
إن مسألة المعاد والحياة بعد الموت معقدة وصعبة، إلى درجة أن عقول المفكرين قد حارت بشأنها أكثر من حيرتها في مسألة مبدأ العالم. إذ إن القول بإنكار وعدم وجود نهاية للعالم، لم ينحصر فقط بالماديين ومنكري مبدأ العالم، بل إن بعض المعتقدين بمبدأ العالم والمؤمنين بخالق الكون، كان لديهم شك بشأن القيامة ولم يتقبّلوها.
وهذا الإنكار إضافة إلى ما يسبّبه من تعقيد لمسألة المعاد، له نكتة أخرى بحيث أنه لم يأتِ بدون سبب. فالاعتقاد بالقيامة والإيمان بيوم الجزاء يوجب قبول التعهد والمسؤولية، ويمنع الإنسان من هوس اللعب والظلم، ويجعله خاضعاً للقوانين، لهذا كان إنكار المعاد لأجل توجيه الظلم والعبث واللهو له دور فعَّال ومؤثر. بناء على هذا يلزم قبل الشروع في البحث حول أصل المعاد أن نبين دوره الأصيل والبنَّاء في تهذيب النفس وتزكية الروح، ونتعرف على سر إصرار الأنبياء على ضرورة المعاد في مقابل إنكار المنكرين للقيامة.
القرآن الكريم عندما ينقل بعض إشكالات منكري المعاد ويقوم بحلها، يقول إن الشبهة العلمية لم تكن هي المانع لهم عن قبول المعاد بل الشهوة العملية والفجور: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ 1.
عندما لا يكون الحساب موجوداً ولا يوجد جزاء من ثواب أو عقاب على أي عمل، فلن يكون لذلك أثر سوى الانحراف عن طريق الله حيث الصعاب والشقاء. "إن الجنة حفّت بالمكاره، وإن النار حفّت بالشهوات" 2.
ثم إن الاعتقاد بالقيامة ضامن للفضائل الإنسانية، إذ يعتبر القرآن أن ذكر المعاد وحضوره في الذهن سببٌ لتعالي الروح وخلوص الإيمان. لأنه يقول بشأن المخلصين: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ 3.
وعلى أساس هذه الأهمية المتقابلة في الفضائل والرذائل، نجد أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إضافة إلى الاستدلالات القاطعة التي يبيّنها. يقسم أن المعاد حق. وأيضاً منكرو القيامة الذين يعتقدون بمبدأ الخلقة ولكن لا اعتقاد لهم بربوبيته، وبمعزل عن إلقاء الشبهة الواهية، يقسمون أن المعاد باطل ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي ...﴾ 4.
(وذكر أيضاً مضمون هذه الآية في سورة يونس آية 53. وفي سورة التغابن آية 7) ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ...﴾ 5.
يظهر هذا الموقف المتقابل، لأن الاعتقاد بالمعاد عامل للتعهد والتقوى، في حين أن إنكاره يؤدي إلى الفساد والفجور.
النقطة التي لا ينبغي إغفالها هي أن قسم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ليس مثل قسم الآخرين. لأن القسم يكون عادة بدلاً عن الشاهد والبرهان، فالمدعي إذا لم يكن لديه شاهد يقسم. ولكن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين يبيّن ضرورة المعاد، لا يعطي فقط شاهداً قاطعاً على ذلك، بل إنه يقسم بذلك الدليل القطعي، لأن القسم بالرب يعني القسم بمبدأ العالم وعامل رشد العالم. ولأن العالم عندما يصبح متكاملاً يصل إلى الهدف وبدون الهدف فهو خام وناقص، يصبح أن لازم ربوبية الله هو إيصال العالم الطبيعي إلى الكمال في ظل تربيته الخاصة ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ...﴾ 6.
أي أن الألوهية تقتضي المعاد والقيامة، لأن المعاد في الحقيقة رجوع إلى المبدأ. إذن فرب العالم حقيقة هو "المبدأ" وهو أيضاً "المنتهى" أي أنه هو موجب لنشوء العالم، وأيضاً سبب لتربيته وهدايته إلى الهدف النهائي الذي هو المعاد.
الآن وقد اتضح الدور المؤثر للاعتقاد بالمعاد في إيجاد التعهد والتقوى نصل إلى أصل البحث وهو إثبات الحياة بعد الموت.
القرآن الشريف بمقتضى الآية الشريفة: ﴿... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ...﴾ 7.
قد بيَّن كل المعارف الإنسانية، وكل شيء يسهم في تأمين سعادة الإنسان. ولكن بما أن بيان مطلب ما يكون محكماً عندما يعرض بالبرهان، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...﴾ 9 لذلك يعرض القرآن مسألة المعاد التي لا يتطرق إليها الخلل ببيان الدليل القاطع عليها، ويبيّن أيضاً ضرورة المعاد في ظل معرفة العالم، ومعرفة الإنسان كذلك؛ أي أنه يعرّف العالم المشهود وعالم الطبيعة كما هو، والإنسان أيضاً كما خُلق حتى يصبح معلوماً ضرورة المعاد وحتمية يوم القيامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. القرآن الكريم: سورة القيامة (75)، الآيات: 3 - 5، الصفحة: 577.
2. نهج البلاغة، خطبة 175
3. القرآن الكريم: سورة ص (38)، الآية: 46، الصفحة: 456.
4. القرآن الكريم: سورة سبإ (34)، الآية: 3، الصفحة: 428.
5. القرآن الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 38، الصفحة: 271.
6. القرآن الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 87، الصفحة: 92.
7. القرآن الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 89، الصفحة: 277.
8. القرآن الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 174، الصفحة: 105.
شكل القرآن الكريم (2)
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الهداية والإضلال
الشيخ شفيق جرادي
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (5)
محمود حيدر
كيف ننمّي الذكاء الاجتماعي في أولادنا؟
السيد عباس نور الدين
الذنوب التي تهتك العصم
السيد عبد الأعلى السبزواري
كلام في الإيمان
السيد محمد حسين الطبطبائي
الإسلام أوّلاً
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
لا تجعل في قلبك غلّاً (2)
السيد عبد الحسين دستغيب
معنى (لمز) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
التحسس الغلوتيني اللابطني لا علاقة له بمادة الغلوتين بل بالعامل النفسي
عدنان الحاجي
اطمئنان
حبيب المعاتيق
الحوراء زينب: قبلة أرواح المشتاقين
حسين حسن آل جامع
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
أظافر قدميك تكشف إذا كنت تعرضت لسبب غير مرئي لسرطان الرئة
شكل القرآن الكريم (2)
الهداية والإضلال
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (5)
كيف ننمّي الذكاء الاجتماعي في أولادنا؟
(قضايا مأتميّة) الكتاب الإلكترونيّ الأوّل للشّاعر والرّادود عبدالشهيد الثور
مركز (سنا) للإرشاد الأسريّ مشاركًا خارج أسوار برّ سنابس
شروق الخميس وحديث حول الأزمات النّفسيّة وتأثيرها وعلاجها
نشاط غير عادي في أمعائنا ربما ساعد أدمغتنا أن تنمو أكبر
الذنوب التي تهتك العصم