مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

الأخلاق في الرؤية الإسلامية (1)


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..
قبل الخوض في جوانب أهميه الأخلاق، وسبل تحديد الملكات والخصال الحسنه والسيئه، والأسلوب الذي يضعه الإسلام لتهذيب الأخلاق، ينبغي أولاً تعريف ماهية الخُلق، وتوضيح الكيفيه التي يوجد بها.


ما هي الأخلاق وكيف توجد؟
أفعال الإنسان الإراديه في ذات الوقت الذي تمتلك مقدمات عملية وخارجية، لها سلسلة من المقدمات العلمية والذهنية أيضاً. فمثلاً إذا ما أراد أحد أن يزور صديقاً له، فإنه يفترض به أن يخوض جملة من الحسابات الفكرية والعلمية. إذ عليه أن يتصور الزيارة يأخذ بنظر الاعتبار فوائدها ومنافعها، ويقارن ذلك بالمضار التي من الممكن أن تترتب عليها، ومن ثم ووفقاً لجمله من المقاييس والاعتبارات النفسيه يحدد ضروره الزيارة ويقرر القيام بها.
وإن الفوائد أو اللذائذ التي تؤخذ بنظر الاعتبار لفعل ما، والتي يتخذ على ضوئها القرار في أداء ذلك الفعل؛ تكون على أنواع: إما أنها من النوع الذي يرتبط بالأمور الحسية والمادية، كالشبع والاستراحة وتقوية العضلات مقابل الأكل والنوم و الرياضة .. أو أنها وهمية، كالرئاسة والمنزلة والمقام والاحترام، بالنسبة للمقدمات اللازمة لكسبها .. أو عقلية كمعرفة الحقائق، والتكامل الذهني بالنسبه لكسب العلم والسعي في تحصيل مقدماته .. وأن كل شخص يحدد الفائدة واللذة وفقاً لأصول معرفته، وتعتبر تحقيقها أمراً ضرورياً. وفي الواقع إن الدافع الأصلي لأداء فعل ما هو قناعة الفاعل بلزوم الحصول على فائدته ولذته.
هذه المقدمات العلمية موجودة بنحو ما في أي فعل اختيارى، حتى في أكثر مستلزمات الحياة ضرورة كالأكل والشرب وأمثال ذلك، مع هذا الفارق وهو أن العواطف والأحاسيس في الكثير من الحالات تساعد كثيراً على المقدمات الفكرية، وعلى توصل الإنسان إلى النتائج بنحو أسرع، وتحديد الاحتياجات التكوينية والغرائز الفطرية لمسير الأفعال. وإن سرّ سرعة العمل الفكري في هذه المواضع، هو وضوح أكبر لضرورة العمل، وفائدة ولذة أكثر بقاءً ورسوخاً.
بيد أن الميول والأحاسيس، في الكثير من الأحيان، بدلاً من أن تساعد على التوجه الفكرى، تضع حاجزاً معتماً أمام عقل الإنسان يمنعه من التفكير الصحيح والمعرفة السليمة. أي أن توجد اختلافاً بين مقتضي العواطف وحكم العقل. ونظراً لأن غالبية الناس خاصة في المراحل الأولى من حياتهم العقلية، ويعانون من ضعف في هذا الجانب، فإنهم يستجيبون بصورة أسرع لنوازع الأحاسيس. فمثلاً لو رأى طفل جائع غذاءً شهياً فإنه سيقدم على تناوله مباشرة دون أن يلتفت إلى مضاره، أو يلجأ إلى العقل في اتخاذ قراره .. وهنا أشير، كجملة عرضية، إلى أن الحالة الطفولية هذه موجودة لدى الكثير من الناس، والتي بدورها تبرهن على ضرورة تهذيب الأخلاق واكتساب الملكات الفاضلة.
إن كل فعل يصدر عن الإنسان، سواء كان موافقاً لميوله ورغباته أو مخالفاً لها، يترك تأثيره الخاص في النفس، ويجعلها أكثر استعداداً لتكراره في المرة القادمة. وهذا أمر محسوس، إذ إن أي عمل يجربه الإنسان مرة، يسهل عليه أداؤه في المرة الثانية.. إن هذه الحال التي تنمو وتترسخ بالتدريج بالتكرار وكثرة المزاولة، تبرز بصورة عادة أو خصلة أو خلق. وعليه فالذي اعتاد على فعل ما، يكون استعداده لأداء هذا الفعل أكبر بكثير من الذي يريد أن يجرّبه لأول مرة. وكذلك يقتنع بضرورته بسرعة أكبر .. إن قناعات الإنسان بضرورة أفعاله العادية، تبقي في النفس بمثابة معادلة من المقدمات الفكرية. وبوجودها لم تعد حاجة إلي قطع المسير الطويل للمقدمات الذهنية. وإن هذه الصور العلمية لا تمحى من الذهن بسهوله. وكما ذكرت إن الدافع الأصلي لأداء الأفعال الحسنه أو السيئه هو هذه القناعات والصور العلمية.
إن هذه العادات والخصال التي رسخت في النفس، والتي هي منشأ لبروز أفعال وآثار تتناسب معها؛ يطلق عليها بـ"الأخلاق"، مثل: السخاوة، والشجاعة، والعفه، وغيرها.  وأن الذي يكون منها أخلاق حسنة وحميدة؛ أما الذي يتعارض معها فهو خلق سييَّء ومذموم. ويسمى القسم الأول بالاخلاق الفاضلة، ويطلق على الثاني بالأخلاق الرذيلة.
دور الأخلاق في سعادة الإنسان وشقائه
تلعب الأخلاق الحسنة أو السيئة دوراً مهماً في سعادة الإنسان وتعاسته، ولا يمكن إنكار تأثيرها في الحياة الفردية والاجتماعية والدنيوية والآخروية. وسأكتفي هنا بنظرة كلية لتأثير الأخلاق في السعادة أو التعاسة الدنيوية، وكذلك في النعيم أو الشقاء الاأخروي. إن الشخصية الروحية لكل فرد هي من نتاج الأخلاق وملكاته النفسانية. وإن الخصال الحسنة أو السيئة تترك تأثيرها في البنية الروحية والمكانة المعنوية للإنسان، وبإمكانها أن تكون إما غذاءً مقوياً أو مسموماً في بدن الإنسان وبنائه الجسماني. وهنا يتضح الارتباط المستقيم لسعادة الإنسان وشقائه بالأخلاق الفاضلة أو الرذيلة. بتعبير آخر إن السعادة والشقاء الحقيقيين منوطان بالأفعال الحسنة والسيئة التي يقدم عليها الإنسان في حياته. وقد اتضح في أول البحث أن دافع الأفعال الاختياريه هو قناعة الفاعل بضرورة أدائها في الظروف المتوافرة. وفي حال كون الخصلة ملكة لدى الإنسان، فستكون لدى الإنسان قناعة بضرورة أداء فعل يتفق معها في السنخية دائماً. ومن هذه الناحية تعتبر الاخلاق الفاضلة والرذيلة أهم عامل مؤثر في صدور الأفعال الحسنة والسيئة، التي تناط بها سعادة الإنسان وشقاؤه.
أما بالنسبة لتأثير الأخلاق في الحياة الاجتماعية، فإننا إذا ما درسنا صور الفساد والخصومة والنزعات المدمرة الدامية التي تحدث في المجتمعات، علمنا أن سببها الأساس هو الأنانية والتسلط وحب الجاه وغير ذلك من السمات القبيحة التي تمكنت من نفوس قادة الأمم وشخصيات شعوبها، والتي تجلت في صور الاستعمار والنزوع السلطوي الباطل والدكتاتورية والاستبداد .. وهكذا الاختلافات والنزاعات التي تحدق في المجتمعات الصغيرة كالمجتمعات المحلية والبيئة الأسرية، وهي الأخرى وليدة عدم تهذيب أخلاق أبنائها .. فإذا ما مدّ الناس يدَ التعاون والوحدة إلى بعضهم بعضاً، وأوجدوا أجواء أسرية تنعم بالأخلاق الفاضلة والعادات المحمودة: فإن بإمكانهم أن يجعلوا من مجتمعهم المصغّر بؤرة إشعاع للعواطف والمحبة والود والبهجة والسعادة. ولكن إذا ما كان في كل أسرة شيطان مرعب من الأخلاق السيئة والممارسات المنبوذة، يتجلي في مظاهر الحياة المختلفة بأشكال متنوعة، ففي هذه الحال سيتحول كيان الأسرة الدافىء، وبصورة لا إرادية، إلى ميدان تصول وتجول فيه العواطف السلبية والغرائز الحيوانية ونزاع الشياطين الوحشية. وما هذه الشياطين إلاّ العادات والخصال السيئة الفاعلة التي احتلت مكاناً لها في الأعماق فلبى الزوج والزوجه وزوايا روحيهما المظلمة، وهي تنتظر محيطاً مساعداً لظهورها وبروز آثارها. وإن هذه الأخلاق والعادات الخطيرة تنتقل إلى الأبناء، بحكم قانون الوراثة وناموس التربية، حيث ينشأ هذا الجيل فاسداً وتعيساً.
هذا نموذج من تأثير الأخلاق الذي يظهر في أولى مراحل الحياة الاجتماعية. وكلما كانت البيئة أكبر كلما اتسع ميدان نشاط السمات النفسانية والأخلاق الحسنة والسيئة، وبالتالي يتضح أكثر حُسن الأخلاق الفاضلة وخطر الأخلاق الفاسدة ..


أهمية الأخلاق من وجهة نظر الإسلام
يدرك كل من له أدنى اطّلاع على الآيات القرآنية وأقوال أئمة الدين، الأهمية التي يوليها الإسلام لموضوع الأخلاق. فنادراً ما تجد صفحة من صفحات القرآن لم يذكر فيها بعض الصفات النفسانية، ولم تؤكد بتعابير مختلفة على تهذيب الأخلاق واكتساب الملكات الفاضلة. ففي سورة واحدة سورة الشمس أقسمَ إحدى عشرة مرة بأن الفلاح والسعادة منوطان بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق. ولو لم يرد في هذا المجال غير هذه الآيات، لكان ذلك كافياً للبرهنة على أهمية هذا الجانب. ففي القرآن الكريم آيات كثيرة بشأن كل واحد من الأخلاق الفردية والاجتماعية، وربما وردت عشرات الآيات في مدح خصلة حميدة أو ذم صفة قبيحة.
أما الأحاديث التي وردت عن النبي الأكرم(ص) وأهل بيته(ع) في فضيلة الأخلاق وتهذيبها، وبيان الخصال الحميدة والمذمومة وما يرتبط بها، فقد شكلت كتباً ضخمة كثيرة. ولو لم ينقل عن النبي الأكرم(ص) غير هذه الكلمة، لكانت وحدها كافية للبرهنة على أهمية الأخلاق في نظر الإسلام والشارع المقدس، وهي قوله(ص): "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وفي حديث آخر قال(ص): "أكملكم إيماناً أحسنكم خلقاً". وإن النبي الأكرم نفسه كان متكاملاً في حسن الخلق والسيرة، وقد امتدح الله سبحانه وتعالى خلق النبي بقوله عز من قائل: "وإنك لعلى خلق عظيم". وفي موضع آخر من القرآن، اعتبر ذلك سرّ نجاحه(ص)، إذ يقول جلّ وعلا: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" .. والشيء نفسه بالنسبة لأئمة الدين الذين كانوا يتحلون بأسمى الخصال والملكات الاخلاقية، ويتجلي في أقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الكمال الروحي والمعنوى. وكان لوجودهم بين الناس أبلغ التأثير في تهذيب الأخلاق وتربية روح الإنسان ومعنوياته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد