قرآنيات

محطّة التّقـوى

محمد تقي مدرسي

 

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة/197)

تختصر الآية الكريمة أعلاه أحكام الحج وفلسفته، كما تمنح الحاج بصيرة نافذة عن كيفية الحج، وبماذا يمكن أن يعود به، وكيف يتحول الحج بالنسبة إليه إلى نقطة تغيير ذاته في حياته، ليكون من قبل الحجّ وبعده نمطين من الشخصية؛ الأول: شخصيته قبل الوقوف بعرفة، والثاني: شخصيته بعد الوقوف بعرفة.

 

فمن الناس من يستفيد من هذه النقطة الأساسية فيعود بزاد عظيم ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، ومنهم من يقتصر الاستفادة القليلة.

ولا ريب إن أعمال ومواقف الحجّ كلّها فوائد تعود على الحاجّ، وفي الحديث المروي عن مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام جاء: "أعظم الناس ذنباً من طاف بهذا البيت -مشيراً إلى البيت العتيق- ووقف هذا الموقف -مشيراً إلى الوقوف بوادي عرفة- ثم ظنّ أن الله لم يغفر له ذنبه، فهو أعظم الناس ذنـباً".

بمعنى أن الإنسان يجب أن يكون على يقين خالص بأن الله قد محا كل ذنوبه وخطاياه إذا وقف في عرفات؛ الموقف الذي هو بمثابة الأوج في سلسلة أعمال الحجّ وأحكامه. فهو بحق ولادة جديدة للإنسان، حيث تتجدد روحه وإيمانه ونظرته إلى حقائق الحياة وحقائق الآخرة.

 

ولكن نجد بعض من يعود من الحجّ، يعود إلى ما كان عليه قبل ذلك بداعي ما اعتاد عليه من سلوكيات غير صالحة، بالإضافة إلى احتمال هذه الفريضة الربانية على غير محملها، والإخلاص الذي ينبغي أداؤها فيها.

فالفرق شاسع للغاية بين من لا يتزود من الحج بشيء، وبين من يتزود بالتقوى. وعلى كل حال فالجميع يسمى عائداً. إن الهدف الأكبر من أداء فريضة الحج توضحه الآية الكريمة بجلاء كامل. فهي بعد أن تشير إلى أن الحجّ في أشهر معلومات، وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة، تؤكد الآية مرة أخرى بأن من أحرم للحج، عليه الالتزام بمجموعة من التعاليم تنتهي إلى الولادة الجديدة، التي هي الهدف من فريضة الحجّ. وهذه التعاليم هي: نبذ الرفث، نبذ الفسوق، ونبذ الجدال خلال الحجّ.

 

﴿فَلا رَفَثَ﴾ فكل ما يتصل بالجنس والشهوة يجب أن يتهاوى وأن يبتعد الحاجّ عنه، حتى قال الفقهاء: من ثبوت الإحرام يجدر بالحاج أن يمتنع حتى عن أن يكون شاهداً في عقد الزواج. فوجوب التخلص، ولو لفترة محدودة عن جاذبية الشهوات، أمر لابد من الالتزام به.

﴿وَلا فُسُوقَ﴾ وللفسوق تفسيرات عديدة، ولكنّ التفسير الأشمل هو كل ما يخرج الإنسان عن جادة الصواب. أي ضرورة الالتزام بهجرة الذنوب؛ الصغائر منها والكبائر. بمعنى أن في الحجّ برنامج عمل متكامل لتربية وتزكية الحاج بصورة مباشرة. فكل ذنب من الذنوب له عقاب مباشر، وقد يصل بعض أنواع العقاب إلى بطلان الحجّ من الأساس، وذلك إذا تمادى الحاج في ارتكابها. هذا فضلاً عن مسألة قبول الله لها أو عدم قبوله.

 

ويبدو أن النموذج الأشمل للفسوق في الحج هو التلبس -اعتقاداً وسلوكاً- بكل ما من شأنه التمييز الطبقي أو العرقي أو غير ذلك بين إنسان وآخر. بمعنى أنّ الحجّ فريضة المساواة بين الناس أمام خالقهم، لا يتفاضل أحد على أحد، ولا يتفاخر أحد على أحد، والمحرمون جميعهم يحرمون بملابس ذات نوع وشكل وطريقة واحدة، ولا حق لأحد أن يبتدع شيئاً من عنده إلا ما قررته الشريعة.

إنّ الحجّ فريضة العقيدة والعمل؛ الفريضة التي تقوّم المعتقد والسلوك في آن واحد. وفي هذه الفريضة لابد للإنسان من التأكد قولاً وفعلاً بأن كرامته ومجده وشرفه وقيمته لا تكون فيما يمتلك، أو إلى أي شعب أو عشيرة ينتمي، أو في مستوى علاقته الاجتماعية أو في منصبه، أو في أي شيء من مشتقات هذه الأمور الزوائل. بل إن كرامة المرء لها خصوصية ذاتية. إذ الإنسان أكرم من الممتلكات والأقارب والعلاقات والمنصب.. ولنفترض أنه إذا كان يعيش في مكان مجرد، لا مال له ولا إمكانات ولا علاقات.. فهل يعني أنه لا قيمة فيه أو لديه؟!

 

الإسلام جـاء ليعيد الناس إلى هذه الحقيقة الأصلية، وقد أكدت الآيات القرآنية الكثيرة بأنّ الشريف هو الإنسان؛ وأن المكرّم هو الإنسان وليس ما يحيط به. فشرف الدرّة بالدرّة، وليس بالخرقة التي تلفّها...

﴿وَلاَ جِدَالَ﴾ إن الإنسان الذي يغفل عن حقيقة الوجود وعن حقيقة نفسه تجده مستميتاً في الذبّ والدفاع عن نفسه، ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ (الكهف/54) وهذه هي الإشكاليـة.

إذن؛ فالحاج يقصد بيت الله ليتطهّر؛ ليس فقط من الذنوب، وإنما من تلك الجذور العميقة الضالة في عمقه، تلك الجذور التي تتفرع عنها الذنوب. فالمذنب يذنب بشهواته المادية أو بعصبياته وجدله ومفاخرته ومباهاته واستحقاره للآخرين.. جاء الحاج ليتطهّر منها في لحظات التجلي الربانية، اللحظات التي يتعرف فيها الإنسان إلى حقيقة نفسه المجردة العاجزة، فيزداد معرفة بربّه. وصدق الحديث الشريف القائل: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه".

 

ولحظات التجلّي هذه تضرب في عمق الإنسان الحاج الصادق والراغب إلى الله تبارك وتعالى؛ فتراه يحنّ إلى أداء الحجّ مرات ومرات. فقد أشرق نور الرب على قلبه وأحسّ بالاطمئنان والسكينة واللّذة الروحية التي لا لذّة فوقها رغم الصعوبات والمتاعب الجسدية التي لاقاها أثناء أدائه مناسك الحجّ. فتراه مرة أخرى يبحث ويفتّش عن تلمس تلك اللّذة من جديد.

إن من كرم الله سبحانه وتعالى علينا أنه يرينا آياته إيماناً ويقيناً كما أراها لنبيه موسى بن عمران عليه السلام فخرّ صعقاً. والتفاوت يقترن بمستوى الإيمان والمنزلة. والمقدار البسيط الذي يرينا الله تبارك وتعالى إياه يثبت لنا ويدفعنا نحو التكامل والاتصال بمقام تلقي النور الأقدس.

 

وبعد ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

والخير الذي يمكن للإنسان أن يفعله أثناء الحجّ بوجه خاص؛ الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ووعي الأهداف الأصلية لأنواع المناسك والإتيان بها.

والتزوّد الذي يأمر الله تعالى به، هو التزوّد بالتقوى. والتقوى عبارة عن حالة نفسية لا تنمو بالمال ولا بالدروس ولا بالمحاضرات، بل التقوى ملكة نفسية ينميها المرء من خلال تجارب عملية تترك في ذاته آثاراً إيجابية عميقة.

 

إن القرآن الكريم خاطب الناس خطاباً مباشراً دعاهم إلى التزوّد من التقوى أثناء أدائهم مناسك الحجّ، والمهم في الإنسان الحاج أن يسعى إلى الحصول على التقوى، مهما كانت درجة هذا الحصول والتزوّد والطموح. ومن يحصل على هذه الملكة النورانية، هو الذي يتلمس السعادة ويذهب إلى الله عز وجلّ بقلب سليم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن أمام الإنسان رحلة شاقة ووعرة في حياته، لا يعلم مداها بأي حال من الأحوال. فقد تقصر وقد تطول، وهو يجهل موعد مواجهته لملك الموت المفاجئة. ولكن بين هذا وذاك كان الله تبارك وتعالى قد أطلعه كل الاطلاع على أن الأمر المهم في حياته هو أن يمارس إرادته في التصدي لوساوس الشيطان الرجيم الذي لا ينفك عن محاصرته والتغرير به، حتى ولو كان على جبل عرفات..

فلحظة واحدة يرجع فيها الإنسان إلى نفسه، ليعلن فيها عزمه على التغيير والمسير نحو نور الله. فالرب تبارك وتعالى لا يطلب من المؤمن غير إشارة بسيطة ليقترب منه، ويفتح أمامه أبواب الرحمة والسعادة الأبدية. وما هذه المصائب والبلايا التي تواجه الإنسان في عمره إلا صعقات لإيقاظه من غفلته وتنبيهه عما هو فيه ليتوب ويعمل صالحاً فيما ترك.

 

ولا نبالغ إن قلنا: إن فريضة الحجّ إنما هي محطة لاستراحة الحاج من ذنوبه، ومركز مثير لإيقاف الدوامة الشيطانية الهوجاء التي تعصف به. فهـي محطة جديرة باحترام الإنسان كي لا تفقد قيمتها بانشغالـه بمسائـل ثانويـة وتافهـة.

إن قصد الهدف الأسمى من الحجّ بتجرد، والتوجه إلى لبّ المسألة، هو المرآة الناصعة التي ينعكس فيها قولـه تعالـى: ﴿وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَاب﴾.

فليس كل إنسان ينخرط في عداد من سماهم القرآن الكريم ﴿أُوْلِي الأَلْبَاب﴾ بل هي تسمية تصدق على الذين يستهدفون عمق القضايا والمفاهيم فحسب. أما أولئك الذين يقنعون بالظاهر من الأمور، فحري بهم العيش على السطح، أو يكتفوا من البحر بزبده.

نسأل الله سبحانه أن يجمعنا وإياكم على الهدى، ويزيّننا بالتقوى، وأن نتخذ من الحج مناسبة لولادة تاريخيـة جديـدة(1).

ــــــــــــــــــــــــ

1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد