السيد عباس نور الدين
للمسؤولية في التربية الإسلامية عمقٌ عميق يرتبط بموقفٍ مصيريّ ويوم عظيم يتحدّد فيه مستقبل الإنسان الأبديّ. ففيه يقف كلّ إنسانٍ بمفرده للمساءلة والحساب من قبل العزيز الجبّار الذي لا تخفى عليه خافية. وإذا كان للتربية أن تنجح في بناء شخصية مستقيمة قوية فاعلة، فينبغي أن تعمّق الإحساس بهذا اليوم المصيريّ، حيث تصبح كلّ الأعمال والمواقف والحسابات مبنية على أساسه؛ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُون}.[1]
لكل مسؤولية في عرف الناس مرجعية محدّدة تجري على أساسها المطالبة والمحاسبة؛ فهناك الأسرة والناس الذين ينظرون في أعمال الفرد ويحدّدون مواقفهم تجاهه، وهناك المجتمع والحكومة التي تمتلك أجهزة قضائية وجزائية؛ وهناك الله رب العالمين الذي يرجع الكل إليه، فهو الشاهد الأكبر والآخذ بكل ناصية.
ولأجل ذلك فإنّ من يؤمن بيوم الحساب ويعتقد بالمحشر ويظن أنّه ملاقي الله في النهاية، يجعل الإرادة الإلهية مرجعية كل عمل يهمّ به، فلا يفعل إلا ما يريده الله ويطلبه. وهذا هو هدف التربية الإسلامية.
كيف نجعل أولادنا يستحضرون هذه المساءلة لكي تُبنى الروح المسؤولة في نفوسهم؟
إنّ هذا، وبكل بساطة، إنّما يتحقّق من خلال قوّة حضور يوم الحساب في النفس. وإنّما يكون حضور هذا اليوم مؤثّرًا في النفوس، حين تستحضر النتائج الحتمية من ورائه، وهما باختصار النعيم المقيم في جنة الخلد أو العذاب الأليم في نار البعد؛ فلا شيء يصنع الشخصية المسؤولة مثل تذكّر الدار الآخرة، حيث أشار القرآن الكريم إلى هذه التربية، كما قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار}.[2]فأصبح هذا التذكّر للحياة الآخرة مخلصًا للإنسان؛ وإنّما يخلصه من عذاب أليم ومصير مشؤوم.
لكي نبني الشخصية المسؤولة بأعلى مستوى ممكن، ينبغي أن نرسّخ قيمة العلاقة مع الله تعالى كمحورٍ أول لكلّ الأنشطة والتحرّكات والمواقف والآمال والرغبات. ويتفرّع عن هذه العلاقة قيم مهمّة وأساسية مثل عبودية الإنسان المطلقة لله وكونه عبدًا مملوكًا له، ومثل قيمة رضا الله التي تمثّل أعلى أمنية للإنسان المؤمن، ومثل قيمة الخوف من الله وطرده.
ولأنّ الله شديد الحضور في الحياة البشرية بمختلف مواقفها وأبعادها وشؤونها وحوادثها، ولأنّه تعالى أقرب للإنسان من حبل وريده، وهو يراه أينما كان وفي كلّ أحواله ولا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء والأرض، فإنّ تعميق الارتباط بالله من أجل الشعور بحضوره يكون أمرًا ميسورًا لكلّ من توجّه إليه وقصده وفكّر به. وهكذا يصبح الإحساس بالمسؤولية تجاهه أمرًا تلقائيًّا.
نعتمد في ذلك كلّه على تفعيل حالة المراودة والتواصل والتفاعل مع مظاهر حضور الله في الحياة؛ لتصبح هذه الرابطة أقوى من أي رابطة يمكن أن يقيمها الإنسان في حياته مع أيّ موجودٍ كان.
وإحدى القضايا المؤثرة في تعميق المسؤولية هي الاعتقاد بأنّ الإنسان سوف يُسأل يوم القيامة عن كل شيء في هذا العالم. وهذه مسألة عجيبة فعلًا لا نجد لها مثيلًا في الثقافات الأخرى؛ وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ الله يسأل الإنسان يوم القيامة عن كل شيء، حتى عن الحجر والشجر والمدر. ويمكن فهم ذلك بملاحظة الدور الأساسيّ للإنسان والمهمّة الكبرى التي كانت سبب وجوده في هذا العالم ألا وهي مهمة خلافة الله في الأرض. وانطلاقًا من هذه المهمّة وهذا الدور الكبير، يتّضح حجم المسؤولية ومستوى المحاسبة في النهاية.
فإذا أردنا أن نكون منسجمين مع عقائدنا، ينبغي أن نربّي أبناءنا على أساس هذه المهمّة الكبرى، ولا نخشى في ذلك أحدًا من الناس؛ فالله تعالى قد جاء بنا إلى هذا العالم لكي نعمل فيه ونكدح ونتعامل مع كل موجوداته، كما يمكن أن يتعامل الله معها (وإلا فما معنى الخلافة عندئذ؟!).
ولا يمكن للإنسان أن يكون خليفة لله حقًّا إلا إذا اتّصف بصفاته سبحانه وتخلّق بأخلاقه تعالى. وحين نسعى بجدٍّ واجتهاد ونعمل بإخلاص من أجل تنفيذ هذه المهمّة، وحمل هذه الأمانة، فإنّنا سنقترب من التحقّق بهذه الصفات. وحين نتخلّق بهذه الأخلاق، فسوف نكون قادرين على أداء الأمانة على أكمل وجه.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.[3]
يجب أن نسعى لكي يفهم أولادنا معنى الخلافة الإلهية، لكي لا يكون مجيئهم إلى هذا العالم سدًى، فيقعوا في حسرة يوم القيامة التي هي أشد من عذاب النار. وإنّما يحصل هذا الفهم على أثر إدراك حقيقة كوننا عبادًا مملوكين لله تعالى، ليس لنا إرادة ولا اختيار مقابل إرادته واختياره.
والجميل في هذه القضية هو أنّ جميع مشاكلنا وهمومنا واحتياجاتنا ـ الناشئة من وجودنا في هذا العالم ومن طبيعة نقصنا وفقرنا ـ تنحل وتزول وتؤمَّن في ظلّ سعينا الصادق لنكون على قدر المسؤولية الإلهية. فلا تعارض بين أن نكون لله بالكامل وبين أن نعيش أعزّاء ومرفّهين وسعداء في هذا العالم؛ بل إنّ السعادة والطمأنينة واليمن والبركة كلّها تتحقّق على طريق هذا السعي.
أن نكون مسؤولين حقًّا يعني أن ننظر إلى أنفسنا ـ بدءًا من أجسادنا، ومرورًا بأفكارنا، وانتهاءً بأرواحنا ـ وإلى كل من حولنا من بشر وكائنات، ثمّ إلى العالم كلّه، من منظار الدور والمهمّة الملقاة على عاتقنا والتي تتمثّل في السعي لإيصال كل مخلوق ناقص إلى كماله اللائق به.
بعض الأشياء يسهل معرفة كمالها، والبعض الآخر تتطلّب معرفة طبيعة كماله حكمة عميقة. لكن كل ذلك يبدأ من الحرص على سلامة وحياة وسعادة ونقاء كل موجودات العالم. لهذا، الشخص المسؤول لا يتعامل بعبثية أو إهمال أو إتلاف أو تبذير أو إسراف مع أي شيء، ولو كان جوربًا قديمًا أو بقية ماء في إناء أو حجر على الطريق. ولا شك بأنّه لا يتعرّض بالأذى لأي كائن مهما كان ضئيلًا، إلا إذا كان يضرّ بغيره، وأجاز الله التعرّض له. وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا تأتي الحية إلا إذا أتتك".
والشريعة الإسلامية بأحكامها التفصيلية، من الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات التي تشمل شؤون الحياة، هي النظام الكامل الذي ينبغي أن نبني عليه روح المسؤولية. فيمكن التعرّف إلى المسؤوليات تجاه الجسد وكل عضو فيه في هذا النظام. ويمكن التعرّف إلى المسؤوليات تجاه المجتمع وجميع شرائحه من خلال هذا النظام. وهكذا يكون التفقّه في الدين مقدّمة أساسية لتعزيز هذا الشعور والعمل على أساسه.
إن أصبح أولادنا مهتمّين بما يجري على المسلمين في العالم وأدركوا جيدًا عواقب "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ"،[4]كما قال نبيّ الإسلام المكرم، فإنّ هذا سيتجلّى في متابعتهم لأخبارهم وأحوالهم ولو كانوا في أقصى بقاع الأرض. ومن خلال تشجيعهم وحثّهم على قراءة الصحف والاستماع إلى بعض النشرات الأخبارية، يمكن أن يتفتّق هذا الشعور أيضًا.
وإن أصبح أولادنا مهتمين بأرحامهم وأقاربهم، وشعروا بوخامة قطيعة الرحم وأدركوا أهمية الصلة، فسوف يتجلّى ذلك بمبادرتهم إلى الزيارة. وهكذا يتجلّى الشعور بالمسؤولية تجاه كل شيء في هذا العالم بعمل ما ودور معين.
بيد أنّ الساحة الأولى لبعث هذه الروح ستكون عبارة عن الاهتمام بالجسد. ويجب أن نعلّم أبناءنا كل ما يرتبط بصيانة أبدانهم ورعايتها وحفظها وتقويتها؛ حتى يصبح الانتقال إلى الاهتمام بالنفس وقواها الأخرى تلقائيًّا. وإنّما يحصل ذلك بفضل إدراك دور الجسد على مستوى الحياة كلّها دنيا وآخرة، فتكريمه هو تكريم للنفس التي أرادها تعالى أن تكون مظهر جماله وكماله.
ـــــــــــ
[1]. سورة الصافات، الآية 24.
[2]. سورة ص، الآية 46.
[3]. سورة الأحزاب، الآية 72.
[4]. الكافي، ج2، ص 164.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا