قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ شفيق جرادي
عن الكاتب :
خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت. تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.

الصبر وحسن البلاء

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [1].

 

إن كان الله سبحانه وتعالى قد أوضح أن سرّ خلق الكائن العاقل من الناس وسببه هو العبادة؛ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ﴾[2]، فإنه سبحانه أوضح السبيل لأهل الفكر من الناس أن الحياة المحفوفة بالموت فيها سرٌّ مكنون عليهم أن يعوا تفصيله؛ ليتمايز الخبيث منهم عن الطاهر، والصادق منهم عن الكاذب، وأهل الكمالات والفضائل عن أهل متاع الحياة الدنيا الذين ينهارون عند أدنى الشدائد والمصائب؛ لذا فإن خلق الله للموت والحياة إنما كان -حسب القرآن الكريم- ليبتلي الله عباده أيهم أحسن عملًا.

 

إن أول ما تنبّهنا إليه هذه الحقيقة هو أن البلاء ليس على الأغلب عقابًا إلهيًّا، بل هو اختبار يقطع فيه الإنسان تجارب بالحياة مرةً بعد مرة، ليرقى أو ليهبط وفق نتائج الاختبارات التي يتعرّض إليها. ومن المهم جدًّا أن يعي الإنسان أن هذه الاختبارات من المصاعب والمصائب لا تستثني أحدًا من الناس؛ لأنها من طبع الدنيا والزمان والعيش في الدنيا.

 

فالدنيا مجبولة على الاختبارات حسب طبيعتها وصنف هويتها، وبلاؤها يعم كل كائن فيها، فاسدًا كان أم صالحًا؛ لذا قيل: "البلاء إذا نزل عمَّ".

 

صحيح أن القرآن صرّح بنوع خاص من العقاب الذي ينزله الله سبحانه على الأمم والشعوب؛ إذا بلغ ظلمها وترفها حدًّا يستدعي نزول العقاب ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾[3]، ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾[4]. وهذا أمر أكّده الباري، وجعل تحديد نوعه وموعده عنده وحده، وهو قد يحدث بنوازل غير عادية، أو بفعل عوامل من الطبيعة؛ كالريح والزلازل والصواعق وغيرها... أو بفعل الانهيارات الداخلية المتسارعة في داخل تلك الأمم، أو بفعل تسليط قوم عليهم.

 

لكن ما نتحدث عنه هنا هو البلاء الذي يحصل بفعل طبيعي من طبيعة مسيرة الحياة الدنيا، مثل المرض، والفقر، والجوع، والألم، والفقدان، والخسارة، والموت.

 

إن من طبيعة الحياة في الدينا أن يتعرض الإنسان لكل ذلك، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[5].

 

إن وقوع هذه المصائب والبلاءات ليست بفعل ترتّب شيء إلهي على أمر من أفعال البشر، بمقدار ما هو سنّة إلهية دائمة تقتضيها دنيا الناس والأجيال منهم، ففي الحياة الخوف والأمن، والجوع والشبع، والزيادة والنقصان، والولادة والفقدان؟ المسألة هنا هي كيف نواجه مسار الحياة وتحدّياتها.

 

إنسان التحدّيات

 

من هذه المنطلقات يتبلور الناس في هويّاتهم الفعلية؛ إذ الأزمات هي التي تلْهِب الوعي والإرادة فيهم، فإن تكاسلوا وتثاقل وعيهم وإرادتهم فانجرفوا مع الصعاب، صاروا من أهل الدناءة والصغَار والمذلة، وتجلببوا اليأس أو الطغيان، وارتادوا منازل التعنّت والجحود والنكران والانغماس في لحظة الذات المجبولة بطين الدنيا وما تسوق الناس إليه.

 

أما إن تحرّروا من ألم الانكسار أمام الجوع والخوف، وتعالوا على جراحات الفقد والهجر والحاجة؛ وذلك بأن اهتدى وعيهم إلى موئل كل وصال ورزق وحياة، واسترشدت إرادتهم إلى مصدر كل عزة وغنى، وذلك عبر إعلانهم أن كل ما في الحياة عبورٌ لا يستقرّ، وأن الاستقرار هو في ملكوت ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، فصارت دنيا عيشهم مركونة بركن ملكوتهم الوثيق الذي لا يعرف الهوان والسقوط، بل يستقبل الله بما يعوِّض عليهم سبحانه من فقدان بعطاءاته الجزيلة، لينتقلوا بها بعد الابتلاء إلى مستقر الرحمة ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.

 

هذه النقطة فيما تثيره الآية تعتبر أعظم اختبار لمضمون معتقد الناس ورؤيتهم للحياة؛ إذ البلاء عندما يشتد يختبر أول ما يختبر إيماننا بالله سبحانه، بل يختبر مضمون القيم التوحيدية التي  نحملها. فهل نؤمن بالله وأنه رب كل شيء ومليكه؟ هذا أولًا، أما القيم ومضامين التوحيد، فهل نثق بالله سبحانه وبحبه وبرحمته وأنه مصدر كل خير لنا، وأنه لا يخلِف وعدًا وعد به الصابرين أم لا؟

 

أن تقول: ﴿إِنَّا للهِ﴾، فهذا إقرارٌ به وبوحدانيته سبحانه، وأن تقول: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فهو إعلان تقرّ به أن مصائر الأمور تعود إليه، وأنه أحكم الحاكمين، وأنه صاحب الوعد، وأنه تكفل عباده في بدئهم وختامهم ولا يتخلّى عنهم، مما يتضمن الثقة به والأمل بالمستقبل الذي ترجوه، مهما كانت مسالك الحياة معقّدة وصعبة. إن هذا الموقف الإيماني يصدر عن بعض الناس، لا كلّهم، وهؤلاء هم أهل الإيمان حقًّا. فالإيمان ثقة وثبات على ما تعتقد، وليس كلامًا حلوًا تطلقه في الرخاء حينما تتحدث عن ربك؛ إذ لطالما كان هناك أناس إذا مسّهم الخير تحدّثوا عن إكرام الله لهم، وإذا مسّهم بعض البأساء اعتبروا أن الله أهانهم، وهذا عين النكران.....

 

 

من الأمور التي بشر الله بها الصابرين:

 

1. الفوز: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾[6]. فبمقتضى وعد الله لأهل الصبر تحصيل الفوز في نيل الغاية والمرام، وهذا الفوز وعد أخروي، لكنه أيضًا وعدٌ لفوز في الدنيا.

 

2. الجزاء الوفير: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[7]. ومثل هذا الأجر هو أوسع من أن يكون على فعل واصطبار محدّد من قوم محدّدين، بل هو جزاء لأهل رتبة إلهية كرّمها الله، هي رتبة الصابرين، وحدودها وِفق الآية ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

3. اعتبار الله أن أهل الصبر هم أهل التقوى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾[8]. وأفضل عاقبة ومصير دنيوي وأخروي يناله إنسان هو عاقبة التقوى التي خصها الله سبحانه بأهل الصبر، ولنفس هذا الاعتبار عدّهم المولى سبحانه بأنهم أهل الصدق أيضًا ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[9].

 

4. إحباط المؤامرات ضد الصابرين: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾[10].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة الملك، الآية 2.

[2]  سورة الذاريات، الآية 56.

[3] سورة هود، الآية 102.

[4]  سورة إبراهيم، الآية 47.

[5] سورة البقرة، الآيات 155 - 157.

[6]  سورة المؤمنون، الآية 111.

[7]  سورة الزمر، الآية 10.

[8]  سورة هود، الآية 49.

[9]  سورة البقرة، الآية 177.

[10] سورة آل عمران، الآية 120.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد