من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

المنهج المعتمد في التعاطي مع ما ينفرد بنقله المتأخّرون

في شأن بعض الأخبار التاريخيَّة الخاصة بواقعة كربلاء إذا انفردت بنقلها المقاتل المتأخِّرة هل يصحُّ اعتمادها؟ ألا يُقال إنَّ عدم العثور على مصدرٍ لها لا يعني ذلك عدم وجوده؟

 

عدم الجزم بالكذب لا يصحِّح الاعتماد:

 

لا يُمكن الجزمُ بكذب ما تنفردُ بنقلِه الكتب والمقاتِل المتأخِّرة لكنَّ ذلك لا يُصحِّح الاعتماد عليها في النقل، إذ أنَّ عدم الجزم بالكذب لا يُساوق الثبوت فهو لا يقتضي أكثر من احتمال الوقوع، ومجرَّدُ احتمال الوقوع للشيء لا يُصحِّحُ اعتمادَه ونقلَه على أنَّه قد وقع، تماماً كما لو جاءك رجلٌ مجهول بخبرٍ فإنَّه لا يُمكن أنْ تجزمَ بكذبِه ولكنَّه لا يُمكن أنْ تبني على صدق خبره وتُرتِّب الأثر عليه، فعدمُ التكذيب للخبر المجهول شيءٌ والبناءُ على صدقِه وصحَّته شيءٌ آخر. نعم لا بأس من نقلِه مع بيان أنَّه خبرٌ فاقدٌ للاعتبار، لأنَّ ناقله لم يشهد الحدث ولم يُشِر إلى المصدر الذي تلقَّى عنه الخبر والمفترض أنَّه متفرِّدٌ بنقله. فالخبر التأريخي يحكي عن أحداثٍ لم نشهدها وإنَّما وقعتْ في التأريخ بحسب الخبر لذلك يتعيَّن التثبُّت من صدق الخبر بالوسائل العقلائيَّة، ولا يصحُّ البناء على وقوعِها لمجرَّد الاحتمال لوقوعها.

 

وهذا الشأن لا يختصُّ بالكتب المتأخِّرة بل يشملُ المصادر المتقدِّمة أيضاً، فلو أنَّ أحد هذه المصادر قد تفرَّد بخبرٍ ولم نقفْ بعد البحث الجاد على مَن ينقل ذات الخبر في مصادرَ أخرى فإنَّ مثل هذا الخبر لا يُنتج سوى الاحتمال فيكون فاقداً للاعتبار وإنْ كان منقولاً في أحد المصادر المتقدِّمة.

 

العوامل التي تُسهِم في تحديد قيمة الاحتمال من حيث القوَّة والضعف:

 

نعم يتفاوتُ الاحتمال قوَّةً وضعفاً مِن ملاحظة أمور:

 

الأمر الأول: إذا كان المتفرِّد بنقل خبرٍما معروفاً بالتثبُّت وقد دلَّت سيرتُه في منقولاتِه الأخرى على ذلك، فإنَّ الاحتمال الذي ينشأ عن الخبر الذي يتفرَّدُ بنقلِه يكون أقوى بكثيرٍ من الاحتمال الذي ينشأُ عن خبر المتفرِّدِ المجهولِ الحال مِن حيث التثبُّت وعدمه أو المعروف بعدم التثبُّت والذي دلَّت سيرتُه على التساهل في النقل أو دلَّت على كثرة أخطائه، كأنْ ينسب أخباراً لمصادرَ ثم يتبيَّنُ خلوُّها منها أو أنَّها على غير النحو الذي ينقلُه، فمثلُ هذا المتفرِّد بالنقل يكون الاحتمالُ الناشئ عمَّا ينقلُه في غاية الضعف.

 

الأمر الثاني: الخبرُ الذي يتفرَّد به الناقلُ قد يكون متوقَّعاً ومألوفاُ، وقد يكون غريباً، فالاحتمال الناشئ عن الخبر المألوف والمتوقَّعِ الحصول يكون أقوى من الاحتمال الناشئ عن الخبر الذي تفرَّد به الناقل وكان غريباً غيرَ مألوف الوقوع.

