الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
لا ريب في أنّ اللّه قد جعل لكل شيء قدراً، كما لا ريب في أنّ كمال الإنسان في سيره المعنوي هو عرفان قدره وتطبيق سلوكه على مقدور وجوده وما قدّر له من القوى والآثار، فرحم اللّه امرءاً عرف قدره، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، هذا.
ثمّ إنّ الإنسان قد جهّز بقوى ثلاثة، بعضها إدراكي وبعضها الآخر تحريكي. أما الأول فالعقل وما هو من جنوده إلادراكية كالخيال والوهم، وأمّا الثاني فالشهوة للجذب، والثالث الغضب للدفع. ولكل واحدة من هذه القوى الثلاثة حد وسط واعتدال، يكون السير عليه عدلاً وقسطاً، والتعدي عنه إسرافاً وإفراطاً، والقصور دونه اقتاراً وتفريطاً. وحيث إنّ الوسط وهو العدل والقسط محبوب للّه تعالى ومأمور به فلابدّ من التثبّت عليه والاجتناب عن طرفي الإفراط والتفريط. والتجاوز عن الاعتدال في كل من تلك هو إسراف فيها، فيكون مذموماً منهياً عنه وموجباً للنقص ومانعاً عن الرقي.
وحيث إنّ اللّه تعالى قد أمر بالقسط ونهى عن التعدي عنه في كل منها، فلابدّ من الإشارة إلى ذلك حسبما نزل به الروح الأمين على قلب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فالبحث في مقامات ثلاثة:
الأول: في الإسراف بحسب العقيدة، وما هو الحد الوسط للعقل
إنّ الإنكار المحض والنفي الصرف والقول: ﴿ما هِي اِلاّ حَياتُنَا الدُّنيا نَموتُ ونَحيا وما يُهلِكُنا اِلاَّ الدَّهر﴾ [1]، تفريط وقصور من القوة العاقلة، كما أن اتخاذ الأرباب المتفرقين إفراط منها، والعدل العقلي والقسط الاعتقادي هو التوحيد ونفي الشريك:﴿شَهِدَ اللّهُ اَنَّهُ لا اِلهَ اِلاّ هُوَ والمَلئِكَةُ واُولوا العِلمِ قائِمًا بِالقِسط﴾.[2] والإسراف في العقيدة هو الذي آشير إليه في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ﴾ [3]، وأيضاً في قوله تعالى: ﴿كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن هُوَ مُسرِفٌ مُرتاب﴾ [4]، لأن التجاوز الاعتقادي في أحد الأصول الدينية إسراف وإفراط من العاقلة عن حدها المقدّر لها في الكمال.
الثاني: في الإسراف بحسب القوة الغضبية
إنّ الجبن ونحوه تفريط من القوة الغضبية، والتهور والنهب والاختطاف والاستلاب ونحو ذلك إفراط لها، والشجاعة ولزوم ما أمر به هو العدل والقسط في القهر والانتقام.
ثمّ إنّه قد عدّ في القرآن الكريم غير واحد من موارد الإسراف في القهر والغضب، نحو قوله تعالى ﴿واِنَّ فِرعَونَ لَعالٍ فِي الاَرضِ واِنَّهُ لَمِنَ المُسرِفين﴾ [5]، حيث إنّ آل فرعون كانوا يذبحون أبناء المستضعفين ويستحيون نساءهم ويسومونهم سوء العذاب. ونحو قوله تعالى ﴿ومَن قُتِلَ مَظلومًا فَقَد جَعَلنا لِوَليِّهِ سُلطنًا فَلا يُسرِف فِي القَتلِ اِنَّهُ كانَ مَنصورا﴾ [6]، فلو قتل ولي الدم جماعة بواحدٍ كان إسرافاً في القتل وإفراطاً في الغضب.
الثالث: في الإسراف بحسب القوة الشهوية
إنّ الخمود ونحوه تفريط في القوة الشهوية، والشره ونحوه إفراط منها، والسخاوة والعفّة ونحو ذلك اعتدال منها. ثمّ إنّه قد عدّ غير واحد من موارد الإسراف في هذه القوة في القرآن الكريم نحو قوله تعالا: ﴿يبَني ءادَمَ خُذوا زينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وكُلوا واشرَبوا ولا تُسرِفوا اِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفين﴾.[7] والآية شاملة لجميع موارد الإسراف من القوة الشهوية؛ إذ الأكل والشرب فيها مثال لكل ما تجذبه الشهوة من أمتعة الحياة الدنيا، سواء كان في الأكل والشرب أو في اللبس أو البناء أو الصرف في سائر الجوانب المادية. ونحو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [8]، وقد نهي فيها عن الإسراف في الإنفاق لأنّه تعدٍّ مذموم. والجامع في ذلك كلّه قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ٭ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾.[9]
وأشير إلى التعديلات الثلاثة: أمّا في القوة الشهوية فقوله تعالى: ﴿وكانَ بَينَ ذلِكَ قَواما﴾[10]، وهكذا قوله تعالى: ﴿ولا يزنون﴾.[11] وأمّا في القوة الغضبية فقوله تعالى:﴿ولا يَقتُلونَ النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللّه﴾.[12] وأمّا في القوة العاقلة فقوله تعالى: ﴿والَّذينَ لا يَدعونَ مَعَ اللّهِ اِلهًا ءاخَر﴾.[13] وحيث إنّ الإسراف هو التعدي عن القسط والعدل الذي هو الصراط فقد يكون بالكمّ وقد يكون بالكيف، فكما أنّ الأكل الكثير أو الإنفاق الزائد أو البناء الرفيع جداً الزائد عن الحاجة إسراف، كذلك صرف النعمة في الحرام إسراف أيضاً وإن لم يكن كمّه كثيراً كشرب الخمر ونحوه؛ لأنّ استعمال النعمة في الحرام تعدّ عن طور العبودية وتجاوز عن العدل المأمور به.
ومما تقدم يظهر وجه المنع عن التبذير أيضاً كما في قوله تعالى: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٭ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [14]؛ إذ التبذير هو نشر البذر في موطن لايليق به ومحلّ لايجدر به، ولا ميز فيه بين كون ذلك لكونه تجاوزاً عن الحد الكمّي أو عن الحد الكيفي.
٭ ٭ ٭
________________________________________
[1] ـ سورة الجاثية، الآية 24.
[2] ـ سورة آل عمران، الآية 18.
[3] ـ سورة طه، الآية 127.
[4] ـ سورة غافر، الآية 34.
[5] ـ سورة يونس، الآية 83.
[6] ـ سورة الإسراء، الآية 33.
[7] ـ سورة الأعراف، الآية 31.
[8] ـ سورة الأنعام، الآية 141.
[9] ـ سورة الفرقان، الآيات 68 ـ 67.
[10] ـ سورة الفرقان، الآية 67.
[11] ـ سورة الفرقان، الآية 68.
[12] ـ همان.
[13] ـ همان.
[14] ـ سورة الإسراء، الآيات 27 ـ 26.
السيد محمد باقر الحكيم
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ حسين مظاهري
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
تجربتي في إدارة سلوكيات الأطفال، كتاب للأستاذ حسين آل عبّاس
الفروق الحقيقيّة بين المكي والمدني
كيف نصبح من الذاكرين؟
التفكير التصميمي: الإبداع وإيجاد حلول للمشكلات
الهدية وأثرها في البيت الزوجي
محاضرة في نادي الخطّ الثّقافيّ حول التّفكير النّقديّ
ورشة بيئيّة في نادي الخويلديّة الرّياضيّ
أمسية تكريميّة وتدشين كتاب للرّاحل علي آل رضي في عرش البيان
الوجود ليس باطلًا
الشيخ عبد الله النمر: المنهج القويم معيار السلامة