السيد عباس نورالدين
للإنسان الكامل ثلاثة أسرار: سرٌّ من ربّه وسرٌّ لنفسه وسرٌّ لغيره. وقبل بيان السر لا بأس بأن نشير إلى معناه. فالسر هو تلك الحقيقة التي تخفى على الناس إلا الخواص منهم، والتي يجب الحفاظ عليها وعدم نشرها إلا في إطار يحفظها من عبث العابثين واستغلالهم.
فأمّا سرّه من ربّه فهو أنّه تعالى جعله آيته الكبرى، حيث لا يوجد آية أكبر منها. فهو كمال إبداع الخالق؛ ولهذا لا يُعرف الله تعالى كما ينبغي إلا به.
كل الكائنات والمخلوقات هي آيات الله. ما من شيء خلقه الله تعالى إلا وفيه دلالة على الله بما يظهره من صفات القدرة والجمال والحياة والعلم وغيرها، بحسب ما تقدر القلوب على استيعابه. فمخلوقٌ تظهر فيه القدرة ممتزجة بالفقر الذاتي، فنستدل بذلك على قدرة خالقه وموجده وغناه الذاتي. ومخلوقٌ تظهر فيه الحياة في عين الاحتياج الذاتي والفقر الإمكاني فيدلّنا، إن تفكّرنا وعقلنا، على حياة الخالق الغنيّ. وتتفاوت المخلوقات في دلالتها وآيتيتها؛ فمنها من يظهر في الجمال والكمال أكثر من غيره فيكون بذلك أعظم دلالة وتكون آيته أكبر.
وقد جعل الله الإنسان بما هو إنسان أكبر الآيات من بين أصناف الكائنات، يظهر ما لا يظهره أحد سواه كثرةً ونوعًا. ففي مرآته انعكست صفات الحلم والعفو والمغفرة التي هي من أحب الصفات إلى الله تعالى، ولم تكن مثل هذه الصفات لتظهر لو بقي العالم بلا إنسان يذنب ويتوب، يعصي ويستغفر. فالعصيان ليس واردًا في حال الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ولا في الأحجار والأشجار وأمثالها، لأنّها ساجدة منقادة. وأراد الله تعالى أن يظهر لذاته بهذه الصفات؛ وكان خلق الإنسان.
وفي مرآته ظهرت صفات الفردانية، وما هو أعظم، وما استأثره الله لنفسه. فصار الإنسان الكامل كونًا جامعًا للعوالم كلّها. "لم يخلقه الله ليمتنع به من سوء أو ليتطرّق به إلى نفع، بل أنشأه إثباتاً لقدرته على مثله".
إنّ سر الإنسان الكامل من ربّه يكمن في أنّه يُظهر لربّه ما لا يُظهره أحد سواه... ولا يوجد مخلوق غيره له من المرآة ما تُظهر صفة أو مرتبة أعلى وأكمل. ولمّا كان ربّنا سبحانه وتعالى أعلى مبتهج بفعله، وكان الإنسان أفضل مصنوعاته، استحقّ أن يكون محبوبًا عنده أكثر من سواه؛ لأنّه تعالى خلق الأشياء من الحب الذاتي؛ والفعل ظهور الصفات الذاتية.
وأمّا سر الإنسان الكامل لنفسه فهو أنّه (تقدّس سرّه) عرف الله من نفسه حيث تجلّى الحق سبحانه له بنفسه.وأراه من عجائب عظمته ما لا يتناهى في قالب وجوده ومرتبته. فانظر كيف أنّ الله تعالى لمّا أراد أن يري إبراهيم ملكوت السماوات أجرى إحياء الموتى على يديه، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير ويقطعهنّ وينشر أجزائهنّ على كل جبل ويدعهنّ يأتين إليه سعيًا؛ فصار إبراهيم مظهر المحيي.
أو عزير الذي أراه الله قدرته، فأماته الله مئة عام ثمّ بعثه؛ وقال أعلم الآن أنّ الله على كلّ شيء قدير في نفسه. فكان آية القدرة الإلهية المطلقة بذاته وروحه التي لا تفنى بل تجمع شتات الأشياء وتمنعها من الزوال والانعدام.
وليست المعجزات التي ظهرت في نفوس الأنبياء، الذين هم مظاهر الكمال وأحسن الأسماء، في حقيقتها إلا آية لهم على حسن صنيع الله بهم وعظمته التي لا يُحاط بها. عرّفهم الله نفسه لمّا تجلّى لهم في ذواتهم وعلى قلوبهم بدكّ جبال إنّياتهم وإفنائهم عن قيود العوالم وحدود الأشياء كلّها.
وأمّا سرّه لغيره، فهو أنّه مباهاة الملائكة وفضح إبليس وحجّة الله وسبيله ووسيلته. فبه عرفت الملائكة مقام ربّها، ولولاه لكانت محجوبة أبد الدهور. فلمّا خلق الله أنوار النبيّ وأهل بيته، وشاهدت الملائكة أنوارهم كادت تظن أنّها أنوار الربّ المتعال في غاية شأنه وكنه ذاته، وهناك سبح النبيّ وأهل بيته، فسبحت الملائكة وعلمت أنّ ما كانت تشاهده من أنوار هو تجلّي الذات والذات أعلى وأجل، كما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله في عيون أخبار الرضا عليه السلام: "يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم عليه السلام ولا حواء ولا الجنة والنار ولا السماء والأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه؟! لأنّ أول ما خلق الله عزّ وجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده، ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نورًا واحدًا استعظمت أمرنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أننا خلقٌ مخلوقون وأنّه منزّه عن صفاتنا، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا ونزّهته عن صفاتنا، فلمّا شهدوا عظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنّا عبيد ولسنا بالآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه، فقالوا لا إله إلا الله...".
وبذلك انفتحت مدرسة علم الأسماء على ملائكة الله. وهم في عوالمهم ودرجاتهم لا يعلمون من الله سبحانه إلا ما يعلّمهم الإنسان الكامل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين}.
وبالإنسان الكامل بدأت فضيحة إبليس الذي استطاع أن يخفي كفره على الملائكة أكثر من ستة آلاف سنة، لا يدرى إذا كانت من سنيّ الأرض أم من سنيّ السماء. فعدوّ الله هذا الذي لا يوجد مثله في العداوة، حيث إنّه يسعى ليكون نقيض صفاته سبحانه ومخرّب آياته، لا يعلم أنّ الله تعالى له شأن في خلقه أن يجعله سببًا لظهور صفات جلاله وقهره. وكان الإنسان أيضًا صاحب الشرف في إخراج إبليس من مكمنه.
أثار الإنسان الكامل إبليس ليظهر كل ما يعادي ويضادّ الله به، من حقد وحسد وكفر وعناد وغيرها. وكان الإنسان ميدان عداء إبليس لربّه؛ فاستحق بذلك ظهور جلال الله وقهره.
الإنسان الكامل هو حجّة الله الكبرى على الخلق أجمعين؛ لأنّ الله تعالى به يحتج على سائر الخلق وبميزانه يحاسب. فهو الواصل إلى مقامات القرب والعصمة والعبودية في عين بشريته. تراه يجوع ويعطش ويتعب ويتألّم ويُحاصَر ويُطارَد وينكَّل به ويهجَّر ويُجرَح ويحتاج، لكنّه لا يغفل عن ربّه ولا يترك عبادته. تراه يُبتلى بأشد ما يكون البلاء لكنّه لا يسقط ولا يزل. تراه يُفتتن بكل الفتن: {وفتنّاك فتونا}، لكنّه لا ينسى ربّه طرفة عين. ترى الدنيا بكل زخارفها تحبو إليه وتنقاد وتقبل عليه وتتغنج، لكنّه يطلّقها ثلاثًا. تراه يرى أنّه يُذبح ابنه، فيفعل ما يؤمر..تراه يُخرَج من أهله ومن وطنه، لكنّه عند الله يحتسب.. تراه يودّع الأصحاب والإخوة والأبناء مجزرين مقطّعين كالأضاحي، لكنّه لا يرى من ربّه إلا جميلًا. تراه يرى نسوته سبايا بين أيدي العتاة، لكنّه يرضى بمشيئة الله. فهل يبقى لأحد من الخلق عند الله عذر؟!
يُعرف الله بآياته، وكلّما كانت آيته أجلى وأكبر كانت المعرفة أيسر وأكبر. وفي كلامٍ لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه "ما لله آية أكبر مني"، إشارة إلى أنّ الإنسان الكامل أفضل طريق لمعرفة الله تعالى. لا، بل هو الطريق الوحيد لمعرفته كما هو الحق الواجب على الخلق. والعارف يثبت أنّ المعارف الحاصلة من غيره من الآيات لا ترقى إلى المعرفة المطلوبة والتي كانت سر وجود الخلق. وأحد أسرار القضية هو أنّ غاية المعرفة بالله العجز عن المعرفة والدخول في بحر الصعق والفناء والدهش والهيمان.
فالذين عرفوا الله من دون أن يشعروا بحقيقة الهيمان والدهش والحيرة والصعق لم يعرفوه حقًّا. ومعرفة الإنسان الكامل تعطي العارف ما كان يتصوّره ربّه وظنّه طوال الوقت إلهه. وإذ به يرى أنّه مخلوقٌ من مخلوقاته وتجلٍّ من تجلّياته؛ وهناك يُصاب بالحيرة الكبرى ويكبّر ربّه عن أن يوصف. فما هو سرّ قول أبي عبد الله الحسين عليه السلام حينما سُئل عن غاية الخلق ولماذا خلقهم الله تعالى فقال: "إنّ الله خلقهم ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه". وهناك سُئل عن معرفة الله حقّ معرفته فقال معقّبًا مجيبًا عن حق المعرفة وهي المعرفة الواجبة على كل مخلوق: "معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب أن يطيعوه".
إنّ معرفة الله تعالى، التي لا تكون إلا بالعجز عن معرفته، لا تتحقّق إلا بعد أن يصل السالك إلى إدراك كل تجلّياته، التي يكون أعلاها تجلّيه سبحانه بأعظم آياته، وهي آية الإنسان الكامل. ولهذا كانت معرفته باب معرفة الله.
أراد الله سبحانه لنا أن نعرفه بألوهيته، لأنّ جميع صفات الكمال لا معنى لها إذا لم تكن نابعة من الألوهية والفردانية والتوحيد. وإنّ مقتضى الألوهية أن لا يحيط العباد بالإله في الوقت نفسه الذي إليه يتولّهون أو يألهون. إنّ الله تعالى إله لا يُحاط به ولا يُعرف بكنهه وهو محيّر العقول والألباب. وما لم نصل إلى هذا الشعور لا نكون قد عبدناه كما ينبغي ولا عرفناه كما يلزم. ولا يمكن ذلك إلا بالعجز عن المعرفة بعد بلوغ غاية المعرفة. وليست غاية المعرفة إلا بمعرفة أعظم وأكمل وأكبر التجلّيات والآيات. والإنسان الكامل هو مظهر التجلّي الأتم الأكمل.
اقتضت حكمة الله تعالى أن نعرف الله بالآيات. نحن هكذا، حين نغفل عن حضوره يتجلّى لنا بالآيات ويرينا إيّاها في الآفاق وفي الأنفس، رغم أنّه تعالى على كلّ شيء شهيد ومع كل شيء مشهود.
هكذا اقتضت رحمة الله بعباده أن لا يتركهم في غفلتهم يعمهون. فأنزل إليهم الآيات الكبرى، وألبسها لباس البشر، لتكون قريبة من وجدانهم وحياتهم ومشاعرهم ومداركهم، لتعظم الحجة وتتّضح المحجة.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا