فجر الجمعة

الشيخ عبد الجليل البن سعد: الانتماء الصادق

الشيخ عبد الجليل البن سعد
مسجد الإمام الحسين ع بالحليلة في الأحساء
Dec 20, 2024 - ١٨ جمادى الثاني 1446 هـ

 

قال تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". [الحجرات: 13].

ذكرى سعيدة ومناسبة طيبة نروي فيها قلوبنا وتجتمع تحتها أطيافنا، حيث مولود بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله، وحيدته وعزيزته، فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه تعالى عليها.

من خلال هذه المرأة الفاضلة العظيمة بعظمة الحكمة والعصمة والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله، نتحدث عن فكرة الانتماء.

الانتماء: عهد ومسؤولية

الانتماء هو عهد يتخذه الإنسان بينه وبين طرف آخر.
والغريب في موضوع العهود البشرية أن أكثر العهود التي يخلص لها الإنسان هي عهود مجانية.
ونقصد بالعهود المجانية أنها عهود لا تتطلب منه قيمة، ولا تعود عليه بقيمة حقيقية.

الإنسان والعهود

وكذب من يقول: "لا عهد في ذمتي لأحد".
لا ملحد، ولا مؤمن، ولا متدين، ولا منتمٍ إلى أيّ طائفة من الطوائف، ولا حتى ذاك "اللا منتمي" الذي يرى نفسه بلا انتماء، الجميع يحمل عهدًا في طيات جوانب حياته.

  • من لم يعاهد أهل البيت عليهم السلام:
    تراه قد عاهد السلف.

     

  • من لم يعاهد السلف، لا أهل البيت ولا السلف:
    تراه قد عاهد عشيرته.

     

  • من لم يعاهد بالعهد العشائري:
    تراه قد عاهد قوميته.

     

فمن هو الإنسان الذي يدعي أن ذمته خالية من أي عهد؟
لا يوجد إنسان يعيش من غير عهد.

 

العهد المسؤول: العهد الذي جعله الله عز وجل

ولكن ليست كل العهود متساوية في قيمتها وأهميتها.

  • هناك عهود ليست صادقة.

  • وهناك عهود ليست ذات قيمة.

العهد الصادق والقيم هو العهد الذي جعله الله عز وجل مسؤولاً للإنسان.
ابحث عن العهد الذي جعله الله سبحانه وتعالى عهداً مسؤولاً بالنسبة لك.

  • ذلك العهد المسؤول هو واحد لا يُثنى.

  • لا يمكن أن نتعداه إلى غيره.

أما سائر العهود، كالعهد للقومية، أو العهد للعشيرة، أو العهود ذات الطابع التاريخي أو الاجتماعي، فهي عهود مجانية، لا قيمة حقيقية لها أمام العهد الذي وضعه الله عز وجل.

وربما تكون هذه العهود ضارة، وربما تكون نافعة، ولكن إذا أردت العهد النافع الذي لا مضرة فيه، فهو العهد المسؤول، العهد الذي جعله الله عز وجل.
وفي تقديرنا، نحن الشيعة من المسلمين ومن البشرية، نرى أن هذا العهد هو العهد مع أهل البيت، صلوات الله وسلامه عليهم.
فهذا العهد هو الذي يؤمن حياة مستقيمة، وهو العهد الذي يعزز فينا روحًا آمنة مطمئنة.

 

سائر العهود وتأثيرها

  • عهود القومية:
    كما تعطي تأخذ، لكنها في كثير من الأحيان تعطي بأقل مما تأخذ.
    الذين يعيشون ويكدحون في سبيل قوميتهم يعملون بجد وإخلاص لها.
    ربما استطاعوا أن يبنوا حضارة، وربما تمكنوا من ذلك لأنهم ورثوا حضارتهم عن قوميتهم.
    وربما كان من منجزهم اللغة.
    فهم ينجزون حضارات، وينجزون لغات، وينجزون أشياء كثيرة جدًّا.

    ولكن بانتسابهم، فإن انتماءهم للحضارة دائمًا يكون ساحقًا لغيرهم.
    وكأن القومية لا تُبنى إلا على هدم الأخرى.
    ترى القومي، بقدر ما يهتم بقوميته ويعلي من قواعدها، يرفع من شأنها بقدر ما ينسف قواعد القوميات الأخرى.
    فهو لا يريد أن يعترف إلا بالقومية القطبية الواحدة.

     

  • عهود العشيرة:
    من يعطي الانتماء والعهد للعشيرة، فإنه يعيش ذاتوية سلبية، ويعيش الانطواء، ويعيش التحسس من كل عشيرة أخرى.
    في العشائرية، يسخرون ممن يتزوج من خارج عشيرتهم.
    في الأنظمة العشائرية:

     

    • لا يوجد خطأ صغير إذا صدر من العشيرة الأخرى.

    • لا يوجد خطأ كبير إذا صدر من داخل عشيرتهم.

  • إذا صدر خطأ من هذه العشيرة، فيجب أن يتسامح معه أبناء العشائر الأخرى.
    وإذا صدر خطأ من أحد أفراد العشائر الأخرى، فإنها الحرب، وتُدق طبولها.

    لا توجد مرونة، ولا يوجد انفتاح.

     

  • الولاء للسلف:
    الولاء للسلف قد يكون فيه شيء من الإيجابية، حينما نقصد خصوص ما صحّ من السلف، وخصوص ما نصححه من موروثهم.
    أما إذا كان الولاء يقود للعصبية، ويقود للغلو فيمن هم في عداد البشر العاديين الذين يحسنون ويسيئون، يخطئون ويصيبون، فهذا الولاء يقود إلى كارثة.
    هذا ينتهي بالأرواح إلى كارثة روحية.

     

حكاية العهد

حينما نتحدث عن العهد، فإننا نتحدث عن حكاية خطيرة لأنها:

  1. لا تخضع للمنطق.

  2. لا تخضع للتفكير المجرد.

الأغلب من بني البشر يُولدون في سجن من هذه السجون المعنوية.
وإذا كانت السجون تحجب الرؤية بالظلم، فإن هذه السجون تحجب الرؤية بالألوان لا بالظلمة.

تحجبك بالألوان.

  • أنت ترى الألوان، ولكنك في الواقع ترى بعينها، لا بعينك.

  • أنت ترى بعين قوميتك، وأنت ترى بعين عشيرتك، وأنت ترى بعين ذلك المركز أو ذاك من المراكز التي تمركزت عندها.

 

العهد القيمي والمسؤول

الانتساب والانتماء لأهل البيت عليهم السلام هو العهد القيمي والمسؤول.
هذا العهد يعود بنا إلى:

  • التجرد من العصبيات.

  • التجرد من القوميات.

  • الانفتاح على الآخرين بقيم إيجابية.

"إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".

أما إذا جئنا إلى العهد القيمي والعهد المسؤول، فهو الانتساب والانتماء لأهل البيت عليهم السلام.
لأن هذا الانتساب وهذا الانتماء يعيدنا إلى الآية المباركة التي تبين لنا كيف نتجرد من أنفسنا ونتجرد من قومياتنا، ونصبح على استعداد للتداخل والتمازج والتواصل، ونصبح على استعداد للانفتاح الإيجابي الصحيح القيمي.

كيف يكون ذلك التجرد؟
يقول: انتبه! انتبه أن تهتم بنفسك أو أن تنتمي لنفسك كذكر، أو أن تنتمي أنتِ لنفسك كامرأة.
"إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" ولكن ليس لتنتسب أنت لذكوريتك، ولا لتنتسبي أنتِ لأنوثتك.
يجب أن تكون على استعداد للتجرد من الذات.
التجرد من الذات.

الذكر بالعهد الصحيح والمسؤول والقيمي هو الذي يستطيع أن يقيس بنفسه من ليس بذكر.
والأنثى المعاهدة بالعهد والقيم هي التي تستطيع أن تقيس بنفسها من ليس بأنثى.

احذر من أي ثقافة ذكورية أو ثقافة نسوية.
يجب أن تكون على حذر من هذا.
ولن تبلغ الحذر إلا إذا رجعت إلى ذلك البيت الطاهر.

كيف يتعامل الذكر والفحل مع عظمة أنوثة فاطمة؟ وكيف تتعامل فاطمة الحوراء الإنسية مع ذكورة علي عليه السلام؟
هكذا يتجرد الإنسان من ذاته، بل ومن قوميته:
"وجعلناكم شعوبًا وقبائل".
يتجرد من القوميات.
يتجرد من العشائريات.
ويختبر نفسه بالتعارف: "لتعارفوا".
والتعارف عنوان مليء بالمعاني.

التعارف هناك سلوكي كالتزاوج والجوار.
لا أبالي من يكون جاري إذا كان مؤمنًا.
التعارف هناك بالمعروف في العطاء: أن لا أميز في العطاء.
التعارف هناك بالجميل: كيف أصنع الجميل؟

كانت العلوم حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله:
ماذا يعني أن يكون العلم لقرون يونانيًّا؟
ماذا يعني أن يكون العلم لقرون رومانيًّا أو غير ذلك؟
لماذا؟

لأن الحس القومي أو لأن العلم كان مسجونًا في سجن القومية.
وبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أصبح العلم حبيس بيوت.
وهذه حقيقة يعرفها القليلون.
أصبح العلم حبيس بيوت، بيت آل فلان.
لكن في عصور قليلة، ومن خلال جهود أهل البيت عليهم السلام، أصبح العلم منفتحًا.
يدخل إلى الحوزة من لا يُعرف له نسب، وإذا به يصبح رئيس المذهب أو الطائفة أو وجهًا من وجوهها وعينًا من عيونها. وما أكثرهم.

هذا كله من الولاء والانتساب الصحيح والصادق لأهل البيت عليهم السلام.
هذا كله لأن العهد معهم ليس عهدًا مجانيًّا، بل هو عهد قيمي.

تأمل مستقبل العلاقة مع أي مركز أو انتماء:

  • الذي يعطي انتماءه لقوميته فقط، فلينظر إلى مستقبل هذا الانتماء.

  • الذي يعطي انتماءه لعشيرته فقط، أو لجهة بشرية فقط، فلينظر إلى مستقبل هذه العلاقة.

هل يعمل على سحق غيره؟
هل يعيش الذاتوية والانطواء والتحسس من الآخر؟
هل ينطق بمنطق العصبية والغلو؟
أم أنه يعيش الروحية المرنة مع الآخر؟

علي بن أبي طالب، سلام الله عليه، الذي غضب على أصحابه لأنهم تركوا نصرانيًّا يمد كفه للعطاء.
نصراني يمد كفه للعطاء، فغضب علي لذلك وقال:
"أما كان هذا يعمل في أرضكم؟ بالنتيجة، كان له فضل العمران في أرضكم. الآن تتركوه؟ أعطوه من بيت المال".

هذا هو الانتماء الصحيح:
مرونة روحية وانفتاح على الآخر.

لذلك، الحوزات الشيعية منذ زمن الإمام الصادق عليه السلام وإلى يومنا، لم تغلق أبوابها على أصحابها فقط، بل فتحت أبوابها وعلمها لمن لم يكن من الشيعة أيضًا.

هذا الاستعداد للتداخل والتمازج والتواصل يجب أن يكون غايتنا.
ويجب أن يكون الدرس الذي نتعلمه من أهل البيت عليهم السلام ومن فاطمة، صلوات الله وسلامه عليها.

أعظم درس منها:
إنها لا تجعل أمام الاندماج هدفًا سوى الوحدة التي تؤمن المصالح العامة والضرورية، والتي تؤمن الهدوء ليسير الدين بهدوء، بعيدًا عن الغوائل والمخاطر.

ولو أنها استمرت في المطالبة أو حشدت الحشود، ما كانت ملامة.
ولكنها تنظر إلى الهدف الأسمى:
أن يسير الدين في هدوء، وأن يواصل نموه في هدوء.

ولأنه يوم الجمعة، وقد كان لها في كل يوم جمعة دعاء، ندعو بدعائها، سلام الله عليها، ونقول:
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا هذا اليوم مغفرة جزمًا حتمًا، لا نقترف بعدها ذنبًا ولا نكتسب خطيئة ولا إثمًا.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد صلاة نامية دائمة زاكية متتابعة متواصلة مترادفة، برحمتك يا أرحم الراحمين.


 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد