مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

الإصلاح الدیني بین الارتهان السیاسي واعتبارات القداسة (1)


إیمان شمس الدین ..

الإصلاح مطلب إنساني واقعي یتناسب طردیًّا مع میل الإنسان وسعیه نحو الكمال. فالإصلاح والسعي في سبیله هي حركة وعي للذات وتشخیص الإشكالیات الداخلیة المعیقة نحو النهضة والتجدید، هذا الوعي بالذات قد ینتج عن إشكالیات متراكمة دون حلول، ساهمت في تراكم التخلف وتمكین الاستبداد باسم الدین، وقد یكون نتاج تصارع حضاري یثیر تساؤلات تدفع نحو مزید من البحث والتحقیق، وقد یكون نتیجة خمول حضاري یواجه تحدیات حضارات أخرى تفرض وجودها على تلك الحضارة وتحاول تغییر معالمها وفرض هویات خاصة وفق تثاقفها الحضاري وبنیتها الخاصة، والتي قد تتعارض جزئیًّا أو كلیًّا مع تلك الحضارة الخاملة، مما یدفع المهتمین المتصدین للانخراط في فهم الواقع الخارجي وإعادة النظر في أهم المخاطر التي تهدد وجوده الحضاري، مما یعمق لدیهم وعیهم بذاتهم واندفاعهم في حملات وعي كبیرة تطالب بالاصلاح والنهوض.
وكثیرة هي دعوات الإصلاح التي نادت إلى تصحیح مسار الدعوة الإسلامیة، وتصویب المسار الدیني في سبیل نظم إیقاع المطالبات النهضویة لتطویر قدرات الإنسان وتمكینه في مشروعه الاستخلافي في عمارة الأرض بما ینفع الناس، والدفع باتجاه تحقیق العدالة الشاملة المرتبطة بحقیقة النهضة.


البدء والمنطلق :
الاختصاص في العنوان بالإصلاح الدیني ینبع من فكرة أن من یرید دعوة الناس إلى الله وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالأولى به أن یمارسه داخلیًّا في الذات كي یتمكن من التأثیر الخارجي فیكون هنا سعي متوازي بین إصلاح الداخل والخارج، وإلا استمرار عملیات النكوص الحضاري والثبات الزماني والمكاني في فهم الدین وأفكاره، لن ینجح مساعي الإصلاح من قبل المتصدین من العلماء والنخب في المجتمعات ولن یحدث أي انزیاحات في الوعي الاجتماعي أو السیاسي، كون انطلاق دعاة الإصلاح من قواعد فیها خلل فهم وإدراك سینعكس على دعوة المصلحین في الخارج ویخل بقواعد النهضة وفق الأسس السلیمة.
فالأصل في أي دعوى للإصلاح هو الانطلاق من إصلاح داخل دیني ثم الانطلاق بموازاة ذلك للإصلاح في كل المستویات الاجتماعیة والدولتیة خاصة في مجال التربیة والتعلیم وما یتعلق بمناهج التعلیم.
والمتتبع للدعوات الإصلاحیة تاریخیًّا ومدى تحقیق مطالبها على أرض الواقع من خلال استقراء حال الأمة یمكنه تلمس مكامن الخلل والنكوص، والنجاح والإنجاز وأسباب كل منهما.


الإصلاح وحقیقة الشعارات:
كثیرة هي الشعارات الإصلاحیة التي رفعت في سبیل النهضة والتطویر، وعادة تكون الشعارات هي عناوین عامة وخلاصات لمشاریع نهضویة یراد لها أن تفعل على الواقع الخارجي.
لكن مع كثرة دعوات الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، إلا أن واقع الحال لا یعكس هذا الكم من الدعوات والحراكات والأسباب كثیرة لكن قد یكون أهمها هو:
1. أن تكون مجرد شعارات لتحشید كم عددي من الجمهور، مع عدم وجود رؤى واستراتیجیات حقیقیة للمشروع الإصلاحي الذي رفع كشعار.
2. وجود فارق وفجوة بین المنظرین للعمل الإصلاحي والواقع، وعدم قراءة حیثیات ومعطیات الواقع وما هي الاستراتیجیة الموائمة لإصلاحه سواء آنیًّا أو على المدى البعید، بالتالي تتحول عملیة الإصلاح إلى مجرد نظریات غیر قابلة للتطبیق، أو لا یسعى أصحابها للارتقاء بوعي وقابلیات الناس وتصویب الواقع لیصبح قابلًا لتطبیق نظریاتهم.
* قد یطرح كثیر من النخب والعلماء مشاریع إصلاحیة فاعلة، وموائمة للواقع ومعطیاته ولكنهم لا یكملون فاعلیتهم في مشاریعهم لأسباب عدیدة أهمها :
* رحیلهم عن الدنیا قبل إتمام رؤیتهم وعدم وجود حملة أمناء یكملون مسیرتهم وتطویرها.
* وجود حملة لكنهم لم یدركوا أو یستوعبوا المشروع كما طرحه صاحبه، بالتالي یتم حرفه أو تفریغه من أهدافه الكبرى لاختلاف الفهم والإدراك بل لاختلاف العزائم والهمم.
* قد یدرك الحملة المشروع لكن تدخل أهواءهم ورغبتهم في تحصیل موقع ومكانة ویحتفظون بكثیر من حقائق المشروع الإصلاحي حتى ینسبوا لأنفسهم ویتسلقون به للوصول.
* قد یخشى بعض ورثة المشروع على مكانتهم الاجتماعیة والعلمیة، ویخافون من ردات فعل العوام من الناس أو أصحاب الرؤى الكلاسیكیة والمتشددة على ما یحمله المشروع من قدرة لزعزعة العادات والتقالید المخالفة للعقل والشرع، وتصویب كثیر من المعتقدات المثقلة بالتوارث عن الأجداد لا بالإثبات والتدلیل والبرهنة. بالتالي یخفون معالم المشروع.
* قد یقتلوه في مهده خوفاً وادعاء لعدم قابلیة الواقع الخارجي لهذا المشروع بدل أن یشمروا عن عزائمهم ویخوضوا معركة مع العقول والقلوب لتهیئة الواقع والنهوض بالقابلیات.
4. وجود مشروع نهضوي موائم ولكنه سابق للزمان والمكان، بالتالي مواجهته بالقتل الاجتماعي من خلال تسقیط شخصیة حامله، أو محاصرة المشروع بالإرهاب الفكري والاجتماعي.
5. استیعاب صاحب المشروع الإصلاحي لمشروعه نظریًّا، لكنه لم یدرس الآلیات التطبیقیة المناسبة للواقع الاجتماعي، وممارسة البعض منهم منهج الصدمة في طرح رؤاه الإصلاحیة، والتي ووجهت كثیر منها بردات فعل عنیفة، أفقدت ما هو حقیقة في هذه المشاریع قیمتها، وتمزقت كحقیقة بل سقطت في أذهان أغلب المتلقین لها نتیجة منهج الصدمة وردات الفعل، مما یتطلب عقود وأجیال لإعادة إحیائها مجددًا، وهو ما قد یعني تأخر في التقدم والنهضة سنوات عدیدة فقط بسبب منهج خاطئ أو آلیات تطبیقیة غیر مناسبة.


بین الذات وشعارات الإصلاح:
دعاة الاصلاح وشعاراته لا ینتمون إلى مدرسة بعینها، ولا الأهداف والغایات أیضًا واحدة، رغم وحدة المدعى والشعار.
ویمكن تقسیم أهداف رفع الشعارات الإصلاحیة إلى :
- أهداف ذاتیة: یهدف أصحاب المشروع الإصلاحي لتحقیق مصالح شخصیة ذاتیة، فیتخذون من هذه الشعارات الإصلاحیة جسرًا لتحقیق أهدافهم ومصالحهم، وبمجرد تحقیقهم لذلك ینكصون عهودهم، وینقلبون على كل تلك الشعارات الإصلاحیة، بل قد یحاربونها أیضا في حال هددت مصالحهم الشخصیة.
- أهداف سیاسیة: وهؤلاء بذاتهم ینقسمون إلى:
1. من یمتلك مشروع إصلاحي حقیقي ویرتبطون بالسلطة السیاسیة اعتقادًا منهم أن ذلك سیشكل لهم جسرًا للعبور نحو تحقیق مشروعهم، فلیست السلطة مقصدهم وإنما جسرهم للعبور.
2. من یرفع شعار الإصلاح كجسر عبور للسلطة وتحقیق مناصب متقدمة في الدولة، كونهم یملكون بسبب شعاراتهم الإصلاحیة جمهورًا واسعًا تخشاه السلطة، ویحققون مواقع متقدمة لهم ونفوذ، فالإصلاح جسرهم للعبور للسلطة ولیس هدفًا بذاته.
3. فئة كانت في السلطة وتم التخلي عنهم لانتهاء صلاحیتهم في حسابات السلطة القائمة، وهؤلاء یرفعون شعار الإصلاح ومواجهة السلطة وفسادها لا لأجل الإصلاح بذاته، بل لأجل هدقین:
* الأول: الانتقام من السلطة ومحاولة تغییر شخوصها.
* الثاني: العودة إلى السلطة وامتلاك النفوذ مجددًا.
4. أصحاب مشروع إصلاحي حقیقي ینشدون العدالة الاجتماعیة، ولا یرغبون في تحقیق أي موقع متقدم لهم، بل لا یرتبطون بأي سلطة قائمة، ویعتمدون على نشر الوعي في صفوف الجماهیر، ویهدفون لتحقیق العدالة في كافة مستویاتها.
ونحن هنا لسنا بصدد الحدیث عن الإصلاح بشكله الواسع ومصادیقه الكثیرة، ولكننا بصدد تسلیط الضوء على مصداق من مصادیقه وهو الإصلاح الدیني، وإن دققنا أكثر نتحدث عن الإصلاح في الفكر والفهم والمنهج الدیني، إن فتح لنا إلى ما سبق طریق رشد وهدى.

تواجه مشاریع الإصلاح الدیني خاصة المنتمین للفئة الرابعة، عوائق عدیدة أهمها على الإطلاق عائقان:
1. عائق یتعلق بالإصلاح الداخل الدیني واعتبارات القداسة، حیث یواجه المشروع الإصلاحي عدة تیارات داخل دینیة تعیقه وتعرقل مسیرته ومحاولاته في الإصلاح ونقد الذات والنهضة.
2. عائق یتعلق بالإصلاح الخارج دیني أي في محاولات الخروج بالمشروع الإصلاحي للعالم الخارجي وترشید المجتمعات ووعي الجمهور، لیواجه عوائق عدیدة أهمها: الارتهان السیاسي ومواجهته لكل أنواع الهیمنة السلطویة والحكوماتیة.


الإصلاح الدیني واعتبارات القداسة:
القداسة هنا كمفهوم عام وكلي له مصادیق كثیرة وما یعنینا منها قداسة الأشخاص واعتباراتها الدینیة والفكریة، وما یعنینا من الأشخاص فقط من هم دون الأنبیاء والرسل والأوصیاء المنصوص علیهم من قبل الله تعالى نصًّا ونقلًا أو من أخفى الزمان وأحداثه المتراكمة وجودهم الخارجي لكن حقیقتهم باقیة كشخوص لها قداستها من الله.
وما یعنینا هنا بالذات دور القداسة الشخصیة واعتباراتها الدینیة والفكریة في دفع مسیرة الإصلاح أو منعها.
فحینما أشرنا في المقدمة إلى أهمیة الإصلاح الداخل دیني وهو الخطوة الأساس في الإصلاح الخارج دیني، فإننا نعني هنا النقد والتقییم والمراجعة على ضوء المستحدثات ومتغیرات الزمان والمكان وتبدل الأدوات والآلیات والخطابات، ونحن هنا نقوم بعملیة توصیف ولیس تقییم للتیارات المدرسیة داخل الحوزات الدینیة أو من یتبعها من خارج الحوزات، والتي تفاعلت مع مشاریع الإصلاح سلبًا وإیجابًا وآلیة تفاعلها في هذا الصدد:
1. تیار تقلیدي أصولي بمعنى أنه یتوقف على النص توقفًا لا یراعي المتغیرات، یتبنى المسار الطقوسي المذهبي التعبدي ویعتمد علیه في التحشید العددي للجمهور، وهذا التیار یختلف في داخله شدة وضعفًا في أصولیته، ویظهر هذا الاختلاف جلیًّا في سبل مواجهة محاولات الإصلاح :
* قسم منه یكتفي برفض أي محاولات إصلاحیة مخالفة لمسلماته ویعتبرها تشكل خطرًا على الأصالة والثوابت وفق ما یراها ویقرأها، ویكتفي بالرد النصي على ذلك.
* قسم آخر من هذا التیار یمارس المواجهة المباشرة من خلال التسقیط الاجتماعي لحامل المشروع، باستغلال عاطفة الجمهور والطقوسیة التعبدیة، وبعد تسقیط الشخص في ساحات الجماهیر واتهامه بالخروج عن الدین والمذهب، فیتم محاصرة المشروع ومن ثم تقویضه.

* قسم آخر یستخدم سلطته الدینیة الفتوائیة، ویصدر فتاوى تكون بمثابة الرصاصة الأخیرة التي تقضي على المشروع وصاحبه. دون تفنید الآراء ومواجهتها بالدلیل والبرهان.
2. تیار حداثي یواكب المسائل المستحدثة، لكن یتلقف مشاریع الإصلاح كمسلمات، كونه یرید الإصلاح لكنه لا یعكف على المنهج والآلیات یتلقف كل ما هو جدید تلقف المسلمات الیقینیة لأنه مسكون بهاجس التغییر والتطویر، وهاجس مواكبة الغرب وأحیانًا محاباته معرفیًّا، حتى لو عن طریق الترقیع.
3. تیار حضاري أصولي معتدل، ینشد الإصلاح ولكنه یهتم بماهیة الإصلاح وآلیاته وأدواته، ویدرس حركة الوعي الاجتماعي وقابلیتها، ویهتم بالتدرج الهادئ الممنهج في مساره الإصلاحي، فهو یغلف مشروعه الإصلاحي بظواهر تقلیدیة لكن مبانیه إصلاحیة أصولیة تأخذ في حسبانها المتغیرات العصریة، لكنه لا یتفاعل مع المتغیرات من موقع المنفعل بها، بل الفاعل بها والتفاعل معها بما یخدم الدین لا بما یقوضه، ولا یخوض معارك شخصانیة، بل معركته معرفیة تعتمد الدلیل والبرهان، ولا یستنزف وقته وجهده في المواجهة والجدل مع مناهضیه، إلا أنه یتوقف على النقود العلمیة لتقویم مساراته الإصلاحیة على ضوء هذه النقود وفق درجة وجاهتها علمیًّا وبرهانیًّا. وهذا التیار لا یمارس الصدمة، ولیس له بروز حاد في الساحة، ویتعاون مع المشاریع الإصلاحیة النهضویة بتروٍّ ودراسة فیأخذ بما یلتقي مع مساره ویترك ما یخالف تلك المسارات، لكنه لا یمارس أي دور دفاعي وتحصیني لتلك المشاریع ولا شخوصها غالبًا، حتى لا یتضرر مشروعه وتنكفئ مساراته، وتقوض جهوده. وقد یساهم في تلك المشاریع بطریقة تمهد لمشروعه وتنفعه على المدى البعید.
4. تیار یمارس التقیة فیظهر تقلیدیة في المنهج ویبطن حضارتیه في المباني والأهداف، لذلك قد یقف هذا التیار في الظاهر ضد مشاریع الإصلاح، لكنه في الباطن یدعمها ویؤیدها.
وهذا لا یعني خلو ساحة المشاریع الإصلاحیة وأصحابها من ثغرات، وممارسات خاطئة بل وفهم خاطئ أحیانًا للإصلاح الدیني بل للفكر الدیني بذاته، لكننا نكتفي بتقسیمات هذه المشاریع وأصحابها التي أوردناها في بدایة الورقة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد