السيد عباس نور الدين
نظرًا لأهمية الخيال ودوره وحجم تأثيره في تشكّل شخصية أبنائنا سلبًا أو إيجابًا، ونظرًا للواقع الخيالي الهائل الذي يحيط بأبنائنا، فإنّ مهمّة التربية الخيالية يجب أن تركّز على بعدين أساسيين:
الأول، يرتبط بمصادر الخيال ومناشئه.
والثاني، يتعلق بقوّة النفس وانضباطها.
إنّ عالم الطبيعة، بل عالم خلق الله كلّه، هو مصدر سليم وإيجابيّ للخيال، ومحل مناسب لتفعيل هذه القوّة وتكميلها؛ لكن يد الشيطان الرجيم قد امتدّت إلى هذا العالم منذ بدء الخليقة وخرّبت فيه الكثير، من بشره وحجره وطبيعته ومجتمعاته. وقد نجم عن هذا التخريب الإبليسيّ أدبيات واسعة في الفكر والأدب والفن وحتى العلوم؛ فعبث إبليس قد طال فكر الإنسان ورغباته وميوله واهتماماته بالإضافة إلى عالمه الطبيعي.
إنّ ما نشهده اليوم من هذه العبثية واللهوية التي لم تدع مجالًا أو قضية أو حتى عمرًا إلا واجتاحته بخيالاتها الواسعة المتواصلة المتّصلة، أصبح يمثّل أكبر خطر على طفولة أبنائنا. فأي إنسان يفتقد إلى قدرة التمييز بين الحقّ والباطل والحسن والقبح سيتلقّى هذه الخيالات بقبولٍ حسن إن كانت ممتزجة بالجمال والجاذبية. وبسبب ذلك سوف يختزنها في عمق ذاكرته، لتصبح رصيدًا أساسيًّا يستفيد منه لتشكيل توجّهاته وأفكاره وحتى عقائده.
حين تتفاعل حواسنا المختلفة مع عالم الخلقة الإلهية الصافية النقية، فإنّ ما ينجم عنها من خيالات سيكون عاملًا مفيدًا في تقوية هذه القوّة وغيرها من القوى الإنسانية. وحين تواجه حواسنا عالمًا عابثًا باطلًا فمن المتوقّع أن يختزن خيالنا الكثير من الصور التي تؤدّي إلى تشكيل مفاهيم وعقائد وتوجّهات باطلة.
وأحد مظاهر هذه العبثيات المنتشرة في الإعلام المتعدّد ذاك الذي يقدّم لنا الحياة ضمن قوانين غير صحيحة، أو بتعبير أدق بعيدًا عن السببية والقوانين والمعادلات الواضحة. فنحن نعلم أنّ للنجاح في الحياة قوانين ثابتة ترتبط بالجد والاجتهاد والعمل الصالح واتّباع الحقّ والخير وأمثالها؛ لكنّنا بتنا نشاهد أو نسمع الكثير من القصص والحبكات التي تظهر أنّ النجاح لا يحتاج إلى تلك القوانين، وإنّما قد يحدث صدفة من دون طي أي مقدّمات واقعية؛ وأسوأ من ذلك الخيالات التي تعبث ليل نهار بأحد أهم قوانين الحياة الكبرى وهو قانون "من يعمل شرًّا يره ومن يعمل خيرًا يره". فكثيرًا ما يشاهد أبناؤنا إنسانًا بريئًا أقدم على المساعدة والتضحية بنفسه من أجل الآخرين، لكنّ مصيره لم يكن سوى الموت دون طائل. وقد يشاهدون شخصًا كاذبًا أو شرّيرًا ينجو بفعلته، أو مجرمًا قاتلًا للأبرياء والمساكين يتغيّر ويتحوّل بلحظةٍ واحدة؛ وهكذا تختفي الحدود الفاصلة بين الحقّ والباطل، والحسن والقبح، والخير والشر، ويمتزج العالمان ليصبحا بالنسبة لأبنائنا عالمًا واحدًا لا يعرفون ولا يميزون بين طريق كلّ واحدٍ وأسبابه وعواقبه.
إنّ إدراك قوانين الحياة (التي تُعدّ أثمن وأهم ما يحتاج إليه الإنسان للنجاح والفلاح)، يتطلّب مهارةً عقلية قادرة على استنباطها من تجارب الحياة المختلفة، أو ملاحظتها واكتشافها عبر مطالعة الكتب الحكمية وسيرة الحكماء. في حين أنّ عقول معظم الأطفال لا تكون قد بلغت من النضج ما يمكّنها من اكتشاف هذه القوانين (في الحياة والقصّة) أوّلًا، ومن ثمّ مقابلتها مع ذلك العبث الخياليّ الواسع ودحض افتراءاته وهرائه ثانيًا. فتكون النتيجة في الحدّ الأدنى، فيما لم تُتح لأطفالنا فرصة اكتشاف تلك القوانين فيما بعد، أن تتغلّب على عقولهم آثار العبث الخياليّ ذاك.
لهذا على المربّين الأعزّاء أن يصاحبوا أبناءهم في رحلة الخيال هذه، ويشرفوا عليها باهتمامٍ فائق، ويزوّدوهم بما يلزم من عقل (نقل ثمار العقل من الكبار إلى الصغار)؛ فإذا كان أبناؤهم يشاهدون فيلمًا خياليًّا معيّنًا، فليجلسوا معهم ويحادثوهم ويحاوروهم حول أحداثه ويتأكّدوا ممّا فهموه واستنبطوه منه، ويبيّنوا لهم سبب كذب تلك المعادلة التي ركّز عليها هذا الفيلم وعدم واقعيتها؛ وبهذه الطريقة قد لا تعلق هذه الخيالات في عمق الذاكرة وتستقر فيها.
يمكن للمربّين أن يصفّوا وينقّوا القنوات التي تتّصل بعالم أبنائهم الخياليّ، إن عملوا على توضيح القوانين الحكمية والعقلية التي ترتبط بالخيالات الوافدة. وفي بعض الحالات، قد يكون لهذا العمل تأثيرٌ إيجابيّ كبير على صعيد تحصين الأبناء ممّا سيأتي من خيالات كثيرة في المستقبل، بالإضافة إلى تنمية العقل نفسه وتقويته بصورةٍ لافتة.
ومع الإشراف على مصادر الخيال وتصفية قنواته المختلفة، يجب العمل على تحصين النفس تجاه آثارها الهدامة عبر تقوية الأبعاد الفطرية فيها. فحيث إنّ الفطرة مسؤولة عن اكتشاف دقائق القبائح والأباطيل في الواقع والقيم والسلوك، فإنّها تبث حالة النفور والرفض والإعراض عنها.
إنّ التهتك الذي أصبح سمة إعلام الغرب وأدبيّاته هو أمرٌ قبيح جدًّا، لأنّه ينتقص من كرامة الإنسان ومنزلته السامية (كما يظهر في الرقص وأنواع الطرب والمجون)؛ لكنّه غالبًا ما يُعرض ممتزجًا بالحرية والفرح والمرح، فيصعب على الأطفال إدراك قبحه وشناعته، لأنّهم يميلون بالفطرة إلى هذه الأمور الجميلة. ولأجل ذلك يزداد احتياجنا إلى برامج وطرق مميزة وعميقة لتقوية الفطرة وتفعيل دورها في السنوات الأولى من العمر.
كما إنّ حبّ الظهور والشهرة والبروز أمرٌ قبيح بذاته، لأنّه يخالف حقيقة ما نحن عليه كبشر ناقصين عاجزين محتاجين. فلو شاهدت فقيرًا متسوّلًا يرقص ويغنّي طربًا وفرحًا، لعلمت أنّه فقد عقله أو أُصيب بالثمالة، لأنّ حال الفقر والعوز يبعث على الاستكانة والخمود والتواضع بصورة تلقائية. فكيف يفرح ويمرح ويختال ويتبجّح من بلغ منصبًا أو مكانة أو رئاسة، وهو في مثل هذه الحالة في أخطر وضع يمكن أن يكون عليه إنسان في هذا العالم، نظرًا لحجم التحدّيات والامتحانات والاختبارات والمواقف الدقيقة التي تصاحب الرئاسة؟! ففيها ينكشف احتياج الإنسان أكثر من أي موقعٍ آخر، إلى الحكمة والصواب والاحتياط. فهذا بلاءٌ عظيم يدعو إلى التضرّع والبكاء والتوسّل، لا إلى الفرح والاغتباط والطرب.
إنّ قصة قارون هي خير مثال على ما يمكن أن يحل بالإنسان الذي يفرح بما آتاه الله وهو يظنّ أنّه حصل عليه بشطارته ومهارته وعلمه؛ فهناك تنخسف الأرض الثابتة التي يحتاج إليها للوقوف والاستقرار والنظر إلى المصير والعواقب الآتية، ويفقد القدرة على رؤية الواقع تحت وقع سكر الفرح الواهم.
وفي أدبيات وفنون وإعلام عصرنا يتم تمجيد الرئاسة والشهرة باعتبار أنّها أمرٌ جميل وعظيم، في حين أنّها من أكبر مزالق الأقدام ومزالّها.
ولا شك أنّ الأطفال يحتاجون إلى التحفيز والتشجيع والحث على العمل الصالح والنظر إليه كأمرٍ عظيم ومطلوب؛ لكن هذا شيء، وتمجيد الرئاسة والشهرة شيءٌ آخر. فانتخاب الطالب كرئيس لمجلس الطلاب ليس فيه أي عظمة أو مجد، لكن تقديم كأس البطولة للطالب الأول في الدراسة أمرٌ حسن وجميل. وحين تضيع القيم ويختلط الحقّ بالباطل والحسن بالقبيح، يصعب على الأطفال التمييز بينهما. وللأسف، هذا ما تفعله الكثير من أدبيات الخيال في زماننا هذا.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا