علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيف يمكن تصوّر الله خارج المكان؟!

هناك سؤال كثيراً ما يتداول على ألسنة الناس بمختلف مستوياتهم وهو: أين الله؟ لكنّ المشكلة لو أجبناهم بأنّ الأينيّة مخلوقة من قبل الله تعالى، فلا يدخل فيها؛ لأنّ المكان والزمان مخلوقان من قبله، أو حسب تعبير أمير المؤمنين - عليه السلام -: «أيّن الأين، فلا أين له، وكيّف الكيف فلا كيف له»؛ لأننا إذا قلنا بمكان لله فقد حدّدناه، وهذا مخالف لما عرفناه عن واجب الوجود. حيث لابد أن ترفع من الذهن كلمة (أين) عندما نسأل عن الله؛ لأنّه خارج عن حدود الأين.

 

ولكن هنا يرد السؤال الآتي، وهو: لو خرجنا خارج هذا الكون ماذا يوجد وراءه؟ هل يوجد الله سبحانه وتعالى وراء هذا الكون؟ طيّب لو قلنا: إنه سبحانه وتعالى لا يوجد خارج الكون إذاً لا معنى متصوّر للإله؛ لأنّه عدم، فما دام غير موجود في أجزاء العالم المكانيّة وغير موجود خارجها فهو معدوم؟ وهنا سؤال آخر، وهو: قبل أن يخلق الباري عز وجل الكون أين كان؟ هل كان معدوماً؟ إنّنا نلاحظ من خلال الأسئلة السابقة أنه إذا نفينا مكانه فسوف نقول بالعدمية.. وهل يوجد فراغ خارج الكون أو حسب تعبير الفلاسفة خلاء؟ وماذا وراء هذا الخلاء؟

 

أولًا: إذا نفينا مكانه سبحانه وتعالى فسوف نقول بعدميّة وجوده المقيّد بالزمان والمكان، فالله المقيّد بالزمان والمكان غير موجود، وهذ غير عدمية وجوده المطلق؛ لأنّ نفي المقيّد لا يساوي نفي المطلق بالضرورة. ووجود الله في هذا العالم لا يعني الوجود المقيّد بالمكان.

 

ولو لاحظتم فسترون أنّكم في البداية ذكرتم أنّ الله تعالى هو الذي خلق الزمان والمكان أو خلق الأين والمتى على الخلاف بين المفاهيم والمقولات، لكنّكم مرّةً أخرى لم تستطيعوا التحرّر من مفهوم الزمكانيّة. يجب في البداية أن نتحرّر من مفهوم الزمان والمكان لنرى الأمور، مثلًا الله سبحانه وتعالى كلّ الأشياء عنده ذات لحظة واحدة إذا صحّ التعبير، إنّما نحن الذين يمرّ علينا الزمان، وبالنسبة إليه فإنّ الأمس واليوم واحد، ولهذا قال الفلاسفة باستحالة انعدام الموجود؛ لأنّ الموجود ينعدم انعداماً نسبيًّا بالنسبة إلينا في أفق الزمان والمكان، وإلا فإنّنا عندما نتجرّد عن الزمان والمكان فلن نجد إلا أشياء واحدة معاً مجتمعةً لا موزّعةً على عمود الزمان أو لا تلتقي، ولهذا يقولون بأنّه عند التجرّد يصبح العالم المادي كلّه في قبضتك. فالموضوع هو موضوع إدراك اللازمكانيّة، وسبب هذا الخطأ هو عدم قدرتنا عادةً على تصوّر الوجود غير المقيّد، فإذا ثبت الوجود غير المقيّد بدليل أو برهان لم يعد معنى لهذا الإشكال.

 

ثانياً: إنّ علاقة الله بالعالم - من وجهة نظر الكثير من الفلاسفة - ليست علاقة شيء بشيء آخر وكأنّ بينهما حبلًا، بل وجود الثاني متعلّق بوجود الأول ووجود الأوّل محيط بالثاني، فطريقة علاقة وجود الله بالعالم لا يصحّ أن نقيسها - فلسفيّاً - على علاقات الأشياء المادية ببعضها. وأحد أسباب الخلل في فهمنا لطبيعة العلاقة بين الله والعالم فلسفياً هي تصوّرنا أنّ علاقة الله بالعالم كعلاقة مثل العلل الإعدادية بمعلولها، مثل علاقة النجار مع الكرسي، حيث يقوم النجّار بصنع الكرسي، ويكون للكرسي وجودها الخاصّ المنفصل عن النجّار بعد وجودها، أو كعلاقة شخص بآخر في البئر وبينهما حبل، فإنّ هذه العلاقات تفترض مسافة فاصلة بين العلّة والمعلول.

 

ولهذا أنت عندما تريد أن تقيس علاقة الله بالعالم بهذه الطريقة تجد نفسك مضطراً لكي تتصوّر الله في هذا العالم كما تتصوّر نفسك فيه، مع أنّ الله علاقته من نوع علاقة العلّة الفاعلية المفيضة للوجود لا العلل الإعدادية، فنفوذه في العالم ليس بنحو أنّه يحلّ فيه أو بنحو أنّه يكون فيه، بل علاقته مثل علاقة ذاتك بحالاتك النفسيّة - إذا أردت أن أشبّه الأمر - فذاتك علّة حالاتك النفسية، وليست حالاتك النفسية سوى شعاع ذاتك لا أمراً منفصلًا أو كينوناً مستقلًا تربطه بذاتك حبال أو روابط.

 

إنّ فهم هذه القضايا يحتاج - من وجهة نظر الفلاسفة - للكثير من الجهد في الخروج من أطرنا الزمكانية، وكما يقول الهرمنوطيقيون وعلماء اللسانيات: إنّ اللغة البشرية قائمة على ثنائي الزمان والمكان، فلا تولد لغة بعيدة عنهما، وهذا ما يصعّب أمر تصوّر فكرة الله المتعالي عن الزمان والمكان تصوّراً ذهنيّاً.

 

ثالثاً: إنّ هناك صراعاً تاريخياً لا ينقطع بين المفكّرين والفلاسفة وعلماء الطبيعيات حول نهاية العالم مكانيّاً، ونهايته زمانيّاً أيضاً، ولهذا ذهب الكثيرون إلى لا نهائيّة العالم، وقالوا بأنّه لا يتناهى أيضاً، وهذا موضوع آخر، لكن لو فرضنا أنّه يتناهى فلماذا لا نتصوّر وجود الله بعده وجوداً غير مكاني، إنّ عدم التصوّر ناتج عن الأفق الزمكاني لعقولنا العادية، لا عن عدم إمكان هذا الشيء. وهناك فرق من الناحية الفلسفية والعلمية بين صعوبة التصوّر وبين قيام دليل على استحالة ما صعب تصوّره علينا، فليلاحظ ذلك.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد