الشيخ جعفر السبحاني ..
إذا قلنا إنّ المجتمعات محكومة بقانون وسنّة معينة، فكيف نفسّر الصدفة التاريخية؟ وهل أنّ هذه الصدفة نقض لقانون العلّية والمعلولية؟
الجواب: إنّ للصدفة معاني مختلفة ومتعددة، وكلّ معنى منها يتطلّب لنفسه حكماً خاصاً به، وهذه المعاني عبارة عن:
1. الصدفة: بمعنى وجود الشيء من دون علّة، الأعم من العلّة الطبيعية وغير الطبيعية.
وهذا المعنى للصدفة مرفوض من قبل المفكّرين والعلماء، ولا يوجد مفكّر ـ حقّاً ـ يؤمن بهذا المعنى من الصدفة.
نعم يوجد مفكّر واحد فقط أنكر قانون العلّيّة والمعلولية وهو الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، وأنّ الذي دعاه إلى اتّخاذ هذا الموقف هو انّه يعتقد أنّ الطريق الوحيد لإثبات العلوم هو الحس والتجربة فقط، وبما أنّ هذا القانون خارج عن مجال الحسّ والتجربة، ولا يمكن إثباته من خلالهما، فلذلك أنكر هيوم هذا القانون. وإذا ما وجد من يصطلح على بعض التحوّلات الطبيعية أو التاريخية مصطلح «الصدفة» فليس مراده ـ قطعاً ـ انّ هذه التحوّلات قد حدثت من دون علّة، بل مراده هنا من لفظ «الصدفة» هو «الاتّفاق».
2. الصدفة: بمعنى صدور النظم والسنن عن سلسلة من العلل غير العاقلة وغير المدركة ومن دون أي محاسبات عقلية، وحسب الاصطلاح : تفسير العالم على أنّه وليد سلسلة من العلل المادية الفاقدة للشعور والإدراك.
إنّ الصدفة بهذا المعنى قبلها وتبنّاها المفكّرون الماديون ودافعوا عنها حيث إنّهم اعتقدوا أنّ النظام العالمي وليد انفجار هائل حدث في عالم المادة فأوجد حالات كثيرة من الفعل والانفعال أدّت إلى وجود العديد من النظم، ثمّ ومن خلال اجتماع تلك النظم الصغيرة، تولّد ذلك النظام العالمي المحيّر للعقول، فعلى هذا الأساس لا يكون النظام العالمي مولوداً بدون علّة وإنّما هم يسلّمون أنّه وليد علّة ما، ولكنّهم لا يفسّرون تلك العلّة بالعلّة العاقلة المدركة والواعية.
والحال أنّ التساؤل التالي يطرح نفسه وبقوة: هل ياترى يمكن لهذا العالم الواسع والبديع والعجيب المبتني على النظام من الذرة إلى المجرّة، أن يكون وليد تلك الصدفة والمادة الصمّاء؟!!
ونحن هنا لسنا بصدد الإجابة عن هذا التساؤل ولكن نقول على نحو الإجمال: إنّه يستحيل لهذه الصدف ان تولد حالة واحدة من مليارات الحالات المنظمة في العالم فضلاً عن تكوين كلّ هذا النظم.
3. الصدفة: بمعنى حدوث الظواهر الكونية أو التاريخية من خلال علّة وعامل، إلاّ أنّ هذا العامل وهذا السبب لا يخضع لقانون وضابطة كلّية عامّة، ولا يمكن اعتبار ظهور تلك الحوادث ـ بعد ذلك العامل أو السبب ـ قانوناً كلّياً وقاعدة عامة.
إنّ الصدفة بهذا المعنى من المصطلحات الرائجة على ألسنة عموم الناس، مثلاً يقول: لقد صادفت في سفري إلى كربلاء صديقي فلاناً بعد سنين طويلة من الفراق، أو أنّه حفر بئراً فصادف كنزاً، أو غير ذلك من الأمثلة.
ومن المسلّم به انّ ظهور وحدوث تلك الوقائع ـ مشاهدة الصديق أو العثور على الكنز ـ تحت تلك الشروط لا يخضع لضابطة كلّية وقانون عام، بمعنى أنّه ليس كلّ من يسافر فإنّه سيلتقي لا محالة بصديق قد افتقده مدّة طويلة، أو كلّ مَن يحفر بئراً يعثر على كنز، بل هناك علل وشروط خاصة اقتضت أن يعثر في هذا البئر على الكنز، ولكن ذلك لا يمثل ـ أبداً ـ قاعدة كلّية وقانوناً عامّاً ودائماً.
وبالنتيجة هناك فرق أساسي بين عدم وجود العلّة أساساً وبين عدم عمومية وكلّية هذه العلّة، وحسب التعبير الفلسفي «انّ هذه الظاهرة ليست ملازمة لنوع العلّة» بمعنى أنّه «ليس كلّ حفر بئر يؤدي إلى العثور على الكنز» و إن كان الحفر في حالة خاصة قد أدّى إلى الوصول إلى تلك النتيجة.
وأمّا جواب الشطر الثاني من السؤال فهو:
إنّ تفسير الحوادث التاريخية من خلال الصدفة يتماشى مع التفسير الثالث للصدفة، فعلى سبيل المثال: يذكر المؤرخون في سبب نشوب الحرب العالمية الأُولى: انّ الحرب نشبت على أثر اغتيال ولي عهد النمسا، ممّا أدّى إلى إشعال فتيل الحرب في أُوروبا بأسرها ثمّ العالم، وهذا يعني أنّ حدثاً صغيراً قد وقع والذي قتل على أثره أحد الأُمراء، سبّب وقوع تلك الفاجعة العظيمة في العالم.
فهنا إطلاق الصدفة يراد منه أنّه وبسبب بعض الشروط والأسباب الخاصة في المنطقة، اشتعل فتيل الحرب، وصار ذلك الحدث ذريعة لدخول الجيوش ميدان القتال وساحات الحرب واتّساع نطاقها ليشمل جميع العالم. ولكن هذا الحدث الناتج من قتل الأمير النمساوي، لا يمكن اعتباره قانوناً كلّياً وضابطة عامة لنشوب حروب عالمية، لأنّه طالما قتل أُمراء وأولياء عهد في العالم ومع ذلك لم تحدث في العالم أدنى ردّة فعل ولو يسيرة جداً، فضلاً عن حدوث تلك الفاجعة العظيمة.
وبالطبع أنّه كان يختفي وراء نشوب الحرب العديد من الأسباب والشروط الكثيرة من الاضطراب والفوضى السياسية والاقتصادية،والتضاد الفكري، التي برمّتها تمثّل الأرضية الأساسية للحدث وأنّ قتل ولي العهد لا يعدو عن كونه مثّل الفتيل والصاعق الذي فجر مخزن المتفجرات لا غير.
الصدفة التاريخية
حدّثنا التاريخ عن الكثير من الوقائع والحوادث ومصير الأُمم السالفة، التي من الممكن تفسيرها على أساس الصدفة بالمعنى الثالث، ويوجد في هذا المجال كم هائل من القصص بحيث لا يمكن الركون إليها جميعاً والاعتماد عليها، نكتفي بذكر قصتين منها فقط:
1.حاصر عماد الدولة الديلمي مدينتي اصفهان وفارس وأخرج منهما ممثل الخليفة وواليه. ولكن واجهته مشكلة خطيرة جداً كادت أن تخلق له أزمة حقيقية وهي نفاد الخزينة التي أعدّها للحرب والمواجهة، ولذلك أقلقه هذا الأمر جداً خوفاً من أن يشعر الجنود بخلو الخزينة ونفادها، ممّا يضطرهم إلى الاعتداء والتجاوز على أموال الناس وممتلكاتهم الأمر الذي يولّد ردة فعل لدى الجماهير لا تحمد عقباها أبداً. فأخذ يفكر في الأمر جلياً ليرى ماذا يفعل لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة، فرفع رأسه إلى سقف الدار وإذا بأفعى تخرج رأسها من فجوة ثمّ تختفي وراءها، وهكذا تكررت الحالة أكثر من مرّة، فأمر عماد الدولة الديلمي جنوده بإزالة سقف الدار ومتابعة أمر هذه الأفعى، فامتثل الجنود أوامره وتابعوا مسير الأفعى وإذا بهم يعثرون على خزين من العملة الذهبية القاجارية والتي كانت يطلق عليها لفظ (أشرفي) كان قد أعدّها حاكم الولاية السابق ليوم بؤسه وفاقته، فكانت من نصيب عماد الدولة وجيشه.
2. القصة الثانية في هذا المجال: انّ الأمير الساماني إسماعيل حينما هاجم «هراة» نفدت خزينته، ولكي لا يعتدي الجنود على أموال الناس أمر الجيش أن يعسكر خارج المدينة، فامتثل الجيش أوامره وخرجوا من دون تحديد الجهة والمكان الذي يريدون النزول بها، فإذا بهم يرون في السماء غراباً يحمل في منقاره قلادة، تابعوا الغراب وإذا به يضع تلك القلادة في بئر، فنزل الجنود إلى أسفل البئر فوجدوا صندوقاً من المجوهرات، اتّضح فيما بعد أنّ غلمان الأمير الصفاري عمرو بن ليث قد سرقوه من الخزينة أيام المحنة وألقوه في هذا المكان، ولكنّهم لم يوفّقوا لإخراجه والاستفادة منه.
إنّ هاتين القصتين وغيرهما من القصص تُعدّ من الحوادث الاستثنائية التي لا يمكن اعتبارها أساساً كليّاً للحركة والعمل، ولا يمكن أبداً بناء الحياة والتحرك السياسي أو العسكري اعتماداً على هذا النوع من الصدف، بل الأُمم والشعوب الحيّة والواعية تحل مشكلاتها على أساس التدبير والحكمة والتخطيط الدقيق، ولا تركن إلى الصدفة وظهور كرامات الأولياء والصالحين، بل تعتمد الجد والمثابرة للتغلّب على المصاعب وحلّ عقد الحياة التي تواجههم، لأنّهم يدركون جيداً أنّ العالم يبتني على سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية، وانّ المجتمع الإنساني ملزم ـ لنيل مطالبه ـ أن يطرق باب تلك العلل والأسباب ويلج هذا الطريق للوصول إلى أهدافه ومقاصده.
إنّ الأنبياء العظام والأولياء الصالحين لم يركنوا في حياتهم ـ الفردية أو الاجتماعية ـ على المعجزة والكرامة، وما شابه ذلك، بل كانوا ـ بالإضافة إلى الركون إلى فضله سبحانه وكرمه ـ يعدّون العدّة لكلّ شيء، ويجدّون في العمل والمثابرة وبذل أقصى الجهود لنيل أهدافهم، وحتّى في الحالات التي تتأزّم فيها الأُمور وتبلغ القلوب الحناجر وتحبس الأنفاس في الصدور وتوصد جميع الأبواب والسبل، نجدهم (عليهم السلام) لا ينهزمون ولا ينحنون أمام تلك العواصف، بل يتوجّهون إلى ربّهم بالدعاء والتوسّل ـ التي تعد أيضاً من الأسباب الطبيعية التي ينبغي التمسّك بها ـ و لذلك يعتمدون على اللّه وعلى أنفسهم وجهودهم، ولا ينتظرون من الآخرين حلّ المشاكل والأزمات لهم انطلاقاً من المثل العربي السائد«نفس عصام سوّدت عصاما...».
إنّهم(عليهم السلام) لا يعتمدون في ساحة الجهاد والحرية والاستقلال على الصدفة، ولا يركنون إلى الأمل والتمنّي في أن تقع معجزة ما تحل لهم المشكلة. كلا أنّ ذلك لم يكن منهج الأنبياء والرسل والصالحين.
ثمّ إنّ القرآن الكريم يؤكد أنّ السعادة من نصيب الناس الذين يكون إيمانهم مقترناً بالعمل الصالح والجد والمثابرة،وليس اعتباطاً أن تتكرر جملة ( إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات ) ثلاث وستين مرّة، حيث تقرن الإيمان بالعمل، وكأنّ الإيمان الحقيقي هو ذلك الإيمان المستتبع للعمل والجد والنشاط.
حيدر حب الله
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
السيد محمد باقر الصدر
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان