إن الفهم الذي عالج المستشرقون القضايا القرآنية يبتعد كثيرًا عن الفهم الذي نعالجها به نحن، فالدراسات الببلوغرافية هدف مركزي لديهم، وضبط الوقائع التأريخية مهمة جديرة بالبحث، واختلاف القراءات ظاهرة تستأهل العناية، وكيفية الوحي قضية تثير الشكوك أحيانًا، وكتابة القرآن وتدوينه مسألة علمية دقيقة.
أما نواحي الإعجاز فهو مما يخص المسلمين، وقضايا البلاغة شؤون عربية قد لا يحسنها غير العربي الأصيل، وجرس الألفاظ لا تعيها إلا أذن بدوية، والالتفات من الفنون البديعية التي ترتبط بالبلاغة العربية، والتفسير الجزئي أو الكلي أو الموضوعي، لا سبيل له في مفهوم المستشرقين، لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع للمسلمين لا للمستشرقين.
ومع هذا التفاوت بين الفهم الاستشراقي للقرآن، وواقع الفهم الإسلامي له، تستوقفنا كثرة هذه البحوث القيمة في الموضوع، وتشعب مفرداتها بالشكل الذي يثير الدهشة في أغلب الأحيان.
المستشرق يفهم من القرآن أنه غير مجرى الحياة العامة والخاصة في الجزيرة العربية والعالم، فما هي أسباب ذلك وما هي مؤثراته، هل هي القوة والسيف؟ الخلق والمحبة؟ الرسالة والتوجيه؟ أم ماذا؟
العالم الفرنسي غوستاف لوبون مثلًا - أخرج في عام 1884 م كتاب (حضارة العرب) فخصص الفصل الثاني من الباب الثاني منه لدراسة القرآن الكريم، وبعد أن أعطى خلاصة مركزة عن جمع القرآن، وقربه من التوراة والإنجيل، وقياسه بكتب الهند الدينية، وتعرضه لخلق الدنيا، وصفة الجنة والنار، ومسامحة اليهود والنصارى، وفلسفة القرآن وأثرها في انتشاره في العالم، والتوحيد المطلق في القرآن، ووضوح مذاهب القرآن، وروح العدل والاحسان في القرآن وسبب انتشاره السريع، وتضامن الأمم الإسلامية بفضل القرآن، وخطأ المؤرخين في بيان أسباب انتشار القرآن عن طريق القوة «1».
نجده يصرح بأن القرآن لم ينتشر بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، لأن الأديان لا تفرض بالقوة. وفي قضية أخرى مسلمة عند الباحثين العرب في نظم القرآن، وجودة تركيبه، وحسن تأليفه، نراه يرتكب خطأ فاحشًا باعتباره القرآن قليل الارتباط، خاليًا من الترتيب، فاقد السياق كثيرًا «2».
ويعود سبب هذا الخطأ الفاحش بطبيعة الحال إلى جهله غير المتعمد بكنه النظم القرآني، وارتباط الآية بما قبلها، وما بعدها، وانتهاء الموضوع للبدء في موضوع آخر، ومواكبة الغرض الفني للغرض الديني بلاغيًّا وتشريعيًّا، ورقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الإفراد إلى الجمع وبالعكس، ومن المضمر إلى المظهر، مما لا يكاد يحسن فهمه الدقيق إلا العربي المحض، أو من تمرس بلغة العرب ذوقًا ولسانًا وإحاطة.
والأستاذ بول يستغل نصًّا من النصوص القرآنية في إدانة اليهود بأنهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا). (النساء / 46) ليبني حكمًا طائشًا على إدراك خاطئ فيعتبر التحريف تغييرًا مباشرًا لصيغة مكتوبة في القرآن «3».
وقد اشتمل تعصبه الفاضح على ألفاظ تجريحية ألصقت بالرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلّم دون مسوغ لها على الإطلاق. ويثير مسألة الناسخ والمنسوخ وسيلة يتذرع بها خصوم النبي للقول بالتحريف. ويحاول الدس والافتراء لتشتيت شمل المسلمين من خلال هذا المنظور الهزيل الذي لا يوافقه عليه حتى المستشرقون «4».
وتكاد أن تتفق كلمة المستشرقين وعلماء الغرب المنصفين ممن لهم دراسات في هذا المجال - وهم لا يؤمنون بكون القرآن منزلًا من اللّه - على صحة نقل القرآن وانتهائه بنصه إلى النبي محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وهناك بضع شهادات لكبار العلماء من المستشرقين تؤكد أن القرآن هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصه محفوظًا من التحريف، من بين كتب الديانات جميعًا، وأنه لم يتطرق شك إلى أصالته، وأن كل حرف نقرأ اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير من يوم نزوله «5».
وقد أورد الأستاذ أبو الحسن الندوي جملة من نصوص المستشرقين في الموضوع «6». وقد زيف الإمام الخوئي دعاوى القول بالتحريف، ودحضها جميعًا ببراهين وأدلة رصينة لم يسبق إليها من ذي قبل «7».
بينما نجد الأستاذ نولدكه في تأريخ القرآن يخالف جملة وتفصيلًا فكتابه هذا... يفهم فيه من القرآن ما لا يفهمه السذج أو المتعصبون، يفهم منه أنه كتاب سماوي وتراثي بوقت واحد ويجب أن يبحث من وجوه شتى، وقد اعتبره بحق أبو عبد اللّه الزنجاني من أهم ما ألفه الإفرنج في تأريخ القرآن من نواح شتى بما يشهد بتضلّعه واطلاعه الواسع، كما بحث عن حقيقة الوحي والنبوة، وشخصية النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم ونزول القرآن، وتأريخ السور مكيّها ومدنيّها.
وقد سلك في كشف تأريخ السور مسلكًا قويـمًا يهدي إلى الحق أحيانًا، فإنه جعل الحروب والغزوات الحادثة في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم وعلم تأريخها كحرب (بدر) و(الخندق) و(صلح الحديبية) وأشباهها من المدارك لفهم تأريخ ما نزل من القرآن فيها، وجعل أيضًا اختلاف لهجة القرآن وأسلوبه الخطابي دليلًا آخر لتأريخ آياته.
فيقول في الخطابات الواردة في الآيات بلفظ (يا أيّها الناس) والشدة في الإنذار، نزلت في أول النبوة، وقلة عدد المسلمين، والخطابات بلفظ: (يا أيّها الذين آمنوا)، وآيات الرحمة نزلت بعد ازدياد عدد المسلمين والمؤمنين. وهو يرتاب في بحثه التحليلي في الروايات والأحاديث وأقوال المفسرين في تأريخ القرآن. وفي عين الحال يأخذ من مجموعها ما يضيء فكره، ويرشده إلى تأريخ السور والآيات ونظمها أحيانًا «8».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): لوبون، حضارة العرب: 117 - 129.
(2): المرجع نفسه: 117.
(3): دائرة المعارف الإسلامية الألمانية : 2 / 602 - 608 .
(4): تأريخ القرآن: فقرة رقم: 8.
(5) غانم قدوري، محاضرات في علوم القرآن: 74.
(6) الندوي، النبي الخاتم: 30 - 31.
(7) الخوئي، البيان في تفسير القرآن. موضوع: التحريف.
(8) الزنجاني، تأريخ القرآن: 92 - 93.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا