فجر الجمعة

الشيخ محمد علي الأحمد: النبي محمد (ص) عظمة الشخصية وسمو الذات

ألقى سماحة الشيخ محمد علي الأحمد خطبة الجمعة، 30-8-2024 في جامع الإمام الباقر في صفوى، وفيها تناول موضوعًا بعنوان: "النبي محمد (ص) عظمة الشخصية وسمو الذات"  أشار فيه إلى حجم الإنجاز الذي قام به النبي (ص) على مستوى الأمة.

 

أعوذ بالله من الشيطان الغوي الرجيم 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله المتفضل فلا يبلغ مدحته الحامدون، المنعم فلا يحصي نعمته العادّون، الكريم فلا يحصر مدى كرمه الحاصرون، الكامل في ذاته وصفاته فلا يقدر على إدراكه المجتهدون، القديم فلا أزلي سواه، الباقي فكل شيء فانٍ عداه، القادر فكل موجود منسوب إلى قدرته، العالم فكل شيء مندرج تحت عنايته. نحمده على أفضال أزادها إلينا، ونشكره على نوال تكرم به علينا، ونستزيده من نعمه الجسام، ونستفذه من عطاياه العظام.

والصلاة والسلام على أشرف النفوس الزكية، وأعظم الذوات القدسية، محمد المبعوث رحمة، وعترته الهادية المهديّة، صلاة تامة نامية باقية إلى يوم الدين. 

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى واتباع أوامره واجتناب معاصيه، فإن التقوى حصن حصين. "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". الآية تعرض لنا النموذج الأسمى، النموذج الإلهي الأسمى. ولا شك أن القرآن عندما يعرض لنا النموذج الإلهي الأسمى، فإنه يقف في الدرجة الأولى عند الأنبياء والرسل، الذين يمتلكون تلك الشخصيات العظيمة التي تظهر من خلال خصائصها وتتجلى في ساحة الحياة، ساحة العمل.

 

ونحن على أعتاب ذكرى شهادة النبي ورحيله والتحاقه بالرفيق الأعلى، أمام الشخصية الأعظم والأقدس، الجامعة المانعة، التي حيّرت العقول. هذه الشخصية استمدت عظمتها من خلال العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى. كونه عبدًا لله: "سبحان الذي أسرى بعبده"، لم يقل بنبيه أو برسوله بالرغم من عظمة مقام النبوة والرسالة، لكن قال تعالى "بعبده". وصل لمقام العبودية المطلقة، والتي هي من أعلى مراتب الكمال وأرفع المقامات الإنسانية. ليس لأحد أكمل من خلق الله العبودية المطلقة، وكان ذلك لخاتم الأنبياء للنزاهة التامة، للصدق، للأمانة التي امتلكتها نفسه المقدسة. كيف لا وهو الأفضل وهو الأكمل في عالمنا، في عالم الحياة؟

يقولون إذا أردت أن تكتشف عظمة أي شخصية، كيف تعرف ذلك؟ من خلال حجم الإنجازات التي أنجزتها. هذا في عالمنا، في عالم الحياة، من خلال الإمكانات والموارد المتاحة لها. كلما كانت هذه الإمكانات والموارد المتاحة قليلة وكان الإنجاز أكبر، فهذا يكشف عن عظمة الشخصية. من خلال سرعة تحقيق هذه الإنجازات، لما نأتي إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وآله، ما ميّزه عن بقية الرسل؟ ما هو حجم الإنجاز الذي حقق؟ بالرغم من فارق الأعمار بينه وبين الأنبياء من سبق، أعمارهم أطول، وهو وإن كان ضمن هذه السلسلة، سلسلة الأنبياء والرسل، خلفاء الله، يعملون كفريق عمل واحد بأمر الله وتحت قيادته، ويخضعون للمنهج الإلهي في دعوة العباد إلى الله، لكن حجم الإنجاز الذي أنجزه رسول الله لا يقارن بأي إنجاز. فأنت أمام شخصية امتلكت من الخصائص والخصوصيات.

 

يقولون هناك شخصيات تؤثر أو أثرت في التاريخ، في تاريخ البشرية. أما عن رسول الله، ما أحدثه برسالة الإسلام يعد تحولًا وتغيرًا جوهريًّا لمسار حركة التاريخ وما زال يؤثر إلى هذا اليوم. نبي عندما بعث إلى أمة كانت الصورة مظلمة عن تلك الأمة قبل الإسلام، قبل مجيء النبي. السيدة الصديقة عليها السلام في خطبتها تقول: "كنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، نهزة الطامع، قبسة العجلان، موطئ الأقدام، تخافون..." إلى أن تقول: "تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله بمن؟ فأنقذكم الله تعالى بمحمد". حجم الإنجاز يُعرف لما ترى أن ذلك المجتمع كيف عاش العصبية المقيتة، عاش القومية وأمراض القومية. واقع سيء، كانت الحالة سيئة، بحاجة أولًا إلى إشاعة حسن الظن واجتناب سوء الظن والتحامل. هذه مسألة مهمة. الأحقاد والضغائن وصلت إلى مستوى قياسي. النبي أراد قلوبًا نقية، لابد أن يبدأ بتنقية الأجواء، لابد أن يهتم بهذه العلاقة التي بين الناس، لابد أن تكون العلاقة علاقة سليمة. يأتي البعض إليه، يذكر الآخر أمامه بسوء، يتحدث البعض عن البعض بسوء، كان ينهى عن ذلك. "لا يحدثني أحد بشيء، ولا تكثروا قول السوء عن بعضكم البعض". البعض دائمًا لديه هذه الذهنية السلبية، دائمًا سلبي في الحياة. النبي أراد أن يعيش الناس الإيجابية قدر الإمكان، أن يحول تلك المساوئ إلى محاسن، والسلبيات إلى إيجابيات. لما تدرس السلبيات، هل يمكن لأحد أن يتقبل كلامًا من أحد؟ ليس بالإمكان ذلك. ولكن لما تتحول هذه السلبيات إلى إيجابيات، يمكن أن يقبل الإنسان من الإنسان.

حجم الإنجاز يُكتشف من خلال جعل هذه البشرية تنقاد للأخلاق والقيم، أن تشعر بالمسؤولية. لما كان يرى أي خطأ اجتماعي، أي سلوك قاطع، السكوت عنه قد يسهم في تعميمه. البعض يقول: "أنا لا دخل لي في ذلك، لما أرى سلوكًا خاطئًا، لا دخل لي في ذلك، أقف مكتوف اليدين". ولكن النبي صلى الله عليه وآله يسعى وسعى لتصحيح ذلك السلوك. فهناك نقلة عظيمة أحدثها رسول الله صلى الله عليه وآله بالإسلام. لم يؤثر في التاريخ العربي فقط، بل أثر على المستوى الإنساني.

 

فعندما يُقاس قائد للأمة الإسلامية، بمن نقيس؟ القياس والمعيار هو رسول الله صلى الله عليه وآله. ننظر إلى مستوى الاقتداء بالنبي، المؤهلات العلمية للنبي كوليّ ومرجع للأمة، وكونه أعلم زمانه بالعقيدة الإلهية، وأفهم أهل زمانه بأحكامها، أحكام الدين، أفضل الخلق. هذه المؤهلات تجعله هو المقياس الذي يقاس عليه. أعلم بالعقيدة، أنسب لقيادة الأمة، الأفضل والأفهم بالأحكام، مقاييس موضوعية. كيف عرفنا أن هذه المؤهلات التي وهبها الله سبحانه وتعالى له؟ لما تنظر إلى المهام التي زاولها بأمر رباني، مهام عديدة اختص بها دون سواه. النبوة، الرسالة التي يتجلى دورها في تبليغ الأحكام الإلهية، وتلقاها عن طريق الوحي، وكان يبلغ ما يوحى إليه بصفته رسولًا، وبصفته حجة لله تعالى على العباد. صحيح هناك أحكام، ولكن هذه الأحكام ليست فقط أحكامًا عبادية: صوموا، صلّوا، حجّوا. كانت هناك أحكام تتعلق بالأمة، بالمجتمع. لما تأتي إلى مسألة القضاء مثلًا، هذا القضاء الذي هو منصب مهم وحساس، أن يحكم الإنسان بين شخصين، هذه مسألة حساسة. نتيجة لهذا لابد من وجود القضاء، نتيجة للاختلاف الحاصل، نتيجة لحدوث المشاكل في الحياة. هناك حقوق اجتماعية، كل يرغب أن يتحصل على حقوقه. هذا يتطلب شخصية مؤهلة، يتطلب شخصية تستطيع أن تحق الحق وتدفع الباطل. ولكن ما هو الواجب على الأمة الآن؟ أفضل الخلق موجود، ولكن الأمة عليها التسليم للنبي: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، يعني تسليم، يعني انقياد، "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا". تسليم كامل أمام أحكام النبي، مهما كانت. كيف نتعامل مع "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". واقعًا ما أحوجنا في هذا الزمان إلى أن نرجع إلى الهدي المحمدي، نعرف كيف نتعامل مع بعضنا البعض، نعرف كيف نتعامل، كيف تكون العلاقات الاجتماعية المبنية على الأخلاق الفاضلة. ننظر إلى شخص النبي كيف كانت تلك الشخصية المتواضعة، نموذج مثالي في التواضع. الإمام ينقل لنا ما كان عليه جده المصطفى صلى الله عليه وآله: "ما أكل رسول الله متكئًا منذ أن بعثه الله حتى قبض، يأكل أكلة العبد يجلس جلسة العبد تواضعًا لله". فهو يسعى من أجل بناء الإنسان، فلا بد أن يكون هو القدوة. هاجسه الاهتمام بالخلق، كيف يسيّر هذه العقبات، تيسير العقبات التي قد تعترض طريق البشرية. لابد من شخصية تعيش الآلام وتسعى إلى الآمال. ننظر إلى سلوكه الاجتماعي: مدرسة الحلم والعفو. الحلم عن من؟ عن أخطاء من أساء إليه، العفو عن سيئاتهم. كان نهجه الدفع بالتي هي أحسن، هو نهجه.