 

الأمر الثالث: الخبرُ الذي يتفرَّد به الناقل قد يكون مناسباً لطبيعة المُخبَر عنه أو مشابهاً لأخبارٍ أخرى نُقلتْ عنه، ففي مثل هذا الفرض يكون الاحتمال الناشئ عن الخبر الذي تفرَّد به هذا الناقل أقوى من الاحتمال الناشئ عن الخبر الذي تفرَّد به ناقلٌ وكان منافياً لطبيعة المُخبَر عنه أو غيرَ مناسبٍ لطبيعتِه وما عًرف عنه. فلو تفرَّد ناقلٌ بخبرٍ عن واقعةٍ لحاتم الطائي وكان مؤدَّى الخبر يُعبِّر عن كرم حاتم، فإنَّ احتمال الصدق لهذا الخبر يكون أقوى من احتمال صدقِ خبرٍ تفرَّد به ناقلٌ وكان مؤدَّاه أنَّ حاتمِ الطائي بخيلٌ، ومنشأ ذلك أنَّ الخبر الأول مناسبٌ لطبيعة المُخبَر عنه ومناسب لما عُرف عن المخبَر عنه، وعلى خلاف ذلك مؤدَّى الخبر الثاني فإنَّه منافٍ لمقتضى طبيعة شخصية المُخبَر عنه.

 

الأمر الرابع: الخبر الذي يتفرَّدُ به الناقل قد يكون مناسباً للسياقات التأريخيَّة التي ينتمي إليها الخبر بحسب الفرض ومناسباً للبيئة الاجتماعيَّة ومناسباً للظروف الموضوعيَّة التي ينتمي إليها الخبر، وقد يكون منافياً أو غير مناسبٍ لكلِّ ذلك، فالاحتمال الناشئ عن الخبر الأول يكون أقوى مِن الاحتمال الناشئ عن الخبر الآخر. بل قد يكونُ عدم التناسب مع السياق التأريخيِّ والبيئة الاجتماعيَّة والظروف الموضوعيَّة قرينةً على اشتباه الناقل ولا أقلَّ من أنَّ احتمال مطابقة مثل هذا الخبر للواقع ضئيلٌ غايته.

 

الأمر الخامس: الخبرُ الذي يتفرَّدُ به الناقل قد يكون قريباً من زمن الحدث المُخبَر عنه، وقد يكون بعيداً، فالاحتمال الناشئ عن الخبر القريب من زمنِ الحدث أقوى من الاحتمال الناشئ عن الخبر البعيد، ويتضاءل الاحتمال كلَّما بعُدَ الخبرُ عن زمن الحدَث المُخبَرِ عنه حتى يصلَ الاحتمال إلى أدنى مستوياته.

 

هذه هي بعضُ العوامل التي تُسهِمُ في تحديد قيمة الاحتمال الناشئ عن الخبر الذي يتفرَّد به ناقلُه، وعلى أيِّ تقديرٍ فإنَّ الخبر التأريخي الذي ينفردُ به ناقلُه يكون فاقداً للاعتبار سواءً كان ناقلُ الخبر من المتأخِّرين أو كان من المتقدِّمين، نعم تتفاوت قيمةُ الاحتمال قوَّةً وضعفاً بتفاوت القرب والبُعد من زمن الحدث المخبَر عنه، لكن القوَّةَ الناشئة عن القرب لا ترقى لإعطاء الخبر الذي تفرَّد به ناقلُه وسامَ الاعتبار إلا أنْ يكتنفَ بقرائنَ موجبةٍ للوثوق بالوقوع وإلا فهو بقطع النظر عن القرائن فاقدٌ للاعتبار.

 

فالقضايا التأريخيَّة -أعنى المرسلة- إنَّما تثبتُ بتعاضُد الأخبار على نقلِها بمستوىً يحصلُ الوثوق بوقوعِها وإلا فهي فاقدةٌ للاعتبار.

 

الفرقُ بين ما يتفرَّدُ به المتأخِّرون وما يتفرَّدُ به أحدُ المصادر المتقدِّمة:

 

ثم إنَّ هنا أمراً يحسنُ التنبيهُ عليه وهو أنَّ الخبر إذا تفرَّد به ناقلُه وكان من المتقدِّمين فإنَّ احتمال اعتماده على مصادر لم تصلنا قائمٌ بل وقويٌّ إذا كان الناقل من ذوي التثبُّت والأمانة، وأمَّا إذا كان من المتأخِّرين والمعاصرين فإنَّ احتمال اعتمادِه على مصادر لم تصلْنا في غاية الضعف، وذلك لأنَّه بحسب الفرض معاصرٌ أو قريبٌ من عصرنا، فالمصادرُ المفترَض أنَّه قد اعتمدها ينبغي أنْ تكون مُتاحة، ودعوى أنَّها كانت بيده دون غيره ثم اندثرت أو تلفت رغم قربه من عصرنا لا ينبغي أنْ تكون مسموعة بل قد يُقال إنَّ المصادر التي بأيدينا في الظرف الراهن أكثرُ من المصادر التي وقف عليها مَن هو قريبٌ من عصرنا، والوصول إلى هذه المصادر أيسرُ مِن وصول مَن كان قريباً من عصرنا، فكيف خلتْ كلُّ هذه المصادر من الخبر الذي تفرَّد بنقله أو نقله عن معاصرٍ مثلِه؟!!

 

ثم إنَّه بعد المراجعة للعديد ممَّن تصدَّى من المتأخِّرين لسرد أحداث كربلاء لم نجد أحداً منهم ادَّعى أو أشار إلى اعتماده على مصادر ليست مُتاحة، فهم حين يُحيلونَ على مصدرٍ فإنَّهم يُحيلون على واحدٍ من المصادر التي هي في مُتناول الجميع وهو ما يؤكِّد أنَّه لم تكن لديهم مصادرُ أخرى غير المصادر التي هي في متناول الجميع. ولهذا فالمظنون قويًّا أنَّ ما يتفرَّدون بنقلِه إمَّا أنْ يكونوا قد اعتمدوا فيه على معاصرين لهم أو تلقَّوه سماعاً من الخطباء فدوَّنوه في كتبهم اتكالاً على حُسنِ الظن بدقتِهم وتثبُّتهم في النقل. واتفاقاً صرَّح العديد منهم بذلك.

 

وأختمُ بالإشارة إلى أمرين:

 

شرائط عدم الجزم بكذب الخبر:

 

الأمر الأول: إنَّ ما ذكرناه من عدم إمكان الجزم بكذبِ ما تفرَّد الناقلُ بنقلِه وأنَّ احتمال الصدق لمثل هذا الخبر قائمٌ وإنْ كان فاقداً للاعتبار، هذا الذي ذكرناه إنَّما يتمُّ في فرض وجدان الخبر لعددٍ من الشرائط:

 

الشرط الأول: أنْ لا يكون هذا الخبرُ منافياً لأصلٍ من أصول العقيدة أو لما عُلم من الدينِ بالضرورة وإلا فيتعيَّن البناء على كذبِه ومنافاته للواقع. فلو كان الخبر -مثلاً- منافياً لمقتضى العصمة لأئمة أهل البيت (ع) أو مبايناً لصريح آيةٍ من آيات القرآن المجيد فالمتعيَّن هو الحكم بكذب هذا الخبر.

 

الشرط الثاني: أنْ لا يكون هذا الخبرُ منافياً للحقائق التأريخيَّة المتسالَم على وقوعِها. فإنَّ الخبر إذا كان منافياً لشيءٍ من الحقائق التأريخيَّة فهو مكذوبٌ دون ريب، نعم لو كان الخبرُ منافياً للأخبار المتعاضِدة فإنَّه لا يُجزَم بكذبِه ولكنْ يتعيَّن البناءُ على الارتياب الشديد في وقوعِه وصدقِه.

 

الشرط الثالث: أنْ يكون الخبرُ قابلاً للوقوع، أمَّا إذا لم يكن كذلك، كما لو كان مفادُه أنَّ أحد المقاتلين قتل بسيفِه في ساعات محدودة ثلاثمائة وثلاثين ألف فارس، فمثلُ هذا الخبر غيرُ قابلٍ للوقوع، لذلك يتعيَّنُ البناءُ على منافاتِه للواقع.

 

الشرط الرابع: أنْ لا يكون الخبرُ منافياً للمبادئ العامَّة والجليَّة لنهضة الحسين (ع) والتي هي بمثابة مُحكمات النهضة المباركة، ومثال ذلك الخبرُ الذي سوَّق له الأمويُّون من أنَّ الإمام الحسين (ع) أبدى استعدادَه لوضعِ يدِه في يد يزيد ليحكم في شأنِه بما يَراه، فإنَّ مثل هذا الخبر منافٍ لمُحكمات النهضة المباركة لسيِّد الشهداء(ع) ولهذا يتعيَّن الجزمُ باختلاقه وكذبه.

 

أسبابُ تدنِّي قيمة بعض الكتب المتأخِّرة:

 

الأمر الثاني: إنَّ المقصود من عدم اعتبار المقاتل المتأخِّرة والكتب المتأخِّرة المتصدِّية لسرد أحداث كربلاء، المقصود مِن ذلك هو عدم اعتبارها فيما تنفردُ بنقله وفيما تنقلُه عن متأخِّرين لم يذكروا مصدرَ نقلِهم، وأمَّا ما تنقلُه هذه المقاتل وهذه الكتب عن مصادرَ معتبرة -في الجملة- فالحكم على ما ينقلونه مِن حيث الاعتبار وعدمه يكون تابعاً للحكم على تلك الأخبار المنقولة في المصادر التي نقلوا عنها. فالكتب المتأخِّرة تكتسبُ أخبارُها الاعتبارَ مِن ملاحظة المصادر التي تنقلُ عنها.

 

ولهذا تتفاوت قيمةُ الكتب المتأخِّرة بتفاوتِ مقدار ونوعيَّة المصادر التي اعتمدتها. فثمة مقاتلُ وكتبٌ متأخِّرة تحظى بقيمةٍ عالية لتثبُّتها في النقل واعتمادها على مصادر معتبرة في الجملة، وثمة مقاتلُ وكتبٌ متأخِّرة متدنيَّة القيمة وذلك لأنَّه:

 

أولاً: يكثرُ فيها نقلُ الأخبار والوقائع التي لا نجدُ لها عيناً ولا أثراً في المصادر المعتبرة في الجملة، وقد يكون لبعض الأخبار -المنقولةِ فيها- أصلٌ في المصادر المعتبرة ولكنَّه يُضافُ إليها الكثير من التفاصيل والحوارات التي لا نجدُ لها ذكراً في المصادر المعتبرة في الجملة.

 

وثانياً: يكثرُ فيها نسبيَّاً الإحالة على مصادرَ معروفة ثم بعد المراجعة لا نجدُ أنَّ تلك المصادر المُحال عليها قد ذكرتْ ما نُسب إليها أو ذكرتْه بنحوٍ لا يُطابقُ النصَّ ولا المضمونَ المنسوب إليها.

 

وثالثاً: يكثرُ فيها ذكرُ الغرائب غيرِ القابلةِ للقبول كدعوى أنَّ عدد المعسكر الأموي مليون وستمائة، وأنَّ أحد الشهداء قتل في إحدى حملاته أربعاً وعشرين ألفاً، وأنَّ يوم عاشوراء امتدَّ لسبعين ساعة. وأنَّ عدد الجراحاتِ التي في جسد الإمام الحسين (ع) بلغت اثنين وعشرين ألفَ جراحة، وهو اتفاقاً خلاف المأثور عن أهل البيت (ع).

 

ورابعاً: يكثرُ فيها نسبيَّاً نقلُ الأخبار المنافية للأخبار المنقولة في الكتب المعتبرة في الجملة.

 

وخامساً: يكثرُ فيها نقلُ الأخبار المُسيئة للمقام السامي لأهل البيت (ع) والتي تُظهرُهم في مظهرِ الانكسار أو الانهيار أو الخنوع والقبول بمقتضيات المذلَّة والمسكنة، كلُّ ذلك بدافع جلبِ التعاطف والشفقة واستدرارِ الدمع.

 

وسادساً: تصريحُ عددٍ من مؤلِّفي هذه الكتب بتدوين كلِّ ما يسمعُه أو يقرأه أو يعثر عليه في الكراسات وإنْ كان مظنون الكذب أو مجهول المأخذ، وتصريح بعضهم بضعف ما يَستند إليه. وتصريح البعض الآخر بأنَّه ينقلُ في كتابه كلَّ ما قيل ويُحتمل وقوعه وإنْ كان غريباً وبعيداً عن الأذهان إذا لم يكن مُحالاً. وتصريح بعضهم أنَّه ينقل عن غير الكتب المعتبرة والمشهورة. كلُّ ذلك بدافع الحماس ونشر مظلوميَّة أهل البيت(ع) واثارة المشاعر واعتبار ذلك من مصاديق مَن بكى وأبكى.

 

مثل هذه الكتب فاقدةٌ للقيمة، ولهذا لا يصحُّ اعتمادُها والنقلُ عنها، وفي المقابل ثمة كتبٌ معروفة بالتثبُّت والدقَّة في النقل نسبيَّاً، وهي ليست قليلة وقد بذلَ مؤلِّفوها -وهم من العلماء الأفذاذ- جهوداً مُضنية تحرَّوا فيها ضوابطَ النقل، ومَن يصحُّ النقلُ عنه، وماهي القضايا القابلةُ للإثبات، وما هي القضايا القابلةُ للقبول.

 

والجدير بالذكر أنَّ أحداث كربلاء وصلتنا -بحمد الله تعالى- مفصَّلةً بل الواصلُ منها في مصادر الفريقين تفاصيلُ التفاصيل، والكثيرُ من هذه التفاصيل قابلٌ للإثبات التأريخي وبعضُه قابلٌ للقبول، وهي في ذاتِ الوقت مليئةٌ بالأسى والشجَن كما هي مليئةٌ بالعنفوان والعزَّةِ والكرامة والصبر على التضحية والإيثار والوفاء والإباءِ للضيم والانتصار للدين والعدالة والحقِّ.

 

فدعوى أنَّ تحرِّي المصادر المعتبرة في الجملة يلزم منه تعطيلُ النعي، هذه الدعوى مجافيةٌ للحقيقة، ومنشأها الغفلةُ عمَّا اشتملت عليه المصادرُ المعتبرة في الجملة من التفاصيل الملحميَّة والمأساويَّة لواقعة كربلاء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد