
المترجم: عدنان أحمد الحاجي
بين عامي 2014 و2024، نسبة الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا في إنجلترا الذين يعانون من مشاكل الصحة النفسية ارتفعت من 19% إلى 26%. هذا يعني أن أكثر من 1.6 مليون شاب - وهو عدد كافٍ لملء ملعب ويمبلي في لندن 18 مرة - يعانون من مشاكل الصحة النفسية اليوم.
غالبًا ما تكون وسائل التواصل الاجتماعي محور النّقاشات حول أسباب هذا الارتفاع. ولكن بالرغم من أن حياتنا الرقمية المتصاعدة تعتبر جزءًا من المشكلة، إلا أن الصورة العامة تبدو أكثر تعقيدًا. يمكن القول إن الشّباب يقضون وقتًا أطول على وسائل التواصل والإنترنت (العالم الرقمي) جزئيًّا لأن الفرص التي يقدمها لهم العالم الحقيقي (الطبيعي الخالي من العالم الرقمي) آخذة في التناقص، كما أوضحنا في التقرير (1) الذي أصدرته مؤخرًا مؤسسة نوفيلد Nuffield Foundation.
يكمن جوهر تدهور الصحة النفسية والعاطفية في إفراغ البنية الاجتماعية الواقعية (غير الانترنتية)، التي تدعم النمو الاجتماعي السليم والتفاعل الاجتماعي الجيد مع الآخرين، وبذلك تضعف تدريجيًّا، ما يُقلل من فرص النمو الاجتماعي السليم والمباشر حين أصبحت حياتهم الاجتماعية هشة وضعيفة بعد أن استبدلت الحياة الطبيعية المباشرة بالحياة الرقمية وتراجعت المشاركات المجتمعية وازدادت العزلة الاجتماعية رغم التواصل الرقمي.
مصطلح التقلص الاجتماعي (2) social thinning، وهو فقدان أو ضعف تدريجي للروابط الاجتماعية، وغالبًا ما ينجم عن الانهماك في الحياة الرقمية المعاصرة، ما يؤدي إلى تردي العلاقات (الشبكات) الاجتماعية الداعمة، وزيادة التوتر والضغط النفسي، وارتفاع احتمال الإصابة بمشكلات الصحة النفسية، مثل القلق والاكتئاب، حيث يجد المرء صعوبة من أجل الشعور بالثقة، وفهم إشارات التواصل الاجتماعية، المختلفة، ما من شأنه أن يصعب من تكوين شبكات اجتماعية داعمة ويوقع الفرد في دوامات من العزلة الاجتماعية.
هذا المصطلح الذي طرحناه في دراستنا التي تناولنا فيها الصدمات النفسية التي يتعرض لها الأطفال، يشمل انخفاضًا في فرص اللعب وفي خوض التجارب، وفي بناء علاقات اجتماعية داعمة. ونعتقد أن لهذا التقلص الاجتماعي تبعات مقلقة على النمو الإدراكي والعاطفي والاجتماعي وعلى الصحة النفسية والعاطفية.
برفسور إيمون مكروي Eamon McCrory باحث في علم الأعصاب أمضى سنوات في دراسة كيف يتغير أو تتطور مناطق الدماغ مع نمو الطفل وبلوغه سن المراهقة، والمخاطر التي يتعرض لها، والتي تجعل حياته صعبة، وتضعف من مرونته وتكيفه مع تلك المخاطر واحتمالية تعافيه في هذه الفترة.
خلال فترة المراهقة، يستمر الدماغ في تطوير وتحسين قدراته المهمة، والتي يمكن أن يكون لها دور في نضجنا العاطفي والاجتماعي، واكتشاف الذات، ونقاط القوة، والضعف. والحدود الشخصية، والتعامل مع من وما حوله، وفهمه لأدوات التواصل الاجتماعية (اللفظية وغير اللفظية) لتحسين قدرته على إدارة مشاعره والتحكم في انفعالاته وقدرته على اتخاذ القرارات المناسبة واستقلاليته (3).
لكن تنمية هذه القدرات تعتمد على قضاء وقت في بيئات اجتماعية حقيقية ومتنوعة، تتمتع بأنواع مختلفة من العلاقات الاجتماعية والعاطفية، بدءًا من التفاعلات الاجتماعية العرضية وصولًا إلى تكوين صداقات وثيقة.
عندما تتقلص فرص ممارسة هذه المهارات في هذه الفترة التي تتطور وتنمو فيه أدمغة المراهقين، فإن هذه المهارات لا تتطور بالشكل الأمثل، ما من شأنه أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على تنمية العلاقات الاجتماعية والعاطفية. وقد يجد المراهق صعوبة في بناء ثقة بينية مع آخرين (4)، وفي تعزيز انتمائه إلى الأقران (5)، أو السيطرة على انفعالاته الطاغية وضبط نفسه وتهدئتها (6). وهذا يعني أن هذه المهارات تحتاج إلى ممارسة لتترسخ، خاصة في هذه المرحلة العمرية.
على سبيل المثال، استغلت إحدى الدراسات جائحة كورونا باعتبارها فرصة لاختبار تأثير الانخفاض الملحوظ في الروابط الاجتماعية بين المراهقين. ووجد الباحثون أن الثقة كانت منخفضة لدى المراهقين خلال فترة الإغلاق، واقترنت ذلك بدورها بمستويات عالية من التوتر النفسي.
بعبارة أخرى، تشير الأدلة إلى أنه حين يفتقر الشباب إلى التواصل الاجتماعي الهادف والكافي فقد يؤثر سلبًا في نموهم النفسي والاجتماعي والعاطفي، ويزيد من احتمالية إصابتهم بمشكلات الصحة النفسية لاحقًا، وبمرور الزمن تتراكم المشكلات تدريجيًّا وترفع من احتمال الإصابة بمشكلات الصحة النفسية، مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب المشاعر، أو العزلة الاجتماعية.
تقلص الروابط الاجتماعية
مساحة الحياة الاجتماعية للشباب الخالية من الحياة الرقمية آخذة في التقلص والضعف، وذلك بسبب التقلص المطرد للمؤسسات نتيجةً لنقص التمويل. فبين عامي 2011 و2023، أُغلِقَ أكثر من 1200 مركز شبابي تديره المجالس المحلية في إنجلترا وويلز، كما انخفضت ميزانية خدمات الشباب في إنجلترا منذ عام 2010 بحوالي 1.2 مليار جنيه إسترليني. وفي الوقت نفسه، تعاني الحدائق العامة والمساحات المفتوحة من نقص الاستثمار. وهذا انعكس سلبًا على الفرص المتاحة للشباب للالتقاء بالآخرين، والتواصل، وتكوين علاقات. الأنشطة التي تمارس في مثل نوادي الشباب، والحدائق العامة، والمساحات المجتمعية من شأنها أن تساعد المراهقين على ممارسة المهارات الاجتماعية، وتكوين الهوية، والتحكم في الانفعالات وممارسة الحياة الواقعية بعيدًا عن الحياة الاكترونية، ما يساعدهم على نمو وتطور الدماغ (الإدراك) وتحسين الصحة النفسية.
التغيرات في نظرة المجتمع إلى التربية ومرحلة الطفولة والمواقف والقيم، وخاصة بين أولياء الأمور والمتطلبات المدرسية قد قلّصت بشكل غير مباشر، أو مقصود، حرية الأطفال في الاستكشاف واللعب والتعلم الاجتماعي. وفي المقابل تفاقمت المخاوف بشأن سلامة الأطفال البدنية والنفسية والأكاديمية وازدادت مستويات القلق من تعرضهم إلى حوادث إجرامية وتنمر وفشل أكاديمي. وكانت نتيجة ذلك أن تقلصت فرص ممارسة الأطفال استقلاليتهم، كما انخفض وقت ممارستهم اللعب بحرية، والاستكشاف، والإبداع والتعلم الاجتماعي والفضول وارتكاب الأخطاء، واكتساب المهارات الاجتماعية والعاطفية - وهي تجارب مهمة لنمو وتطور القوة الإدراكية السليمة.
أفادت دراسة بأن الأطفال اليوم لا يتمتعون بحرية كافية في التجول واللعب في الهواء الطلق والتجمع مع أقرانهم مقارنةً بالأجيال السابقة (الذين عاشوا بدون حياة رقمية).
لقد تقلصت بشكل جذري البيئات التي يتمكن فيها الشباب من الاستكشاف والتعلم من أخطائهم وتطوير مهاراتهم الاجتماعية في أمان واطمئنان. وفي هذا السياق، ما زاد الطين بلة هو دخول المنصات الرقمية على بيئة اجتماعية متقلصة أصلاً.
فوائد العالم الرقمي مقابل أضراره
بالرغم من تباين الآراء، فإن الفضاءات والمنصات الرقمية ليست ضارة بطبيعتها. بل بإمكانها أن تسهل سبل التواصل والتعبير عن الذات وبناء الصداقات، والشعور بعدم العزلة الاجتماعية. الحياة الرقمية نفسها ليست بطبيعتها هي المشكلة. بل كل ذلك يعتمد على طبيعة استخدامها، ومن يستخدمها، وفي أي سياق يستخدمها.
لا تكمن المشكلة في وجود الشباب على الإنترنت فحسب، بل في الحياة الرقمية التي غزت العالم الطبيعي وسدّت الفراغ الذي خلّفه تقلص الحياة الطبيعية.
علاوة على ذلك، وُجدت المنصات الرقمية بقصد الأرباح المالية لا بقصد التنمية والتطور. من خلالها شكّل الشباب هوياتهم وشعورهم بالانتماء ومكانتهم الاجتماعية ضمن أنظمة مصممة لتحفيز التفاعل المستمر، وهي ظاهرة تتسارع وتيرتها مع ظهور الذكاء الاصطناعي.
تصميم المنصات الرقمية يُمكن أن يُؤثر بشكلٍ غير مباشر في طريقة تفكير الشباب وانفعالاتهم ونموهم العاطفي والنفسي، وخاصةً خلال فترة المراهقة. منصات التواصل الاجتماعي تشجع على المقارنة، وقياس الأداء والاستجابة السريعة من خلال الإعجابات، والتعليقات، وعدد المتابعين، والمشاهدات.. فهي بالفعل تدفع مستخدميها الشباب إلى مُقارنة أنفسهم بحياة الآخرين وتضييع الوقت والطاقة الذهنية في اللهث وراء هذه الامتيازات الزائفة والابتعاد عن الحياة الاجتماعية والتجارب اليومية الطبيعية من اللعب وغيره.
بما أن فترة المراهقة تعد مرحلةً ما تزال فيها الهوية والقيم والتحكم العاطفي والنظرة إلى العالم قيد التشكّل، فمن المسلم به أن يكون للحياة الرقمية الدور السلبي في تشكيل هوية الشباب وتقديرهم لذواتهم ورؤيتهم للآخرين وعلاقتهم بهم.
أسس متينة في عالم رقمي
يتزايد الوعي بأن الوقاية من الأمراض النفسية تعني الاستثمار في الأسس الاجتماعية للطفولة. ماكروي هو الرئيس التنفيذي لمؤسسة آنا فرويد Anna Freud الخيرية للصحة النفسية، والتي تُجري تحولًا كبيرًا نحو الوقاية: إعطاء الأولوية لتعزيز نقاط القوة، والحد من المخاطر، ودعم الصحة النفسية قبل أن تتفاقم المشكلات. وبالطبع، تُعد العلاقات الإيجابية حجر الزاوية في نمو الصحة الإدراكية والنفسية والعاطفية السليمة.
لخفض معدلات الاضطرابات النفسية (ومنها القلق والاكتئاب)، نحتاج إلى إعادة تصور البنية الاجتماعية الداعمة للنمو السليم والاستثمار فيها، بما يضمن نشأة الأطفال والشباب في بيئات اجتماعية ثرية. وهذا يتطلب استثمارًا جادًّا في خدمات الشباب، والمساحات الخارجية (خارج المنزل)، والبنية التحتية المجتمعية.
تحتاج المدارس إلى مزيد من توفير وقت للعب والإبداع والأنشطة اللامنهجية، وليس فقط التركيز على التحصيل الدراسي الأكاديمي البحت. وتحتاج الأسر إلى الدعم لخلق تجارب مشتركة، بدءًا من اللعب في الهواء الطلق وصولًا إلى المشاركة المجتمعية.
أصبحت المنصات الرقمية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية لا مندوحة عنها، ولكن يجب أن تكون متممة لتجارب العالم الطبيعي الخالي من العالم الرقمي وأن تُثري حياة الشباب الضرورية لنموهم النفسي والعاطفيّ، لا أن تستبدلها وتحل محلها. ينبغي أن تساعد التكنولوجيا الرقمية الشباب على بناء علاقات اجتماعية ثرية وتُعزز الثقة البينية، وتُنمّي استقلاليتهم وتشعرهم بأن صوتهم مسموع، وتدعم التواصل فيما بينهم، لا أن تُقلّص حياتهم الاجتماعية الطبيعية (الخالية من الحياة الرقمية) أو تعزلهم اجتماعيًّا.
المساحات الطبيعية في المدارس، والحدائق، ومراكز الشباب تعتبر مساحات مفيدة لبناء العلاقات الاجتماعية مع الأقران ومع الكبار والمبنية على الثقة المتبادلة والآمنة، تُعدّ من الأمور البالغة الأهمية. ومن شأن ذلك أن يعزز أسس الشعور بالصحة النفسية ويُسهم في الاستقرار العاطفي، ويعزز المرونة، ويحسن الصحة النفسية في مرحلة الرشد. ومن نافلة القول أن الهدف ليس رفض الحياة الرقمية، بل إعادة بناء البيئات الاجتماعية الطبيعية التي يحتاجها الشباب للنمو والتطور وماهيتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- http://https://www.thelancet.com/journals/lanpsy/article/PIIS2215-0366(22)00202-4/abstract
3- https://www.nature.com/articles/nrn3313
4- https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/36256870/
5- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/07435584221111121?
6- http://https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC10276262/
7- https://www.centreforyounglives.org.uk/play-commission
المصدر الرئيس
أسباب تقلّص حياة الشّباب الاجتماعيّة وتبعاتها على صحّتهم النّفسيّة والعاطفيّة
عدنان الحاجي
معنى (كوى) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
الدلالة الصوتية في القرآن الكريم (2)
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عناصر الحياة نعم كبرى
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
هل تصورت الفراغ يومًا؟
الشيخ شفيق جرادي
اصنع ما تصنعه النملة!
عبدالعزيز آل زايد
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (4)
محمود حيدر
البيـت: قانون أو محبّة؟
الشيخ حسين مظاهري
مناجاة الذاكرين (8): اذكروني أذكركم
الشيخ محمد مصباح يزدي
الإمام الهادي: غربة على شفير السّمّ
حسين حسن آل جامع
سيّد النّدى والشّعر
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
(ذوات الرّيش) كتاب جديد للفوتوغرافيّ والرّاصد فيصل هجول
اختتام النّسخة التّاسعة عشرة من حملة التّبرّع بالدّم (عطاء الفضول)
(رسائل آل عرفات) إصدار جديد يسلّط الضّوء على قيمة عالم موسوعيّ
أسباب تقلّص حياة الشّباب الاجتماعيّة وتبعاتها على صحّتهم النّفسيّة والعاطفيّة
النمو السريع لهيكل رئيسي للدماغ قد يكون وراء مرض التوحد
معنى (كوى) في القرآن الكريم
الدلالة الصوتية في القرآن الكريم (2)
عناصر الحياة نعم كبرى
هل تصورت الفراغ يومًا؟
الرّويعي يدشّن ديوانه الشّعريّ الجديد (عطر الشّجرة الوحيدة)