 

لم يكن للحقد والبغض أي طريق وسبيل إلى قلبه، ما سعى للانتقام من أحد بالرغم من القسوة، بالرغم من الوحشية التي عُومل بها، مثلًا -جسد عمه الحمزة- كان يستطيع الانتقام من وحشي وكان في قبضته. كان يخوض صراعًا مع ذلك المجتمع المكي لرفع الظلم. سادت العنصرية، سادت النزعة الدموية العدوانية الطبقية. المجتمع المكي أراد أن تكون للإنسان كرامة. لما كان ذلك المجتمع ينتهك كرامة الإنسان، يكبت حريته، يسلب إرادته. مجتمع متسلط، كيف؟ من خلال ما وهبه الله سبحانه وتعالى: "ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك". استطاع أن يجذبهم إليه، كان يتألم على كفر المكذبين له، يتألم على جحودهم بآيات الله. كما هو الحال في أي زمان، البعض لو تقدم له كل الأدلة العقلية فضلًا عن النقلية لا يؤمن، مع ذلك شعاره: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". لهذا يخفف الخالق عن رسول الله: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا". هؤلاء المشغولون بالدنيا، بزخارف الدنيا، "لا تذهب نفسك عليهم حسرات". جبرائيل لما رأى عدم استجابة الأمة للنبي، خاطب الرسول: "إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، قد أمر ملك الجبال أن تأمر به بما شئت فيهم". ماذا كان جواب النبي؟ "أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من لا يشرك به شيئًا". ننظر إلى منطقه، أحسن الناس منطقًا، سلوكه العائلي، كيف يتعامل في العائلة من خلال المداراة. مسألة المداراة لما يتعرض إلى المضايقة، شعاره: "خيركم خيركم لأهله". كان الأب المثالي، كان الأب المثالي لفاطمة التي عندما تأتي إليه يقوم من مقامه إجلالًا لها. ما أحوجنا اليوم إلى تذكر رسول الله، إلى عفوه، إلى صفحه، إلى زهده، إلى أخلاقه. أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا ممن يتبع هذا النبي والمرزوقين لشفاعته، إنه سميع مجيب. 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله الذي لا يتكل على عفوه ورحمته إلا الراجون، ولا يحذر غضبه وسطوته إلا الخائفون. اللهم لك الحمد يا من شرّف أولياءه بلقائه، واحتجب عن أبصار خليقته. 

صلّ اللهم على مظهرك الأتم، وجامع الكلم والحكم، والمنزّل عليه ما يُهدى به للتي هي أقوم. اللهم صلِّ على محمد كما حمل وحيك وبلغ رسالاتك، وصلِّ عليه كما أحلّ حلالك وحرّم حرامك، وعلّم وعمل بكتابك. وصلِّ على محمد كما صدّق بوعدك، وأشفق من وعيدك. وصلّ على محمد كما غفرت به الذنوب، وسترت به العيوب، وكشفت به الكروب، ودفعت به الشقاء، ونجيّت به من البلاء. اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما صلّيت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وصلّ على إمام المتقين، أخي نبيك ووصيه ووليه ومستودع علمه وحامل حكمته، والناطق بحجته، والداعي إلى شريعته. وصلّ على الصديقة الطاهرة فاطمة حبيبة حبيبك وبنت وليك ونبيك، التي انتجبتها واخترتها وفضلتها على نساء العالمين. وصلّ على سبطي الرحمة، وسيدي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين. وصلِّ على أئمة المسلمين: علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والخلف القائم المهدي الذين فرضت طاعتهم وأوجبت حقهم على العالمين. حفّه إلهي بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين. 

 

اللهم اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله. اللهم أبدله من بعد خوفه أمنًا يعبدك لا يشرك بك شيئًا. اللهم أعزه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصرًا عزيزًا وافتح له فتحًا يسيرًا، واجعل له من لدنك سلطانًا نصيرًا. اللّهم أظهر به دينك وسنة نبيك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من خلقك. اللهم انصر المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، واجعل التقوى زادهم والرحمة في قلوبهم وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت بها عليهم وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه إله الحق وخالق الخلق اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات تابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات، إنك رفيع الدرجات ومبدل السيئات حسنات. 

هذا والله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون. والسلام عليكم ورحمة الله.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد