إنّ ثقافة كل شعب هي التي تجعله مميّزًا وتعطيه هويّته الخاصّة. فإذا أراد هذا الشعب أن يحافظ على هويّته وتميّزه، يجب أن يحفظ ثقافته ويبقيها حيّة فاعلة في سلوكه اليومي وفي مواقفه الكبرى.
إنّ الانسحاق أمام الغرب والرّغبة الشديدة بتقليده واتّباعه هو تعبير عن ضعف حضور الثقافة الذاتية. وحين يخرج الشعب عن ثقافته ويتخلّى عنها، فسوف يتّجه نحو خسارة وفقدان العناصر التي تمنحه الاستقلال والتعبير عن إرادته الذاتية وعن حرّيّته. ولا يوجد كارثة أوخم وأشدّ بالنسبة لأي شعب من فقدان استقلاله.
وفي عالمٍ تسود فيه شريعة الغاب كعالمنا، حيث يأكل الكبير الصغير، والقويّ الضعيف، وتسعى الدول المقتدرة لإحكام قبضتها وهيمنتها على غيرها من الدول والشعوب، فإنّ أي مجتمع يفقد استقلاله سيكون لقمة سائغة لها، كالشارد من الغنم وسط قطيعٍ من الذئاب.
لا يعرف الغرب ما هي الرحمة الثقافية، إلّا إذا كانت تخدم أهدافه. فتراه يسارع إلى الدفاع عن أي ثقافة تبرز داخل المجتمعات المسلمة، طالما أنّها تؤدي إلى تنازع المسلمين وإضعاف ثقافتهم وتشتيت أمرهم، وإن كانت ثقافة الأقليّة.
فلا ينبغي أن نتوقّع من هذا الغرب المستكبر أن ينبري للدفاع عن ثقافتنا الإسلامية، التي شكّلت هويّتنا ومنحتنا بعض استقلالية وهامشًا من الحرية؛ بل نجده يعمل بكل إمكاناته للحط منها ومحاربتها وإبرازها كنقيض لثقافته وقيمه ومصالحه، حتى يعمّق في نفوس أتباعه مبدأ الخوف من الإسلام أو الإسلاموفوبيا.
لا تبقى الثقافة ولا تحيى بالكتب والنصوص، بل بالقلوب والنفوس. فما لم تنعكس الثقافة في سلوكيّات الناس وأعمالهم وأدبيّاتهم وتعبيراتهم وفنونهم، فسوف تؤول إلى الضعف والزوال.
ولثقافتنا الإسلاميّة الأصيلة مصادر ومنابع، تغترف منها وتنهل. لكنّ ذلك كلّه يجري عبر الناس وبواسطة تفاعلهم معها. هذا التفاعل الذي يعبّر عن نفسه بمختلف الأشكال والأساليب. وعلى رأس هذه التعابير تقف تلك الأعمال العلميّة والأدبية والفنية، التي تحكي عن نوع من التعظيم والتقدير والتمجيد.
إنّه ذلك التعظيم الذي يبقي الثقافة حيّة وفاعلة في نفوس الناس، ليس غير. فلو أُنجزت مئات الأعمال العلميّة حول تلك المصادر دون أن تتّخذ صورة التعظيم، فلن تكون عاملًا مساهمًا في حياة الثقافة التي تولّدت منها. تمامًا مثلما يفعل الباحثون في المخطوطات أو الآثار، حيث يحافظون عليها أو يطّلعون على محتوياتها أو يوثّقونها.
صحيح إنّ لهذا النوع من الأعمال أهمّيته ودوره، إلّا أنّ الذي ينشر قيمَ ثقافةٍ ما، في أيّ مجتمع، هو استقبال أبنائه لهذه القيم بروح التعظيم والافتخار، والذي يُفترض أن يتجلّى في إبداعاتهم وأعمالهم المميّزة، التي يبذلون لها الغالي والنفيس وزهرات العمر.
لقد سلك الناس عبر التاريخ أسلوبًا معروفًا للتعبير عن افتخارهم بأي شيء من خلال الأدبيّات والفنون والنتاجات العلميّة التي تدور حوله. وكلّما اتّسع نطاق حضور هذه الأعمال الافتخارية في أيّ مجتمع، اشتدّ حضور ثقافته وتعزّز. فإذا عبّر شاعر ما عن بعض القيم المميّزة في ثقافته بملحمةٍ شعريّة، واستقبل الناس عمله هذا بكلّ ترحاب، وأعربوا عن ذلك بحفظها وتداولها ونشرها، واحتفوا بصاحبها وقدّروه، فسوف تكون هذه الملحمة عاملًا مهمًّا في حفظ وترويج تلك القيم والثقافة التي تضمّها. وفي هذا دلالة واضحة على تعظيمهم لثقافتهم وتمسّكهم بها.
إنّ المجتمع الذي لا يقدّر، الذين يعبّرون عن أصول ثقافته ومبادئها وقيمها، ولا يحتفي بهم ولا بأعمالهم ولا يتطلّع إليها، هو مجتمعٌ في طور التخلّي عن ثقافته والانخلاع منها. وإنّ أي عمل يساهم في تقوية هذه الذهنيّة لهو خيانة كبرى للمجتمع ومصيره، مهما كانت مبرّراته.
لقد سلك أصحاب القرار في العديد من المجتمعات البشريّة المعاصرة طريقًا ذكيًّا حين آمنوا بأنّ أفضل أساليب ترويج الثقافة يكمن في الاحتفاء بكلّ من يعبّر عنها، وفي تقدير أعمالهم وتسليط الضوء عليها وترويجها. وهذه هي المسؤوليّة الأولى لوسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعيّ.
وفي المقابل، نجد تلك الغباوة السياسيّة التي تنبع من مجموعة من الأفكار الخاطئة والعقد النفسيّة، التي تهيمن على أصحاب القرار والإمكانات في بعض المجتمعات، فتؤدّي إلى تراجع ثقافته، رغم ما تمتلكه من عناصر القوّة والتفوّق والعلوّ؛ فتظهر هذه الغباوة بسبب اعتقاد هؤلاء أنّ النصوص الأساسيّة والمصادر الأولى كافية لترويج الثقافة ولا تحتاج إلى عملٍ آخر. فما دام القرآن موجودًا بين الناس ـ بحسب زعمهم ـ فهذا يعني أنّ ثقافة الإسلام بألف خير؛ أو ما دامت نصوص أئمّة أهل البيت منتشرة عبر الكتب فلا حاجة إلى أي شيء آخر. وتظهر هذه الغباوة أيضًا باعتقاد هؤلاء المتمكّنين، بأنّه لا يجوز تقدير أي عمل لا يكون أصيلًا مئة بالمئة (أي معصومًا عن الخطأ تمامًا)؛ وتظهر كذلك بالخوف من الترويج لأشخاص يمكن أن يصبحوا منافسين لهم في مناصبهم أو يصبحوا مؤثّرين في المجتمع ممّا يشق عصا المسلمين (وهي العصا التي يحملونها هم ويضربون بها الثقافة ضربًا مبرحًا).
فما لم يتفطّن أصحاب القرار والإعلاميّون ومدراء الوسائط الإعلاميّة إلى ضرورة تقدير المبدعين وأهمّيّة الترويج لأعمالهم المتفاعلة مع أصول الثقافة ومصادرها، (تلك الأعمال التي تحكي عن تعظيم وتفاخر وتفاعل إيجابيّ)، فلن يكون لثقافتنا قوّة الحضور الذي يتمكّن من مواجهة غزوات ثقافة الغرب المنحطّة.
الشيخ جعفر السبحاني
السيد عباس نور الدين
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد هادي معرفة
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ فوزي آل سيف
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مبدأ التّشيّع وتاريخ نشأته
السر المفقود للنهوض بالمجتمع
زمانيّة التّنظير وجغرافيّته
صور علومنا الذهنيّة (1)
دنيا عليّ عليه السّلام (1)
مقاطع تراثيّة للفنّان علي الجشّي تستعيد ماضي المنطقة ذاكرةً وذكريات
مقارنة بين القرآن والنظريّات العلميّة
من فقه القرآن الكريم
القول بغير علم!
العادات الأربع لأكثر الناس نجاحًا في الحياة، محاضرة للقرقوش في مجلس الزّهراء الثّقافيّ