك عمرًا عقليًّا للإنسان قد يرتبط بعمره التكويني ويمر بنفس المراحل السابقة التي ذكرت، وقد لا يرتبط، أي من الممكن أن يكون عمر أحدهم خمس سنوات ولكن عمره العقلي خمسون سنة وآخر قد يكون عمره التكويني أربعين سنة ولكن عمره العقلي أربع سنوات.
ليس جميع البشر محكومين بارتباط عمرهم العقلي بعمرهم التكويني دائمًا، والشاهد على ذلك وجود النوابغ والنوادر من البشر.
فقد ذكروا أن أصغر نابغة في العصر الحديث ويسمى (آدم كربي) من بريطانيا كان قادرًا وهو في عمر سنتين على تهجئة أكثر من مئة كلمة من أعقد الكلمات في اللغة الإنجليزية، وهذا لا يمكن تفسيره ضمن معادلات العمر التكويني، فمن كان في ذلك السن بالكاد ينطق الكلمات الأولية! يتابع الباحثون حالة ذلك النابغة ليقولوا إنه لما صار عمره ثلاث سنوات بدأ يقرأ اللغة الفرنسية ويتكلم بها بطلاقة وعندما بلغ ثلاث سنوات ونصف أصبح يقرأ لشكسبير ويأخذ عليه إشكالات في التعبير والإنشاء!
كذلك فإن من كتبوا عن حياة موزارت الموسيقي المعروف قالوا إنه كان عمره ثلاث سنوات حينما بدأ يعزف أول مقطوعاته الموسيقية، ولما اكمل أربع سنوات كان والده يدور به في أوربا وهو يؤلف المقاطع الموسيقية ويعزفها!!
وفي بلاد المسلمين، وجدنا أشخاصًا متعددين، بعضهم كان يحفظ القرآن الكريم كاملاً بالقراءات العشر، وبعضهم كان يقرؤها مع ترجمتها باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولم يعرف عنه أنه درس أيًّا منهما!
إن هذه النماذج ما هي إلا تقريب لتجلي الله في قدرته ووضعه شيئًا من عظمته في بعض عباده، ليتجاوز المألوف والطبيعي بين الناس، ويثبت لهم عياناً {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]. وإذا كان هذا النبوغ يحصل لشخص عادي بل لمن سيسخره في الموسيقى، فهل يمتنع ذلك على النبي والامام اللذين أعدهما ربهما لهداية البشر إلى منهاجه؟
هل سيقبل الناس بمعلم نابغة سابق لعمره بعشرات السنين ولكنه صغير السن (ابن عشر سنوات) في تدريسه في الجامعة أو أنهم سيرفضونه بدعوى أنه ليس كبير السن ولا عظيم الجسم؟
ننتهي مما سبق إلى نتيجة أن المدار في الاتباع والطاعة ليس السن في صغره أو كبره، وإن كانت العادة أن يكون النبي أو الإمام في سن متعارفة، بل النبي يبعث عادة في سن الأربعين. لكن هذا ليس قاعدة نهائية فقد رأينا في يحيى وعيسى خلاف ذلك، وبينّا أن العمر التكويني ليس هو المقياس وإنما العمر العقلي.[6].
الرابعة: إثبات الأمر بالتحدي العملي: لقد كان الميزان في إلزام الخصوم هو تحديهم عمليًّا، فها هو القرآن يفتح ميدان التحدي لخصومه {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[7]، وها هو سيد الأوصياء عليٌّ بن أبي طالب يتحدى «سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماوات أعلم مني بطرق الأرض..»، وها هم أئمة الهدى عليهم السلام يتحدون غيرهم فلا يثبت الغير أمامهم في الميدان، ويتحداهم غيرهم فيغرقونه في شبر ماء! فلقد جرب الخلفاء العباسيون بدءًا من أبي جعفر المنصور مع الإمام الصادق مستعينًا تارة بأبي حنيفة وأخرى بغيره، تحدي الإمام جعفر الصادق ومحاولة إحراجه بالمسائل الصعبة الشديدة فإذا به يلقي أمامهم من علومه ما يجعل أبا حنيفة يقول للمنصور (إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس).
ومثله صنع الإمام موسى بن جعفر الكاظم مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، والإمام الرضا في ذلك المجلس الكبير والمؤتمر العالمي الذي جهز له المأمون وكان مدار السؤال والجواب على الإمام الرضا عليه السلام حيث أجاب «على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم».[8]
وعلى نفس الطريق سار الإمام محمد الجواد عليه السلام، فقد كان مخالفوه (من الواقفة، بل والزيدية في الشيعة) ومن أتباع مدرسة الخلفاء كفقهاء وخصوصاً أولئك المتحفزين ضده من البيت العباسي، واستعانوا بمن كانوا يعتقدون فيه أنه أعلم أهل الأرض لكي يعجز (الصبي الذي لا فقه له كما زعموا).
ولذلك فقد عقد يحيى بن أكثم معه مجالس متعددة لكي (يحرجه) في ما ظن بأعقد الأسئلة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النمل: 16- 17
2- سورة مريم: 29- 31
3- سورة مريم: 12- 13
4- سورة الحج: 5
5- سورة الطلاق: 13
6- آل سيف؛ فوزي: الامام المهدي؛ عدالة منتظرة 43
7- سورة هود:13
8 الصدوق: عيون أخبار الرضا ١/١٤٠ وقد مر في حاشية سابقة، الإشارة لمصادرها.
السيد جعفر مرتضى
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ جعفر السبحاني
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
على باب الجواد أنختُ ركبي
البازي الأشهب والجواد (ع) والمأمون
صناعة الخوصيّات، جديد الكاتب طاهر المدن
الإمام الجواد وتجلي علم الله سبحانه
الإمام الجواد: (وَآتَينَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا)
اشتقاق لفظة القرآن
القرآن مجد وعظمة ومتانة ووضوح
الفلسفة، أهدافها ومراكزها
الاعتقاد بعقل الآخرين
الإمام الجواد (ع) ومحنة الإمامة