
المبدأ المثنَّى في مدارج الميتافيزيقا البَعديَّة
للاقتراب من حقَّانيَّة المبدأ، لزم عبور حقلٍ خصيبٍ من الأسماء والصفات والنعوت لم تنتهِ عند تقريرات الفلسفة الأولى، بل مضت بعيدًا في آفاق الميتافيزيقا والمعارف الإلهيَّة. ولنا في ما يلي نسوق شطراً مما ورد من مكابدات بغية الاقتراب من حقيقة المبدأ وهوّيَّته:
أوَّلًا: المبدأ في قانون العلِّيَّة
يتَّخذ المبدأ من قانون العلِّيَّة سبيلًا لتدبير العالم. وطبقًا لقاعدة أنَّ:كلَّ معلول هو مركَّب في طبعه من جهتين: جهة بها يشابه الفاعل ويحاكيه، وجهة بها يباينه وينافيه. فإنَّ هذا المبدأ يكون مطلقًا ونسبيًّا في آن. الكلام عن معلوليَّة المبدأ رغم فرادته وخصوصيَّة تركيبه، ينطبق على كلِّ فرد في عالم الكثرة. ودليل أصحاب هذه القاعدة هو التالي: إذا كان الموجود يشبه فاعله من جميع الجهات، يلزم إلَّا يكون هناك أيُّ اختلاف بين العلَّة والمعلول، وحينذاك لا معنى لمسألة الصدور. ولو خالف الموجود فاعله من جميع الجهات، يلزم أن تتناقض العلَّة مع المعلول، في حين لا يقع نقيض الشيء معلولًا له، لوجود تمانع بين الموجودين المتناقضين. وإذن، فالموجود المعلول – بحسب هؤلاء – ذو جهتين دائمًا: جهة متعلِّقة بالفاعل وتشير إليه، وجهة متعلِّقة به. وعليه فهو يُعدُّ “وجودًا” من حيث جهة الفاعل، ويُعدُّ “ماهيَّة” من حيث جهته، وفي حين تسمَّى جهة وجود الموجود بالجهة النورانيَّة، تُسمَّى جهة الماهيَّة بالظلمانيَّة. وهكذا، فإنَّ نسبة المعلول إلى فاعله كنسبة الظلِّ إلى الضياء. فالظلُّ من حيث هو مضيءٌ يكشف عن الضياء، ومن حيث هو مزيجٌ بنوع من الظلمة، متناقضٌ مع الضياء ويحكي عن الظلام. فمثلما لا يمكن أن ننسب الجهة الظلمانيَّة للظلِّ إلى وجود الضوء، كذلك لا يمكن أن تُنسب جهة الماهيَّة إلى الفاعل.
وعليه، يمكن القول بأنَّ الجعل والإيجاد لا يتعلَّقان بالماهيَّة أبدًا، وإنَّما يتعلَّقان بالوجود فقط. أي لا بدَّ من أن يُعدَّ الجعلُ والإيجادُ والإفاضة والإشراق، خصوصيَّة خاصَّة بالوجود. ودور الماهيَّة على صعيد الموجودات البسيطة والمجرَّدة كدور المادَّة على صعيد الموجودات الماديَّة والمركَّبة. وكما أنَّ مقتضى الكثرة في الموجودات المادّيَّة والمركَّبة هو وجود المادَّة الأولى أو الهيولى، كذلك مقتضى الكثرة في الموجودات البسيطة والمجرَّدة هو الماهيَّة. ولذا يمكن القول أنَّ الكثرة في عالم البسائط والمجرَّدات، ناشئة من الماهيَّات فقط. الشيخ الرئيس ابن سينا يأخذ بهذه الفكرة أيضًا، ويعتبر الماهيَّات مصدر كلِّ تركيب وتعدُّد في عالم البسائط. وفي كتاب “الإلهيَّات” بحث القاعدة المعروفة “كلُّ ممكن زوج تركيبيّ”. حيث تكشف هذه القاعدة جيّدًا عن ضرورة البحث عن أيِّ تركيب وتعدُّد، في الماهيَّات. ولذلك تُعدُّ الماهيَّات مثار الكثرة ومنشأها [الديناني، غلام حسين الإبراهيمي- القواعد الفلسفيَّة العامَّة في الفلسفة الإسلاميَّة – الجزء الثاني- تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار الهادي- بيروت- 2007 – ص 355].
النتيجة أنَّه بالإمكان القول أنَّ أثر الفاعل ليس سوى مثال الفاعل، ولهذا السبب يكشف الفعل عن الفاعل دائمًا. أي أنَّه يمكن معرفة الفاعل عن طريق الفعل. وقد تناول صدر الدين الشيرازي هذه المسألة في كتاب “الأسفار”، وصاغها على الوجه التالي: “إنَّ كلَّ منفعل عن فاعل، فإنَّما ينفعل بتوسَّط مثال واقع من الفاعل فيه. وكلُّ فاعل يفعل المنفعل بتوسُّط مثال يقع منه فيه. وذلك بيِّنٌ بالاستقراء. فإنَّ الحرارة الناريَّة تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثالها وهو السخونة. وكذلك سائر القوى من الكيفيَّات. والنفس الناطقة إنَّما تفعل في نفس أخرى مثلها”.[الشيرازي، صدر الدين- الأسفار العقليَّة الأربعة في الحكمة المتعالية – الجزء الأول- مصدر سابق- ص 419].
ثانيًا: المثنَّى أو “المطلق المحدود” في الحكمة التراثية
يجري في عالم الميتافيزيقا تمييزٌ دقيقٌ بين المطلَق بوصفه الواحد بالوحدة الحقيقيَّة أي الله تعالى، وبين المطلَق بما هو الواحد بالوحدة الحقيقيَّة الظلِّيَّة، أي الموجود بغيره؛ وهو ما يُنعت بالمطلق المحدود. فالمطلق بمعناه الأوَّل هو التامُّ والكامل والمتحرِّر من كلِّ قيد، وهو واجب الوجـود المتجـاوز للزمان والمكـان، ولذا فهو يتَّســم بالثبات والكلِّيَّة. أمَّا بمعناه الثاني فهو النسبيُّ الذي يُنسَب إلى غيره ويتوقَّف وجوده عليه، ولا يتعيَّن إلَّا مقرونًا به. وهذا النسبيُّ مُقيَّد وناقصٌ ومحدودٌ، وهو مرتبط بالزمان والمكان، ويتلوَّن بهما ويتغيَّر بتغيِّرهما، ولذا فهو ليس بكلِّيّ. في الفلسفات الحديثة، يُعدُّ هذا التعريف للمطلق والنسبيِّ تعريفًا عامًّا ولا يؤدّي غايته المثلى. ولذا يرى أحد فلاسفة مدرسة الحكمة الخالدة المعاصرين السويسري فريذوف شوان (1907-1998) أنَّ الَّلانهائيَّة والكمال من الأبعاد الكامنة في المطلق، وتبرهن على ذاتها “في اتِّجاه هابط” حسب النشأة الكونيَّة للتجلِّيات. حتى ليتسنَّى لنا القول أنَّ الكمال هو صورة المطلق في انعكاساته في الوجود، وهوما يُؤلِّف الَّلانهائيَّة، وهنا تتدخَّل العناية الربَّانيَّة حيث ينبثق من المطلق لانهائيَّة فاعلة تتجلَّى في الخير، وترسم بالتالي بنية أقنوميَّة في اتِّجاه “خالقٍ” حتى نهاية التجلّيات.
وقد تعمَّق شوان في تحديد ماهيَّة المطلق متجاوزًا التحليل الُّلغويَّ المعجميَّ، وهو يقدِّم مجموعة من التساؤلات حوله. يقول: “لو سُئلنا عمَّا هو المطلق، لقلنا أوَّلًا إنَّه الجوهريُّ واجب الوجود، وليس العرضيَّ ممكنَ الوجود فحسب، وبالتالي فهو لانهائيٌّ وكاملٌ، ولقلنا ثانيًا إنَّه كلُّ ما انعكس في الوجود، كوجود الأشياء بحسب مستوى السؤال، ولا وجود بغير المطلق، ويتجلَّى وجه المطلقيَّة في وجود شيء ما يُميِّز الموجود من الَّلاموجود، فحبَّة الرمل الموجودة معجزة بالقياس إلى الفضاء الفارغ.. ولو نحن سُئلنا عمَّا هو الَّلانهائيُّ لقلنا إنَّه المنطق شبه التجريبيِّ الذي يطلبه السؤال نفسه، ويتبدَّي في الوجود كصيغ للمدِّ والجزر، شأنَّه شأن المكان والزمن والشكل والعدد والتكاثُر والمادَّة، وحتى نكون أكثر دقَّة نقول بطريقة أخرى: إنَّ هناك صيغة حافظة هي المكان وصيغة مُحَولةً هي الزمن، والذي يعني لانهائيَّة اطِّراد التحوُّلات، لا تحديد الدوام فحسب، وصيغة كميَّة هي العدد الذي يعني لانهائيَّة العدد ذاته لا تحديد الكمِّ فحسب، وصيغة ماديَّة هي المادَّة، وهي الأخرى لا حدود لها كتجلّي النجوم في السماء، ولكلٍّ من هذه الصيغ امتدادٌ في الحال الحيويِّ وما وراءه، فهي أعمدة الوجود الكونيّ. وأخيرًا، لو سُئِلنا عن الكمال أو الخير الأسمى، لقلنا إنَّه الله سبحانه، والخير هو ما يتجلَّى في الوجود على شكل فضائل، أو بالحريِّ ظواهر كيفيَّة تتبدَّى في كمال الأشياء لا في وجودها فحسب، والمطلق والَّلانهائي والخير، لا تناظر الوجود والأنواع الموجودة وما يتعلق بكيفيات وجودها فحسب، بل هذه العوامل معًا في آن، لتبيّن معنى الأوجه الربَّانيَّة في ما وراء العالم لو جاز القول”.
ولأجل تفادي ما وقعت فيه بعض تيَّارات وحدة الوجود من جمع حلوليٍّ بين الله والعالم، ثمَّة – وفق الرؤية الآنفة الإشارة – تمييز بين نوعين من الوجود من حيث الإطلاق وهما: الوجود المطلق والوجود المحض. أمَّا الوجود المطلق فيمثِّل انعكاس المطلق المحض الذي يتجلَّى في النسبيَّة، ولا يمكن أن يتحوَّل إلى الوجود المحض كما يدَّعي فلاسفة النسبيَّة المعاصرة، ولو حدث التحوُّل، وهذا مستحيل، لتنزَّهت الثنويَّات والثالوث عن مخالطة البشر أو محادثتهم، لأنَّ التنزيه من صفات المطلق المحض، وهكذا يقول شوان “لا يتطابق الوجود المُطلق مع المطلق المحض الصمديّ، فهو تابع للنظام الربَّانيِّ بقدر ما هو انعكاس للمطلق في عالم النسبيَّة، ومن ثمَّ يمكن تسميته مطلقًا نسبيًّا رغم ما تحمله التسميَّة من تناقض، ولذا فهو أقنوم ربَّانيّ. وإذا كانت الأقانيم الربَّانيَّة هي المطلق بما هو لتنزَّهت عن مخاطبة الإنسان” [FrithjofSchuon: the play of masks، world Wisdom Books INC، 1992، p45]. والوجود المُطلق هو المطلق النسبيُّ أو المطلق المحدود، أو هو الربُّ مطلقًا نسبيًّا قادرًا على الخلق، فالمطلق المحض الصمديُّ أي “غيب الغيب” يتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ويشتمل المطلق أو الجوهر على الَّلانهائيَّة التي تشعُّ بنوره، فالنور الإلهيُّ يعكس الجوهر على “الفراغ” من دون أن “يخرج” إليه بأيِّ شكل كان، إذ إنَّ المبدأ معصوم لا ينقسم، ولا يمكن أن يُغتصب منه شيءٌ، فانعكاسه على الَّلاشيء يتجلَّى بصيغة “أشكال” بادية و”أفعال” حادثة، و”حياة” الَّلانهائيّ ليست فعَّالة بقوَّة مركزيَّة centrifugal فحسب، ولكن أيضًا ببنية مركزيَّة centripetal، وبشكل تبادليٍّ أو متزامن بدءًا بالإشعاع وعودًا إلى المبدأ، والمبدأ الأخير يعني نشورًا وعودة الأشكال والحوادث إلى الجوهر، ومن دون أن يزيد أو يُنقص من الجوهر شيئًا، فهو النعمة والكمال مطلقًا، وهو خصيصة من خصائص المطلق كما لو كان حياته الباطنة، أو حبّه الذي يفيض ليخلق العالم.
[FrithjofSchuon: Sufism Veil and Quintessence، Translated from French by William Stoddart، world Wisdom Books INC،1981، p165.]
الذنوب التي تهتك العصم
السيد عبد الأعلى السبزواري
كلام في الإيمان
السيد محمد حسين الطبطبائي
شكل القرآن الكريم
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الإسلام أوّلاً
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
لا تجعل في قلبك غلّاً (2)
السيد عبد الحسين دستغيب
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (4)
محمود حيدر
معنى (لمز) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
التحسس الغلوتيني اللابطني لا علاقة له بمادة الغلوتين بل بالعامل النفسي
عدنان الحاجي
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}
الشيخ مرتضى الباشا
أكبر مسؤوليات التربية... منع تسلّط الوهم على الفطرة
السيد عباس نور الدين
اطمئنان
حبيب المعاتيق
الحوراء زينب: قبلة أرواح المشتاقين
حسين حسن آل جامع
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
نشاط غير عادي في أمعائنا ربما ساعد أدمغتنا أن تنمو أكبر
الذنوب التي تهتك العصم
(ما بين العواصف والرّمال) إصدار تأمّليّ لحسن الرّميح
كلام في الإيمان
شكل القرآن الكريم
الإسلام أوّلاً
لا تجعل في قلبك غلّاً (2)
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (4)
معنى (لمز) في القرآن الكريم
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (3)