مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

القوّة الغضبيّة المناسبة

القوة الغضبية عند البشر هي قوة دافعة تسعى للحد من أوضاع معينة وردعها أو القضاء عليها بالكامل. بيد أنّ بعض هذه الأوضاع يكون مفيدًا للإنسانية ويصب في مصلحتها النهائية وحسن عاقبتها، فردعها أو القضاء عليها يكون جريمة شنيعة وخسارة كبرى.

تتمدد خيرات هذا العالم وجمالياته بحسب انتشار الفيض الإلهي وسريانه في الأشياء. ورغم أنّ الوقوف بوجه بعض مظاهر الفيض قد يحول دون سريانه وتمدده في بعض الأماكن والأوضاع، لكن هذا الفيض سيعم في نهاية المطاف. فلا شيء يمكن أن يحول دون وصول الفيض الأعظم وقوة الغضب تعينه.

دفع هذه المواجهة التي تريد وقف هذا الفيض مطلوب ويجب أن يكون بمستواها أيضًا. يجب دفع هذا الدفع ورفع هذا المنع وتحطيم هذا السد الذي يريد أن يحول دون وصول هذا الفيض.

 

ولأنّ الفيض مطلق فلا بد أن يكون الدفع كذلك، لكي يتناسب مع سريانه. يأتي الدفع مع الفيض لجرف كل ما يمكن أن يمنعه من الانتشار. وهذا الدفع هو الغضب الإلهي الذي يصاحب رحمته المطلقة.

في النهاية سيكون الغضب المطلق نصيرًا للفيض المطلق، أما هذا العالم الأرضي فهو محل ظهور بعض مراتبهما الدانية. هناك عالم آخر يتسع لظهورهما المطلق والكل يعلم ما هو. أما الغضب البشري فهو أحد مظاهر هذا الغضب وأكثره فاعلية، حتى إنّه يفوق غضب الكون والطبيعة تأثيرًا.. العالم بحاجة ماسة إلى هذا الغضب الإلهي الذي يتجلى على يد الإنسان. فالإنسان أشد مكرًا وأقوى تدبيرًا من غيره من مخلوقات العالم.

هذه هي الصورة الشاملة للواقع الذي لا بد للبشر أن يتواجدوا فيه، ولا يمكن لأي أحد أن يُبدّله. إنّها الدنيا التي تُمثّل ساحة الابتلاء والممر الحتمي والمزرعة الوحيدة للآخرة. ولذلك كان على هذا العالم أن يصبح محلًّا لظهور أنواع الغضب. نراه أحيانًا سابقًا للرحمة إن نظرنا إلى ظاهر الدنيا، لكنّنا سنراه تابعًا لها إن نظرنا إلى باطنها.

 

ويبدو أننا سنحتاج إلى الكثير من الغضب من أجل نيل هذه الرحمة التي تظهر في مرائي الجمال والخير والكمال والسلام. ولكل من هذه الخيرات مظاهر في عالم الدنيا.

وإنما ينبعث الغضب نتيجة الاستياء من وضعٍ ما، ثم يتفاعل ويتراكم فيحرّك الغضبان لدفعه ورفعه وإزالته. وحين يُخطئ هذا المستاء في تشخيص هذا الوضع ومعرفة حقيقته، فقد يدفع بغضبه هذا خيرًا كثيرًا كان يظنّه شرًّا. هذا هو غضب أكثر الناس الذين لا يعلمون. ولذلك كانت الدعوة العامة إلى نفي الغضب ورفضه ومواجهته. أما العالمون الذين يميزون بين الخير والشر في كل قضية، فإنّهم لا يستاؤون إلا من الشر الواقعي، فإذا غضبوا دفعوه وأزالوه.

إن كنت تعلم أنّ ذاك الشخص يتحرّك على طريق الضلالة تطلب منه التوقُّف والجمود، لا لأنّ الحركة مضرّة، بل لأنّه يسير على غير طريق الهدى.

 

فقبل ترويض القوة الغضبية لا بد من معرفة الخير والشر والتمييز بينهما وهذه هي الحكمة والتعقُّل. وبعدها يجب الحفاظ على هذه القوة وإيصالها إلى أعلى المستويات الممكنة، لأنّها أفضل خادم للرحمة. فالاستياء والألم والحزن والغم والتعاسة لا تأتي من الغضب نفسه، بل من استعمال الغضب في غير محلّه، حيث يخسر الإنسان ذلك الخير الـمُفاض عليه، بدل أن يطرد الشر الحائل دونه.

أولئك الذين تصوّروا الغضب (في أي درجة من درجاته) أنّه سبب تعاسة الإنسان في الدنيا يبدو أنّهم لم يُفرّقوا ما بين الخير والشر ولم يتمكّنوا من اكتشاف مظاهرهما في شؤون الحياة وتفاصيلها. فتراهم يقولون إنّ حب الإنسان للرئاسة هو سبب تعاسته، لأنّه حين لا ينالها يستاء ويحزن ويغضب. وإنّما يبدأ الغضب من الاستياء ويغلي ويجيش حتى يصل إلى الحقد والانتقام الذي يأكل صاحبه قبل غيره. لكن لو عرف هؤلاء ما في الرئاسة من خيرات لما نفوها من أصلها، مثلما فعلوا مع المال والثروة وكل إمكانات هذه الدنيا وخيراتها.

إن الذي يحب الرئاسة لأجل نشر الخير في عالمه لهو عاشقٌ للخير. وإن الذي يحب المال لأجل ما فيه من إمكانات لتحصيل الكمال لهو شديد الحب للخير. وحين يحزن هذا الإنسان بسبب عدم وصوله لهذا الخير ومن ثم يتفاعل حزنه ليصير غضبًا يحرّكه لانتزاع الرئاسة من أجل الخير الموجود فيها، يكون قد قدّم خدمة جليلة للبشرية وجلب لها المنافع العظيمة. وهذا ما ينطبق على كل خير في هذا العالم.

 

ولا شك بأنّ الشيطان كامن للإنسان كالنفس الأمّارة التي تزيّن لصاحبها ذلك الشر الكامن في الرئاسة ليصبح خيرًا في نظره، فيصبح السعي نحوها عاملًا للشر ويكون فيها ضرر عظيم. فالشر في الرئاسة يتمثل في استعمالها الخاطئ حيث يتم كبت الخيرات في هذا العالم. أما الرئاسة الصحيحة فهي أعظم نفعًا من أي شيء يعرفه المجتمع البشري.

إن المساعي المحمومة للبشر من أجل الوصول إلى كل هذه المشتهيات والآمال إنّما تنبع من ذلك الحب الشديد للخير المودع في فطرتهم. وبسبب هذا السعي فقط تتقدم البشرية على طريق الكمال والخير وتنال الرحمة وتستقبل ذلك الفيض. ولو فرضنا أنّ البشر توقفوا عن هذا السعي بحجّة ما فيه من تعاسة وشقاء، لفقدت البشرية المغزى من وجودها على هذه الأرض.

الدعوة لترك هذا السعي من أجل تحقيق السلام النفسي والطمأنينة والسكينة الداخلية والخلاص من التعاسة لا تجلب للبشر سوى المزيد من التعاسة والشقاء. فلا ننسيَنَّ أنّ الخير العميم لا يصل إلينا إلا بفضل وجود هذا الدفع وهذه القوة الغضبية وهذا الاستياء وهذا الحقد أيضًا.

 

لو فقد المؤمنون في هذا العالم قوة حقدهم لخسروا الطاقة الأولى التي بها يدفعون الشر عنهم وعن غيرهم. فليس المطلوب القضاء على الغضب بل توجيه الغضب. ولا يتغذّى الغضب إلا من وقود الآمال والرغبات والمشتهيات. لذلك كان إصلاح الغضب بعد إصلاح الشهوات. فإذا أردنا الغضب الإلهي يجب أن نتوق إلى الرحمة الإلهية، وإذا أردنا النار على الفجار وجب أن نشتاق إلى الجنة.

لا شيء يمكن أن يغذي فينا قوة الغضب ويوجهها بالاتجاه الصحيح مثل اشتهاء الجنة.

حين يشتاق المؤمنون إلى الوضع المثالي في هذا العالم سيحصلون على تلك القوة الغضبية المناسبة لمواجهة الأشرار فيه. وستبقى الشهوة مصدر الغضب وغذاءه الوحيد. ومن دون الشهوة لا معنى للإنسان.

إن معظم أسباب الكآبة في النفوس لا ترجع إلى عدم وصول أصحابها إلى مشتهياتهم، بل لافتقارهم إلى القوة الغضبية اللازمة لدفعهم نحو هذه المشتهيات. ولذلك تجد الكآبة أكثر انتشارًا بين أصحاب النفوس الضعيفة، وهي تترعرع وتتغذى من عقد الحقارة والضعة.

 

للخلاص من التعاسة والتحرر من الكآبة نحتاج إلى الغضب الشديد الذي يُحرّكنا نحو تلك المشتهيات الحقيقية عبر إزالة الموانع التي تقف على طريقها. وحين نتعرف على هذه المشتهيات ونميّز بينها، نتعرف على مراتب الغضب فنختار ما يناسب أعلى المشتهيات. وهكذا نحصل على أقوى قوة دافعة في هذا العالم.

لم يكن غريبًا أن يدعو الإمام زين العابدين عليه السلام للمجاهدين في سبيل الله والمرابطين على الثغور بهذا الدعاء وهو يريد لهم ذلك البأس الشديد حيث قال: "واجعلِ الجَنّةَ نُصْبَ أعْيُنِهِمْ، ولَوِّحْ منها لأبصارِهِمْ ما أعدَدْتَ فيها من مساكِنِ الخُلْدِ ومنازِلِ الكرامةِ والحُورِ الحِسانِ والأنهارِ الـمُطَّرِدةِ بأنواعِ الأشرِبةِ، والأشجارِ الـمُتَدَلِّيةِ بصُنوفِ الثَّمَرِ، حتى لا يَهُمَّ أحدٌ منهُمْ بالإدبارِ، ولا يُحَدِّثَ نفسهُ عن قِرْنِهِ بفِرارٍ".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد