علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الحدث الحسيني وإمكانات التحقق التاريخي (2)

الحدث الحسيني والدلالة الرمزية

 

تدخل الأخلاق في صميم البنية المكونه للإنسان، فأفعال الإنسان دائماً تتحد بمعنى أخلاقي، وهذا البعد الأخلاقي يضفي على الفعل الإنساني دلالة رمزية. فكما يصح أن نعرف الإنسان بأنه حيوان ناطق أو عاقل، فيصح أيضًا أن نعرفه بأنه حيوان رامز. والرامزية تتأتى من أن طبيعة الفعل الإنساني لا تنفك عن هوية أخلاقية معينة، إذ هي دائمًا تشير إلى دلالات معينة في ثنائية الخير والشر. وإن مستوى الرامزية هنا تعتمد على الكيفية التي يستجيب بها الإنسان للتحديات التي تدفع به للنشاط والتحرك. فكل تحدّ يواجه الإنسان فهو في نفس الوقت تحدّ أخلاقي، لأن الاستجابة يمكن معايرتها بموازين الخير أو الشر. وعظمة الرامزية تأتي من عظمة الاستجابة للتحدي الأخلاقي.

 

والحدث الحسيني هو بهذا الاعتبار حدثًا رامزًا بامتياز، له دلالاته الرمزية، لكن دلالته تخطت السياق الثقافي والحضاري العربي والإسلامي، وتحولت إلى رمزية كونية إذ يمتد تأثيرها إلى كل النطاقات الثقافية والحضارية في العالم. ليست كل الأحداث التاريخية التي تستوفي المحددات التاريخية وتنطبق عليها سنن التاريخ هي أحداث عميقة في مدلولها الرمزي. ففي التاريخ الإنساني حروب وصراعات صنعت تموجات في النسيج التاريخي لكنها تموجات تضعف وتخبو بالتدريج مع امتداد الزمان الطبيعي لتحل في ذاكرة التاريخ ويطويها النسيان وتفقد دلالتها الرمزية في الزمان الإنساني ولم يعد لها تأثير في حاضر الأمة أو مستقبلها.

 

وبعض الأحداث تموجاتها كبيرة أشبه بالزلزال تسري تموجاتها في النسيج الاجتماعي التاريخي للأمة ويستمر تأثيرها إلى أحقاب طويلة. ونحن بإزاء حدث – الحدث الحسيني  – لا يزيده الزمان إلا حيوية وتجددًا وعنفوانًا، إنه حدث تجاوز التاريخ ليسكن الخلود، ويعمل على توجيه الحراك التاريخي الإنساني بما يمتلكه من مفاعيل روحية ورامزية عظيمة نحو تحقيق الانتصار التاريخي الإنساني للخير والعدالة. وما كان له أن يكون كذلك إلا إنه توفر على شروط وضعته في هذه المكانة من التاريخ. وسنحاول ما وسعنا أن نحلل هذه المكانة التاريخية للحدث الحسيني لنفهم سر هذا التجدد والحيوية وسر هذه الروح الساكنة فوق التاريخ والمحركة له.

 

أولًا: إن عظمة الحدث في التاريخ ترتبط بعظمة الشخصية التي يتمحور حولها الحدث. ومحور الحدث هو الحسين بن علي عليهما السلام الإمام المعصوم. وسنتحدث هنا عن العصمة من مطلق الدائرة الخاصة للمذهب الإمامي والتي تستند إلى أدلتها من القرآن والروايات والتي تعتبرها – العصمة –  جزءًا من نظام التكوين، هي جزء لا يتجزأ من منظومة الكون وبنيته التي بها استقراره واستقامته. فكما يترتب على انعدام الشمس مثلًا خراب الكون فكذلك يترتب على فقد الإمام المعصوم خراب الكون. وسنحاول بإيجاز أن نوضح للقارىء هذا المعنى المهم في التفسير الإمامي للعصمة. 

 

إن معنى أن يكون الإنسان قريبًا من الله هو أن يتشبه بأخلاق وصفات الله. فكلما كان الإنسان أكثر قربًا من اللهأاصبح أكثر علمًا وقدرة… وأكثر كمالًا. وبالتالي فإن للقرب الإلهي أثرًا تكوينيًّا، فالقريب من الله له أثره في التصرف بالموجودات، وكلما زاد الإنسان قربًا أصبح له تأثير أوسع وأكبر، وهذا ما يصطلح عليه بالولاية التكوينية. وبالعكس كلما كان الإنسان بعيداً عن الله تعالى كان أثره في نظام التكوين أقل. نحن نجد الروايات عند جميع الفرق الإسلامية تتحدث عن هذا المعنى بوضوح، فمثلًا في رواية قرب النوافل ”لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر، ويده التي يبطش بها” وفي رواية قرب الفرائض ”إن العبد يكون يد الله وعين الله وسمع الله” يعني يكون العبد مظهرًا لمشيئة الله الفعلية.

 

وهناك عدد من الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما تؤكد أن وجود الإمام المعصوم في النظام الكوني ضرورة لاستمراره وبقائه، فعن الإمام الباقر عليه السلام ”لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لساخت بأهلها وماجت كما يموج البحر بأهله”، وعنه عليه السلام ورد أيضًا ”لو بقيت الأرض يومًا واحدًا بلا إمام لساخت الأرض بأهلها، ولعذبهم الله بأشد عذابه، وذلك أن الله جعلنا حجة في أرضه وأمانًا في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا بأمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم ثم لا يمهلهم ولا ينظرهم ، ذهب بنا من بينهم، ثم يفعل الله بهم ما يشاء”.

 

ومن هذا المنظور يكون الحسين بن علي عليهما السلام الإمام الممثل لله على الأرض لأنه الأقرب إلى الله في زمان إمامته وهو المظهر الحقيقي لأسماء الله وصفاته وبالتالي فإنه يحتل مكانه مهمّة في سلم الوجود الكوني، وكل ما يدور حول شخصه من أحداث يكون لها رمزيتها الهائلة لأن أفعالها مظهر لمشيئة الله وتقع في أعلى درجات الكمال الأخلاقي.

 

وثانيًا: الأحداث التاريخية ذات طبيعة رمزية كما أشرنا ورمزيتها تعطي الحدث التاريخي بقاءً وحيوية ولا يوجد تناقض بين رمزية الحدث وواقعيته. وهذه الدلالة الرمزية تفتح آفاق التأويل لأن التأويل هو الجهد المبذول لتفكيك رمزية الحدث. كما أن الرمزية هي أفضل وسيلة لتمثل تجربة تاريخية، وتوحي بإمكانات مختلفة لعرض هذه التجربة في مسرودة تاريخية لها حبكتها تمامًا فكما للسرد الروائي حبكته التي تربط سير الأحداث والشخصيات داخل الرواية. إنما يمتاز الحدث في الخطاب التاريخي السردي عن الروائي في أنه واقعي وفي الآخر خيالي من إبداع الراوي.

 

فالتاريخ عبارة عن قصص تحكى لكن الأحداث فيها واقعية وليست من صنع الخيال. والسردية التاريخية للحدث الحسيني تتميز بحبكتها المتفردة حيث تطورت الأحداث في هذه الرواية الواقعية من بدايتها إلى نهايتها مرورًا بمفاصل تشكل عقدًا فيها بصورة تفتح فضاءً لا متناهيًا من تمثل هذا الحدث في أنساق لسانية وبصرية وفنية لما له من طغيان هائل من الرمزية لن نبالغ إذا شبهناه بتسونامي ضخم يكتسح التاريخ، ويمده بمفاعيل التغيير لصالح الخلاص الإنساني. دعونا إذن نتفهم الحدث من زاوية التحدي والاستجابة وهي مفتاح الفهم التاريخي لدى المؤرخ الإنكليزي (أرنولد توينبي) الذي من خلالها أسس لرؤية عالمية لأسباب نشوء الحضارات وازدهارها ومن ثم تدهورها وسقوطها.

 

شكّل يزيد تحديًا خطيًرا للأمة والإسلام وتكمن خطورته في استغلال السلطة من أجل إفراغ الأمة من مضمونها الديني وإعادة تشكيل الوعي الديني والثقافي على أساس أخلاق الطاعة والعبودية. فيصبح الناس عبيدًا للحاكم المستبد وليسوا عبيدًا لله. يعني أن هذه الأمة مهددة بالموت من الداخل من خلال تعطيل وتغييب الفاعلية الدينية كما أسس لها رسول الله صلى الله عليه وآله. فهو في الخطورة يماثل السرطان الذي يقضي على الإنسان من الداخل ويتركه فريسة سهلة للموت. إذن نحن بإزاء تحدّ يهدد الأمة في وجودها الثقافي والحضاري ويعرضها للموت من الداخل.

 

كان واجبًا على الأمة أن تتحرك في مواجهة هذا التحدي وأن يولِد هذا التحدي الكبير فيها روح الاستجابة السريعة للحفاظ على المنجز الحضاري والثقافي للأمة. لكنها لم تستجب واتخذت موقف الصمت والتسليم. ومن موقف الصمت والخذلان أخذت سنن الله الحاكمة في التاريخ مجراها وأورثت الأمة حروبًا وانقسامات وضياع وتشتت. ولنا كذلك أن نحيل السر في أزماتنا الراهنة إلى صمت الأمة في ذلك الحين أو استسلامها لخنجر يزيد وسوطه حيث رسخ فيها أن الحاكم هو قدر الله لهذه الأمة وأن عليها أن تقبل بما أراده الله لها.

 

 كان لابد للإمام الحسين الذي يعرف مكمن الخطورة في تولي أمر الأمة راع مثل يزيد أن يستجيب وإن لاذت الأمة إلى الصمت لأن الصمت يعني موت الأمة والقضاء على الرسالة.  ولكن الاستجابة لابد أن تكون بطريقة خاصة بحيث تبقي رسالة الإسلام حية في ضمير الأمة وإن تسلط عليها الطغاة. وتطور الأحداث في هذه المأساة يشي بفرادة الاستجابة الحسينية، وقدرتها على إدارة الحدث برمته من أجل أن تبقى رسالة جده صلى الله عليه وآله حية في الضمير والوعي الجمعي للأمة.

 

لذلك كان الحدث يسكن القلوب وليس التاريخ، فكانت مصدرًا للأمة يمدها بالحياة والعزة كلما غالبها غالب أو قهرها قاهر. وعند استعراض تفاصيل الحدث الحسيني والتأمل فيه سندرك الفرادة على المستويات كافة كاشفة عن أفق ممتد لا نهائي من الدلالات. فهناك فرادة على مستوى شخصيات الحدث وفرادة على المستوى التراجيدي وفرادة على المستوى الأخلاقي… فرادة تلهم الإنسان أن يعود إلى كربلاء ليرتشف من نبعها الصافي ما يضفي لحياته معنى يقف وراء أسوار المادة و قيود الظالمين، إنها تحيلنا إلى معاني لا تتوقف.

 

الحدث الحسيني خالد في الشعور الإنساني، ما بقي إنسان على الأرض ينشد الحق والعدل، وهو خالد أيضًا في الشعور الديني قال رسول لله صلى الله عليه و آله ”إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا”. وما دام الحدث الحسيني بهذه الأهمية في الوعي الإنساني الحقوقي، فهل ستكون لهذا الحدث إمكانات الانتصار والتحقق؟ هل لمفاعيله الروحية أن تقود سفينة البشرية وترسيها في الشاطئ الذي فيه خلاص البشرية من الظلم والظالمين؟ هل من حتمية تاريخية لانتصار الحق وزوال الظلم من وجه الأرض؟

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد