علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

بُرهان النّظم (2)


الشيخ جعفر السبحاني ..
وبعد ذكر الأَمثلة المتقدّمة يتَّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إِرادة وتدبّر، والتي تحدث عن طريق الصدفة، إِذ لا إرادة فيها ولا تدبر.
وهذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ضل التفكر والتعقل) هي روح برهان النَّظم الذي هو من أَوضح براهين الإِلهيين في إِثبات الصانع ورفض الإِلحاد والمادية، وأشملها لجميع الطبقات. وملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم، هو أَنَّ العلم لم يزل يتقدم ويكشف عن الرموز والسنن الموجودة في عالم المادة والطبيعة والعلوم كلها بشتى أَقسامها وأَصنافها وتشعبها وتفرعها تهدف إلى أمر واحد وهو أَنَّ العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أَدق الأَنظمة والضوابط، فما هي تلك العِلَّة؟ أقول: إنها تتردد بين شيئين لا غير.
الأول: إنَّ هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادة عالماً قادراً واجداً للكمال والجمال، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدق السنن، وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللامتناهية، أوجد العالم وأجرى فيه القوانين، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها، ومستغرقاً في تدوينها، وهذا المؤثر الجميل ذو العِلم والقدرة هو الله سبحانه.
الثاني: إِنَّ المادة الصَّماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، وليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإِجراء القوانين الدقيقة، وأَضفت على نفسها السُّنن القويمة في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مر القرون والأَجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أَدهش العقول وأبهر العيون.
إِذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم، وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أُولاهما وتبطل ثانيتهما لما عرفت من أنَّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأَثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلّة، فالسّنن والنُّظم تكشف عن المحاسبة والدقة، وهي تلازم العِلْم والشعور في العلَّة، فكيف تكون المادة العمياء الصمَّاء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن والنُّظم؟.
وعلى ضوء ذلك فالسُّنن والنُّظم، التي لم يتوفق العلم إِلا لكشف أَقل القليل منها، تثبت النظرية الأولى وهي احتضان العلَّة واكتنافها للشعور والعِلْم وما يناسبهما، وتبطل النظرية الثانية وهي قيام المادة الصَّماء العمياء بإِضفاء السُّنن على نفسهابلا محاسبة ودقة بتخيل أَنَّ انفعالات كثيرة، حادثة في صميم المادة، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان "الصدفة" أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها أَلسنة الماركسيين.
وعلى ذلك فكل علم من العلوم الكونية، التي تبحث عن المادة وخصوصياتها وتكشف عن سننها وقوانينها، كعملة واحدة لها وجهان، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها، ومن جانب آخر يعرّف موجدها وصانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أَنَّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى والعالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين ويجعل الأُولى ذريعة للثانية. وبهذا نستنتج أنَّ العلوم الطبيعية كلها في رحاب إثبات المقدمة الرَّابعة لبرهان النظم، وأَنَّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه وأدقّ الطرق، وأَنَّ الاعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العِلْم في جميع العصور والأَزمان.
وفي الختام نركز على نقطتين


الأُولى: إِنَّ القرآن الكريم مليْ بلفظة "الآية" و"الآيات"، فعندما يسرد نُظُم الطبيعة وسُنَنَها، ويعرض عجائب العالم وغرائبه، يعقبه بقوله: ﴿إِنَّ في ذلِكَ لآية لِقَوْم يَتَفَكَّرُون﴾ أَو (يذَّكَّرون) أَو (يَعْقِلُونَ) إلى غير ذلك من الكلمات الحاثة على التفكر والتدبر، وهذه الآيات تعرض برهان النَّظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة، بدلالة آيوية1. مشعرة بأَنَّ التفكر في هذه السنن اللاحبة والنظم المحيَّرة يكشف بوضوح عن أَنَّ جاعلها موجود، عالم قادر، بصير ومن المحال أَنْ تقوم المادة الصمّاء العمياء بذلك. ولأجل أَنْ يقف القارئ الكريم على بعض هذه الآيات نشير إلى ما ورد في سورة النحل في هذا المضمار:
1ـ قوله سبحانه: ﴿يُنـبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ﴾(االنحل:11).
2ـ قوله سبحانه: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَذَّكَّرُونَ﴾(النحل:13).
3ـ قوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَسْمَعُونَ﴾(النحل:65).
4ـ قوله سبحانه: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَ الأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَعْقِلُونَ﴾(النحل:67).
5ـ قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:69).


الثانية: إِنَّ برهان النَّظم وإِنْ كان يعتمد على مقدمات أَربع غير أَنَّ الثلاثة الأُول مما اتفق فيه جميع العقلاء إلاّ شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجية. وإِنما المهم هو التركيز على توضيح المقدمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعية والفلكية وغيرها التي تعد روحاً وأَساساً لتلك المقدمة. وفي هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين والمكتشفين: يقول "كلودم هزاوي" مصمم العقل الإِلكتروني: طلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية، تستطيع أَنْ تحل الفرضيات والمعادلات المعقدة ذات البعدين، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الالكتروميكانيكية، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو "العقل الالكتروني".
وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل، وتحمل شتّى المصاعب وأَنا أَسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليَّ أن أتقبل هذه الفكرة وهي أَنَّ الجهاز هذا، يمكن أَنْ يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم.
إِنَّ عالمنا مملوء بالأَجهزة المستقلة لذاتها والمتعلقة بغيرها في الوقت ذاته، وتعتبر كل واحدة منها أَعقد بكثير من العقل الإِلكتروني الذي صنعته، وإِذا استلزم أَنْ يكون للعقل الالكتروني هذا مصمم فكيف يمكننا إِذن أَنْ ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة وأعمال فيزيائية وتفاعلات كيميائية، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون والذي أنا جزء حقير منه2.
والعجب من الفرضية التي يعتمد عليها الماديون خلفاً عن سلف، ويقولون بأنّ الانفعالات اللامتناهية اللاشعورية انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع.
يقول البروفسور "أَدوين كونكلين" في حق هذه النظرية: إِنَّ هذا الافتراض لا يختلف عن قولنا: "إنَّ قاموساً لغوياً ضخماً أَنتجته المطبعة إِثْر انفجار فيها".
إِنَّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبأون بحركة السيارات والأَقمار الفلكية، والتعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية.
إِنَّ وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى، لدليل واضح على أَنَّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد وأسس معينة وأنّ هناك قوة عاقلة، مهيمنة عليه، ولا يستطيع كل من أوتي حظاً من العقل أَنْ يعتقد بأَنَّ هذه المادَّة الجامدة الفاقدة للحس والشعور "وفي إِثْر الصدفة العمياء" قد منحت نفسها النظام، وبقيت ولا تزال محافظة عليه3.
إِنَّ هناك مئات الكلمات حول تشييد برهان النَّظم وعرضها بشكل أَدبي، علمي، موافق لروح العصر، وقد اكتفينا بعرض هذا المقدار.
1- الآيوية: منسوب إلى الآية، وهي دلالة خاصة إبتكرها القرآن الكريم وراء سائر الدلالات التي كشف عنها المنطقيون في أبحاثهم العلمية، والمراد من الدلالة الآيوية هو ما ركَّزنا عليه من أَنَّ التعمق في الأَثر والتدبر في خصوصياته، يهدينا إلى وجود المؤثر وخواصه، ففي تلك الدلالة، الآية ملموسة ومحسوسة، وإِنْ كان ذو الآية غير محسوس ولا ملموس.


2- العلم يدعو للإِيمان، ص 159.
3- المصدر السابق نفسه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد