علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الأبعاد الخفيّة

ليس العالم كما يتراءى لأفكارنا التي اعتادت أن تتصوره في إطار محدد. هذا الإطار يجمع كل تجاربنا وخبراتنا اليومية. هذا التصور البسيط للعالم قد يبدو فعالًا وناجحًا ضمن هذا الإطار نفسه. من خلال هذا التصور الذي يعي العالم في ثلاثة أبعاد تمتد الى ما لا نهاية وبعد زماني ينساب بالطريقة نفسها لكل المرجعيات المتحركة والثابتة وهو كذلك منفصل عن هذه الأبعاد المكانية الثلاثة، وضع نيوتن نظريته في الجاذبية التي أسست لتصور ميكانيكي – آلي للكون يقوم على فكرة الاتصال بين حدث ما في الزمان والمكان، وبين سلسلة من الأحداث السابقة عليه.

 

لكن العالم يبدو مختلفًا عن هذا التصور البسيط والفعال ضمن إطار مشاهداتنا، فمع سبر أغوار هذا العالم بدا أنه يخفي عنّا حقائق تختلف تمامًا عمّا اعتاد التصور البسيط والمباشر أن يشكل وعينا عنه. فكلما تعمقنا في فهم هذا العالم على المستوى الصغير جدًّا، الذرات وما دون الذرات، أو على المستوى الكبير جدًّا للمجرات، أُجبرنا على الخروج من هذا التصور االبسيط والمباشر. إذ لا يمكن أن نفهم هذا العالم في مستوياته المختلفة بنفس الطريقة الآلية البسيطة التي وضعها نيوتن في فضاء لا متناه وزمان لامتناه منفصل تمامًا عن المكان. فحقائق العالم تبدو أكثر تعقيدًا وأبعد عن تصوراتنا المألوفة والمباشرة عن الكون.

 

فمع نسبية آينشتاين أصبح الزمان والمكان نسبييّن ويعتمدان على المرجعيات المتحركة، وتم دمج الزمان والمكان في كينونة واحدة يطلق عليه الزمكان (space-time) وصيغت المعادلات الرياضية بناء على هذا الدمج، ونتج عن ذلك فهم جديد للجاذبية مختلف تمامًا عن التصور النيوتني. فالجاذبية ما هي إلا انحناء في نسيج الزمكان تسبّبه الكتلة (أو الطاقة). إذن، العالم في أربعة أبعاد يزيح الستار عن حقائق جديدة أمام الإنسان ما كان بالإمكان أن نفهمها لو أننا لم نتصوره في أربعة أبعاد.

 

في عام 1919 فكر العالم الإلماني كلوزا (Kaluza) بالطريقة نفسها التي فكر بها آينشتاين، وتساءل عما يمكن أن يكشف لنا من حقائق إذا أضفنا بعدًا مكانيًّا خامسًا إلى الأبعاد الأربعة. يبدو الأمر غريبًا جدًّا فالأبعاد الأربعة يصعب تصورها معًا فما معنى أن يكون العالم في خمسة أبعاد.

 

كانت القوى الطبيعية المعروفة في ذلك الوقت هي قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية وكان حاصل إضافة هذا البعد الخامس أن جاءت المعادلات الرياضية بمعادلة آينشتاين في الجاذبية ومعادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية. كانت النتيجة مفاجئة وعميقة، إذ وحّد هذا البعد الإضافي القوتين معًا في قوة واحدة. لقد أرسل كلوزا النتائج التي حصل عليها إلى آينشتاين وتم نشر نتائجه في عام 1921. قبل مقترح كلوزا لم يفكر أحد بأن ثمة علاقة بين قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية. ولكن مع تصور العالم في خمسة أبعاد يمكن الجمع بين هاتين القوتين. لكن السؤال أين هو هذا البعد الخامس، لا أحد يراه.

 

في العام 1926 اقترح كلاين (Klein) أن هذا البعد الخامس مجهري أي صغير جدًّا وملتو بحيث لا نستطيع رؤيته. إن ذلك يشبه النظر إلى أنبوب أسطواني، فإذا نظرنا إليه من بعيد جدًّا فإننا نراه كخط مستقيم، وإذا اقتربنا منه فإننا سنرى الجانب المقوس منه.  فيمكن أن يكون الكون مكونًا من أبعاد كبيرة، هي الأبعاد الثلاثة المعروفة بالإضافة إلى البعد الزماني وبعد خامس مجهريّ ومقوس لا يمكن رؤيته. ويمكن أن نتصور النسيج الفضائي بأبعاده الخمسة على أنه في كل نقطة في الفضاء منه يوجد دائرة تمثل البعد المقوس الذي لا نراه.

 

ولكن إذا كان هذا البعد الخامس صغيرًا جدًّا فما هو مقداره؟ تمكّن كلاين أن يجمع بين مقترح كلوزا مع بعض الأفكار من النظرية الكوانتية ليحدد لنا المقدار الصغير لهذا البعد الخامس، وكان أن جاءت حساباته بأن هذا البعد الخامس صغير بمقدار طول بلانك (planck length) وهو مقدار ضئيل جدًّا تعجز قدرتنا التجريبية من أن تحدده. ورغم جمال هذه الفكرة، لكن لما كان لهذه النظرية تعارض مع معطيات التجربة فعند محاولة دمج الإلكترون في النظرية أعطت المعادلات نسبة كتلة الإلكترون إلى شحنته قيمة بعيدة عن التجربة. ولما لم يكن بالإمكان إصلاح هذا التعارض، فقد تخلى العلماء بما فيهم آينشتاين عن هذا البعد الخامس المجهري والمقوس.

 

عزا بعض الفيزيائيين عدم نجاح المقترح الذي قدمه كلوزا إلى أن كلوزا لم يكن يعلم بوجود قوتين أخريين في الطبيعة هما القوة القوية (strong force) والقوة الضعيفة (week force)، فمع وجود هاتين القوتين نحن بحاجة إلى إضافة أبعاد أخرى. في سبعينيات القرن العشرين كانت هناك أبحاث مكثفة حول نظريات الأبعاد الكثيرة المجهرية والمقوسة.

 

هذه الفكرة المثيرة حقًّا والتي تتصور وجود أبعاد إضافية صغيرة جدًّا أصغر من قدرتنا التجريبية على الوصول إليها، تدفع بالفكر النظري الرياضي إلى أن يصوغ هذا العالم في هذه الأبعاد، ويحاول من خلال هذه المعادلات الرياضية أن يجد حلولًا لم يكن بالإمكان على المستوى النظري الرياضي أن نجد لها حلولًا. ولذلك جاءت نظريات تصف العالم في أبعاد عليا منها نظرية الجاذبية العليا. كما أن هذه الفكرة تدفع بالخيال الروائي إلى صناعة قصص وروايات عن عوالم وحضارات تعيش في هذه الأبعاد الصغيرة.

 

لم تكن هذه الأبعاد الإضافية إلا فكرة حولها العلماء إلى مجموعة من المعادلات الرياضية، وكان أن جاءت هذه المعادلات بنتائج مهمة. ظل الأمر كذلك حتى جاءت نظرية الأوتار. إذ جاءت هذه النظرية كمحاولة للجمع بين نظريتين كبيرتين في الفيزياء ولكن غير متوافقتين، هما النظرية الكمية التي هي ناجحة وفعالة على المستوى الذري وما دون الذري، ونظرية آينشتاين في الجاذبية التي هي فعالة في الكتل الكبيرة جدًّا.

 

ولكي يتم التوفيق بين هاتين النظريتين من خلال تصور أن الأساس المكون للعالم هي أوتار صغيرة جدًّا تهتز وينتج عنها الجسيمات المكونه لعالمنا، تطلب الأمر أن يكون للعالم عشرة أبعاد. تسع منها مكانية وبعد زماني واحد. هذه الحاجة إلى هذه الأبعاد الستة الإضافية لم يفرضها الخيال ليضعها بعد ذلك في قالب رياضي، بل إن المعادلات الرياضية نفسها التي تصف هذه الأوتار المهتزة، تفرض الحاجة إلى هذه الأبعاد. ووفقًا لنظرية الأوتار فإن العالم يتضمن أبعاد ستة إضافية ومقوسة على شكل يسمى كالابي- ياو.

 

هذه ميزة مذهلة لهذه النظرية التي تصور العالم في عشرة أبعاد. هذه النظرية هي المرشحة عند العلماء لتوحيد جميع القوى في الطبيعة.

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد