الشيخ محسن الآراكي ..
عرفنا في الأحاديث السابقة ما يتمتع به القرآن في الإسلام من محورية ومركزيّة وعرفنا أن القرآن إنما يقول يقوم بهذا الدور المحوري في كيان الفرد المسلم إذا تفاعل هذا مع كتاب الله وأعطى من نفسه لكتاب الله ما يريد.
وإذا كان هذا التفاعل غير ممكن دون أن يتصّل الفرد المسلم بكتاب الله وإن تخلق بينهما مناسبات تمهّد أرضيّة التأثر بكتاب الله في نفس المسلم وتفتح في كيان المؤمن نوافذ وأبواب تنفذ منها أضواء الهداية القرآنية وأنوار الوحي السماوي إلى قلبه وروحه وعقله، إذا كان ذلك لا يتم إلاّ بأنْ يتّصل الفرد المسلم بكتاب الله فقد خلق الإسلام مناسبات وطرقاً شتى لهذا الاتصال والارتباط بالقرآن، وفيما يلي أهم الطرق والمناسبات التي خلقها الإسلام في المجتمع المسلم للإنشداد إلى القرآن والاتّصال به.
الطريق الأول: تلاوة القرآن، وقد تتابعت توصيات قادة الإسلام على تلاوة القرآن وقراءته وبلغ التأكيد على ذلك من قبلهم مبلغاً عظيماً فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله: من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين، ومن قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجّه القرآن(1).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من كان القرآن حديثه، والمسجد بيته، بنى الله له بيتاً في الجنة)(2) وفي بعض ما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله) أبا ذر: (عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض)(3).
ولأجل أن تكون قراءة القرآن مولّدة للأثر المطلوب وموجدة للتفاعل بأكبر قدر ممكن فقد وردت النصوص تؤكد على نوع أو أنواع خاصة من القراءة وتفضله على الأنواع الأخرى، فالقراءة في المصحف مثلًا أفضل بكثير من القراءة عن ظهر القلب، فقد روى عن إسحاق بن عمار: قلت لأبي عبد الله: جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلب فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل، أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال: (لا، بل اقرأه وانظر في المصحف فهذا أفضل، أما علمت: أن النظر في المصحف عبادة)(4).
كما أن المفضل أن تكون القراءة بصوت حسن فعن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله: (حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)، وقرأ (يزيد في الخلق ما يشاء)(5).
وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله، الرجل لا يرى أنه صنع شيئاً في الدعاء والقراءة، حتى يرفع صوته، فقال: (لا بأس، إن علي بن الحسين (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار، وإن أبا جعفر (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا أقام من الليل، وقرأ رفع صوته فيمرُّ به مارّ الطريق من السّقّائين وغيرهم، فيقومون فيستمعون إلى قراءته)(6).
الطريق الثاني: اتخاذ المصحف في البيت، فقد أكّدت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) على اتخاذ المصحف في البيت مما يدل على أن اتخاذ المصحف في البيت أمر مستحب مندوبٌ إليه في الشرع بنفسه، ولا شكّ أن اتخاذ المصحف في البيت يمهد أرضيّة الاتّصال بالقرآن فإنّ الذي يعلّق المصحف في بيته أو يستنسخ نسخة منه يضعها في متناول يده فلابد أن يدعوه ذلك إلى أن يتلو أجزاءً من القرآن في بضع المناسبات الخاصة أو الحالات المعينة إذا لم يكن هناك التزام منهجي من قبل الرّجل بتلاوة القرآن كما هو المستحسن المطلوب، وحتى إذا كان المسلم أمياً لا يعرف من القراءة والكتابة شيئاً أو غير عربي لا يفقه من العربية شيئاً فإن وجود المصحف في بيته مما يذكره، دائماً برسالته التي يرتبط بها بعقله وروحه وجسده ويعيد في خاطرته مبادئه العليا ومثله الإسلامية التي عاهد الله على السير عليها والالتزام بها ومن هذه النقطة نستطيع أن نفهم التعبير الوارد في أحاديث أهل البيت من أن وجود المصحف في البيت يطرد الشياطين عن البيت، وفيما يلي بعض النصوص الواردة في هذا المجال: عن الصادق عن أبيه عليهما السلام أنه كان يستحب أن يعلّق المصحف في البيت يتقى به من الشياطين، قال: ويستحب أن لا يترك القراءة فيه(7).
وعنه أيضا عن أبيه عليهما السلام قال: (إنه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله به الشياطين)(8).
الطريق الثالث: استنساخ المصحف وكتابته فقد ندب إلى ذلك في أحاديث أهل البيت فقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (ستّ خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته: ولدٌ صالح ليستغفر له ومصحف يقرأ فيه وقليب يحفره وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه وسنة حسنة يؤخذ بها بعده)(9).
الطريق الرابع: النظر إلى المصحف، فإن الظاهر من كثير من الأحاديث المروية بهذا الصدد عن رسول الله والأئمة عليهم السلام أن النظر إلى المصحف عبادة مستقلة بنفسها وإن لم تصحبه القراءة في المصحف، ولذلك فقد كانت القراءة في المصحف تزيد فضل القراءة ومحبوبيتها فضلاً جديداً ومحبوبية، وهذا الطريق الثاني وهو اتخاذ المصحف، ومع الطريق الأخير الذي سوف نعرض له وهو الاستماع إلى القرآن، توسّع من دائرة الاتّصال بالقرآن حتى يتسع صدره للأميّين وغير العرب وكافة طبقات الناس من عالمهم وجاهلهم، ودنيّهم وفاضلهم، وكبيرهم وصغيرهم. مما يزيد الإنسان إعجاباً بعظمة التشريع الإسلامي ووعي قادة الإسلام إذ فتحوا للجماهير طرق التفاعل مع القرآن وسهّلوا سبل الاتصال بأحكم الأساليب وأتقن الطرق وأمتنها.
وقد روى حول النظر إلى المصحف عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (النظر إلى علي بن أبي طالب عبادة(10) والنظر إلى الوالدين برأفة ورحمة عبادة، والنظر في المصحف يعني صحيفة القرآن عبادة، والنظر إلى الكعبة عبادة)(11).
الطريق الخامس: تعلم القرآن وتعليمه. وهذا الطريق من أخصب طرق الاتصال بالقرآن والتفاعل معه ومن أكثرها أهميّة، وقد استأثر في الإسلام باهتمام بالغ من قبل صاحب الشرع، وقد استعمل هذا الطريق في أولى أيامه تحت منهجة خاصة ورعاية نبويّة معينة وقد كان في أيامه الأولى - بالإضافة إلى ما ينطوي عليه من فوائد تربوية وتوجيهية يكون الاتصال بالقرآن في مقدمتها - طريقاً إلى محو الأمية والتثقيف الجماهيري العام ولا يزال القرآن العظيم نتيجة لتلك التربية التي وضع بذورها قائد الإسلام الأعظم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الكلمة الأولى التي توضع على ألسنة المتعلمين والمتأدبين. من الصبيان والصبايا في كثير من أنحاء بلاد الإسلام ورقعته الواسعة.
وقد جاء التأكيد على تعليم القرآن وتعلمه من قبل صاحب الشرع بما لا يسع مقالنا لاستيعاب جزء منه مع أن تعلم القرآن وكذا تعليمه واجبان إجمالاً وفي بعض الظروف الخاصة.
وقد روى علي عليه السلام عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه قال: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)(12).
وعن الصادق (عليه السلام): (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعلّمه)(13).
الطريق السادس: الاستماع إلى قراءة القرآن، وقد أكّد على الاستماع إلى القرآن حتى في القرآن نفسه، مع ما ورد في السُنة من الحثّ عليه والدعوة إليه.
قال تعالى: ﴿وإذا قُرء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون﴾ - (الأعراف/ 203).
وعن زرارة قال: (سمعت أبا عبد الله يقول: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها، وإذا قُرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع)(14).
وإن كانت هناك مقتضيات علميّة معيّنة توجب صرف هذه التعابير عن ظهورها في الوجوب الشرعي المصطلح فإن دلالتها على الاستحباب المؤكد مما لا ريب فيه.
____________________________________
1- البحار ج92 ص199.
2- المصدر السابق.
3- المصدر نفسه ص198.
4- البحار ج92 ص196.
5- نفس المصدر ص194.
6- البحار ج92 ص195.
7- البحار ج92 ص195.
8- البحار ج92 ص 195.
9- البحار ج92 ص34.
10- لا يخفى لطف الصياغة والتنسيق في هذا الحديث فكأن إقران علي بالوالدين لمناسبة الولاية والأبوة الروحيّة التي بين علي وبين الأبوين وأقرانه بالمصحف يشير إلى نكتة التشابه بينهما من حيث القيادة والمرجعية والمصدرية لرسالة الله وإقرانه بالكعبة إلماع إلى جامع الشبه بينهما من حيث المركزية لحركة الاجتماعية في الإسلام إذ الإمام هو النقطة الغائيّة التي يتحرّك المسلمون في تكاملهم المعنوي إليها.
11- البحار ج 92 ص199.
12- البحار ج2 ص186.
13- نفس المصدر ص189.
14- نفس المصدر ج92 ص221.
الشيخ محمد جواد مغنية
محمود حيدر
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