إنّ المولى سبحانه شاء أن يبقى حديث الغدير غضاً طرياً لا يبليه الملوان، ولا يأتي على جدته مرّ الحقب والأعوام، فأنزل حوله آيات ناصعة البيان، ترتّله الأمّة صباحاً ومساء، فكأنّه سبحانه في كلّ ترتيلة لأيّ منها يلفت نظر القارئ، وينكت في قلبه، أو ينقر في أذنه ما يجب عليه أن يدين الله تعالى به في باب خلافته الكبرى، فمن الآيات الكريمة قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة حجّة الوداع (10 ه) لمّا بلغ النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم غدير خُمّ فأتاه جبرائيل بها على خمس ساعات مضت من النهار، فقال: يا محمّد، إنّ الله يقرئك السلام، ويقول لك: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك..﴾ في عليّ ﴿.. وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته..﴾ وكان أوائل القوم -وهم مئة ألف أو يزيدون- قريباً من الجحفة، فأمره أن يردّ من تقدّم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، وأن يقيم علياً عليه السلام عَلَماً للناس، ويبلّغهم ما أنزل الله فيه، وأخبره بأنّ الله عزّ وجلّ قد عصمه من الناس.
وما ذكرناه من المتسالم عليه عند علماء الإماميّة، غير أنّا نحتجّ في المقام بأحاديث أهل السنّة في ذلك، فإليك البيان:
1 - الحافظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفّى (310هـ) أخرج بإسناده في - كتاب الولاية في طرق حديث الغدير- عن زيد بن أرقم، قال:
لمّا نزل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بغدير خُمّ في رجوعه من حجة الوداع وكان في وقت الضحى وحرّ شديد، أمر بالدوحات فقمت، ونادى الصلاة جامعة فاجتمعنا، فخطب خطبةً بالغةً ثمّ قال: إنّ الله تعالى أنزل إليّ ﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، وقد أمرني جبرائيل عن ربّي أن أقوم في هذا المشهد وأُعلم كلّ أبيض وأسود أنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي والإمام بعدي، فسألت جبرائيل أن يستعفي لي ربّي لعلمي بقلّة المتّقين وكثرة المؤذين لي واللائمين لكثرة ملازمتي لعليّ وشدّة إقبالي عليه حتى سموني أذناً، فقال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾، ولو شئت أن أسمّيهم وأدلّ عليهم لفعلت، ولكنّي بسترهم قد تكرّمت، فلم يرضَ الله إلاّ بتبليغي فيه، فاعلموا معاشر الناس ذلك: فإنّ الله قد نصبه لكم وليّاً وإماماً، وفرض طاعته على كلّ أحد، ماضٍ حكمه، جائزٌ قولُه، ملعونٌ من خالفه، مرحومٌ من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإنّ الله مولاكم وعليٌّ إمامكم، ثمّ الإمامة في وِلدي من صلبه إلى القيامة، لا حلال إلاّ ما أحلّه الله ورسوله، ولا حرام إلاّ ما حرّم الله ورسوله وهم، فما من عِلمٍ إلاّ وقد أحصاه الله فيّ ونقلتُهُ إليه، فلا تضلّوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحقّ ويعمل به، لن يتوب الله على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتماً على الله أن يفعل ذلك، أن يعذّبه عذاباً نكراً أبد الآبدين، فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعونٌ من خالفه، قولي عن جبرائيل عن الله ﴿فَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قدّمت لِغَدٍ﴾.
افهموا محكم القرآن ولا تتّبعوا متشابهه، ولن يفسّر ذلك لكم إلاّ من أنا آخذ بيده، وشائل بعضده، ومعلِمكم: إنّ من كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاهُ، وموالاته من الله عزّ وجلّ أنزلها عليَّ. ألا وقد أدّيت، ألا وقد بلّغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت. لا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.
ثمّ رفعه إلى السماء حتى صارت رجلُهُ مع ركبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: معاشر الناس، هذا أخي ووصيّي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربّي. وفي رواية: اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، والعن من أنكره، واغضب على من جحد حقّه. اللهمّ إنّك أنزلت عند تبيين ذلك في عليٍّ: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم ..﴾ بإمامته، فمن لم يأتمّ به وبمن كان من وِلدي من صلبه إلى القيامة فأولئك حبطت أعمالهم وفي النّار هم خالدون. إنّ إبليس أخرج آدم عليه السلام من الجنّة مع كونه صفوة الله بالحسد، فلا تحسدوا فتحبط أعمالكم وتزلّ أقدامكم، في عليّ نزلت سورة ﴿وَالْعَصْرِ إنّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ﴾1.
معاشر الناس، آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارهم أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت. النور من الله فيّ ثمّ في عليّ ثمّ في النسل منه إلى القائم المهديّ.
معاشر الناس، سيكون من بعدي أئمّة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا يُنصرون، وإنّ الله وأنا بريئان منهم، إنّهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النّار، وسيجعلونها مُلكاً اغتصاباً فعندها يفرغ لكم أيّها الثقلانن ويُرسل عليكما شواظٌ من نارٍ ونحاسٍ فلا تنتصران.
2 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمّد الحنظليّ الرازيّ المتوفّى (327هـ) أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ أنّ الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب2.
3 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي المتوفّى (330هـ) أخرج في أماليه بإسناده عن ابن عبّاس حديثاً، وفيه: حتّى إذا كان رسول الله بغدير خُمّ أنزل الله عزّ وجلّ: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾، فقام منادٍ فنادى: الصلاة جامعة.
4 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازيّ المتوفّى (407هـ) روى في كتابه ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين بالإسناد عن ابن عبّاس أنّ الآية نزلت يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب.
5 - الحافظ ابن مردويه المولود (323هـ- 416هـ) أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ أنّها نزلت يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب. وبإسناد آخر عن ابن مسعود أنّه قال: كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ إنّ علياً مولى المؤمنين- ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾3. وروى بإسناده عن ابن عبّاس قال: لمّا أمر الله رسوله صلّى الله عليه وآله أن يقوم بعليّ فيقول له ما قال، فقال: يا ربّ، إنّ قومي حديث [حديثوا] عهد بجاهليّة [بالجاهليّة]، ثمّ مضى بحجّه فلمّا أقبل راجعاً نزل بغدير خُمّ أنزل الله عليه: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾. فأخذ بعضد عليّ ثمّ خرج إلى الناس فقال: أيها الناس، ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: اللهمّ من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمّ والِ مَنْ والاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ، وأعِنْ مَنْ أعانَهُ، واخذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وانصرْ مَنْ نَصَرَهُ، وأحِبَّ مَنْ أحَبَّهُ، وأبغضْ مَنْ أبغَضَهُ. قال ابن عبّاس: فوجبت والله في رقاب القوم.
وقال حسّان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخُمٍّ وأسمع بالرسول مناديا
يقول: فمَنْ مولاكم ووليّكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا:
إلهكَ مولانا وأنت وليّنا ولم ترَ منّا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا عليّ، فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
وروى عن زيد بن عليّ أنّه قال: لمّا جاء جبرائيل بأمر الولاية، ضاق النبيّ صلّى الله عليه وآله بذلك ذرعاً، وقال: قَومي حديثو عهد بالجاهليّة فنزلت الآية.
6- أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفّى (427هـ) أو (437هـ) روى في تفسيره "الكشف والبيان" عن أبي جعفر محمّد بن عليّ (الإمام الباقر) أنّ معناها: بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك في فضل عليّ. فلما نزلت أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيد عليّ، فقال: مَنْ كُنتُ مَولاهُ فعَلِيٌّ مَوْلاهُ.
وقال: أخبرني أبو محمّد عبد الله بن محمّد القايني، عن أبي الحسين محمّد بن عثمان النصيبي، عن أبي بكر محمّد بن الحسن السبيعي، عن عليّ بن محمّد الدهان والحسين بن إبراهيم الجصّاص، عن حسين بن حكم، عن حسن بن حسين، عن حبان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قوله تعالى: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾، قال: نزلت في عليّ، أمَر النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يبلّغ فيه فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيد عليّ فقال: مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمّ والِ من والاهُ، وعادِ من عاداهُ4.
7- الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المتوفّى (430هـ) روى في تأليفه ما نزل من القرآن في عليّ: عن أبي بكر بن خلاد عن محمّد بن عثمان بن أبي شيبة عن إبراهيم بن محمّد بن ميمون عن عليّ بن عابس عن أبي الحجاف والأعمش عن عطية، قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عليّ يوم غدير خُمّ5.
8- أبو الحسن الواحدي النيسابوري المتوفّى (468هـ) روى في عن أبي سعيد محمّد بن عليّ الصفّار عن الحسن بن أحمد المخلدي عن محمّد بن حمدون بن خالد عن محمّد بن إبراهيم الحلواني عن الحسن بن حمّاد سجادة عن عليّ بن عابس عن الأعمش وأبي الحجاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه6.
9- الحافظ أبو سعيد السجستانيّ المتوفّى (477هـ) في كتاب الولاية بإسناده من عدّة طرق عن ابن عبّاس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبلّغ بولاية عليّ فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾. فلمّا كان يوم غدير خُمّ قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلّى الله عليه وسلّم: فمن كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمّ والِ مَنْ والاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ، وأحبّ مَنْ أحبّه، وأبغضْ مَنْ أبغضَهُ، وانصرْ مَنْ نَصَرَهُ، وأعزّ مَنْ أعزَّهُ، وأعنْ من أعانه.
10- الحافظ الحاكم الحسكاني أبو القاسم روى بإسناده عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس وجابر الأنصاريّ قالا: أمر الله تعالى محمّداً صلّى الله عليه وسلّم أن ينصب علياً للنّاس فيخبرهم بولاية [بالولاية]، فتخوّف النبيّ أن يقولوا: حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بولايته يوم غدير خُمّ7.
- العصر: 1- 2.
2- الدر المنثور ج2 ص 298 ، وفتح القدير ج2 ص57.
3- في الدرّ المنثور ج6 ص392، من طريق ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ قوله تعالى: [إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات] نزل في عليّ وسلمان.
4- روى الحديثين عنه ابن بطريق في العمدة ص49، والسيّد ابن طاووس في الطرائف، والأربلي في كشف الغمّة ص94، ونقل الطبرسيّ في مجمعه ج2 ص223 ثاني الحديثين عن تفسيره الكشف والبيان، وابن شهر آشوب عنه أوّل الحديثين في مناقبه ج1 ص526.
5- الخصائص ص29.
6- أسباب النزول ص150.
7- مجمع البيان ج2 ص223
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
قوم يحبهم الله ويحبونه
السبب في اشتمال القرآن على المتشابه
الإسلام حرب على الظلم والفساد
نادي (صوت المجاز) يحتفي بسنويّته الأولى
التصاق كهربائي بين معادن صلبة وخضار وفواكه ولحوم
مذكرات آخر فئران الأرض، جديد الكاتب موسى الثنيان
الأسرة الدافئة (3)
الشيخ عبد الجليل البن سعد: الانتماء الصادق
الشيخ عبد الجليل البن سعد: القيم والتقوى: ركائز الأمان والتمييز في بحور النفس والمجتمع
عبور لنهر هيراقليطس، أمسية لهادي رسول في الخبر