أول ملاحظة في فقه فدك، أنه بعد أن أخذ الخليفة الأول فدكاً، ذهبت فاطمة عليها السلام تطالب بحقّها، قالت إنها نحلة من والدي، فطلب منها الإتيان بالشهود، وهذا أول الأخطاء من الناحية القانونية، فإن الإسلام لا يطالب صاحب اليد [1] والذي هو مالك الشيء بالإتيان بالشهود، بل من يدعي خلاف ذلك يطالب بالشهود، وإلا لما بقي نظام اجتماعي للملكية الشخصية! حيث سيطالب ساكن البيت بالإتيان بشهود، وصاحب السيارة بشهود... ولعل السيدة الزهراء أرادت أن تبين للأمة أن الخلافة لا تفقه مبادئ الأحكام وأسس القضاء.
تَنَزّلًا أتت فاطمة بالشهود، وكما قال الشاعر: فأقامت بذا شهودا فقالوا، بعلها شاهد لها وابناها..
جاءت بعلي وبأم أيمن وبالحسنين، فردت شهادتهم. هذا مع أن «علي مع الحق والحق مع علي». ومع شهادة النبي لأم أيمن أنها من أهل الجنة [2] والحسنان سيدا شباب أهل الجنة وقد قبل رسول الله شهادتهما (رغم صغر سنهما) كما دون في بعض الوثائق والكتابات. لم يقبل ذلك ونزعت فدك منها بذريعة أنها ليست نحلة، بالرغم من يد الزهراء عليها، مع أن عاملها فيها، ومع الشهود المذكورين.
جاءتهم عليها السلام أيضاً من منطلق الوراثة، حيث الزهراء عليها السلام الوارث الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله من أولاده (ذكورًا وإناثًا) فلما كانت فدك قد فتحت من غير قتال، ودخلت في ملك النبي الخاص، فبمنطق الوراثة تكون ملكاً لفاطمة.
هنا توجد مغالطة من قبل البعض: حيث يدعون أنه لدينا -المذهب الاثنا عشري- النساء لا يرثن من الأرض، والصحيح أن الزوجة لا ترث من الأرض وإنما ترث مما على الأرض. البنت ترث من كل شيء. فهذا الذي يقال هو حجة للإمامية لإخراج زوجات النبي من ميراث الأرض، ولا يكون حجة عليهم.
هنا استشهد الخليفة الأول بحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركناه فهو صدقة». وقد ذكر العلماء من السنة والشيعة على أن ناقل هذا النص هو الخليفة الأول، لم ينقله أحد غيره. هنا يستغرب الكثير ومنهم من علماء مدرسة الخلفاء، أن الأشخاص الذين ينبغي على النبي أن يبلغهم هذا الحديث هم العباس عمه وعلي وفاطمة، فلِمَ سمعه الخليفة الأول دونهم؟.
وفي الحديث ملاحظات سنَدية ودلالية، وقراءات مختلفة تغير كلُّ قراءةٍ المعنى بنحو يختلف تمامًا عن القراءة الثانية... في مقابل ذلك واجهت الزهراء عليها السلام كلام الخليفة بآيات القرآن المحكمات وسيرة الأنبياء المذكورة وهي قائمة على الوراثة، بنحو العموم وأنه يشملهم ما يشمل غيرهم، وأيضًا استشهدت بخصوص وراثة الأنبياء بعضهم لبعض، وأن النبي لا يغير في ذلك ولا يخالف آيات القرآن الكريم.. لكن كل ذلك الكلام والاستدلال لم يؤثر في تغيير موقف الخلافة.
فهي في البداية وجهت الخطاب لجميع المسلمين داعية إلى الاحتكام للقرآن ومنكرة عليهم الإعراض عنه.
«فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم؛ أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون، أم بغيره تحكمون؟ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}»[3].
ثم خاطبت الخليفة خصوصًا بآيات الميراث «أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئًا فريًّا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، وقال: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}، وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وقال:{إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}».
«وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا؟! أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: أن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك؛ فنعم الحكم الله، والزعيم محمد صلى الله عليه وآله، والموعد القيامة» فهي عليها السلام قد أوردت آيات الميراث التي تثبت بعمومها أو إطلاقها أن حكم الميراث شامل للأنبياء ولغيرهم، في مثل يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فهذا الخطاب كما يشمل عامة الناس يشمل النبي صلى الله عليه وآله، وهكذا قوله تعالى {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡض} فهو يشمل النبي وغيره، وقد يقال بأن الحديث الذي نقله الخليفة مخصص لآيات القرآن فيمكن أن يأتي حكم عام في القرآن وتأتي السنة لكي تخصصه، فليكن هذا الحديث مخصصًا لآيات القرآن في موضوع الأنبياء بأن يكون كل أحد يرث من وارثه إلا الأنبياء فإنهم لا يرثون ولا يورثون.. فردت الزهراء عليها السلام على هذا الاحتمال بأن أوردت آيات القرآن الخاصة بميراث الأنبياء أنفسهم خاصة مما ينفي هذا التوجيه بالكامل فاستشهدت بآية ميراث سليمان من داود وميراث يحيى من زكريا! فهذه الآيات تكذب ما قيل من أن الأنبياء هذا شأنهم أن لا يرث بعضهم بعضًا! ولم يقل الحديث المنسوب للنبي محمد أنا هكذا وإنما قال بحسب ذلك الحديث نحن معاشر الأنبياء وهذا ما تكذبه آيات القرآن.
وبالرغم من أن بعض المدافعين عن (خطأ) الخلفاء حاولوا تفسير هذه الآيات بأن المقصود منها هو وراثة العلم والنبوة دون المال والمتاع إلا أنه دفاع هزيل فهو إخراج اللفظ عن معناه الحقيقي من دون مبرر ولو فتح الباب لهذا لضاعت الأحاديث ومعانيها بل القرآن وأحكامه إذ لا يحمل اللفظ على غير معناه الحقيقي إلا لعدم إمكان ذلك لسبب من الأسباب وليس منها تنزيه الخليفة!! على أن هذا الحمل في نفسه غير ممكن فمتى كانت النبوة والعلم بالوراثة؟ لو كانت كذلك لورث العلم والنبوة ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه، وابن نوح الذي هو (عمل غير صالح)، وهكذا! إن النبوة اختيار الهي خاص لا يحصل لشخص لأن أباه فلان فلم يكن والد سيد الأنبياء نبيا، ولا العلم يحصل لشخص لأن والده كان عالـمًا! فلا معنى لأن يرث يحيى النبوة او العلم من أبيه زكريا أو سليمان من داود!
بل إنها عليها السلام أشارت بشكل غير مباشر إلى التشكيك في صدور هذا الحديث؛ فإنها أكدت أن النبي وعليًّا عليهما السلام أعلم منكم بخصوص القرآن ولا مجال للمقارنة بينكم وبينهم، وهم لم يعملوا بما يدعى من تخصيص القرآن بالحديث! بل ترقت فوق ذلك بالقول إلى أن هذا الحديث المدعى يخالف القرآن ويصادم أحكامه فمن يزعم صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله يقول بوعي أو غير وعي أن النبي يخالف أحكام القرآن ويرغب عن آياته! وتعجبت باستغراب من دعوى ذلك فقالت: «سبحان الله! ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله عن كتاب الله صادفًا ولا لأحكامه مخالفًا! بل كان يتّبع أثره، ويقفو سوره. أفتجمعون إلى الغدر اعتلالًا عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل في حياته [4].
وحتى تغلق عليها السلام الباب تمامًا على الاتجاه المخالف في الاستدلال أشارت إلى أنه لا يوجد بعدما تحقق المقتضى للإرث أي مانع منه إلا أن تزعموا أن ابنته على غير ملته والعياذ بالله فإن الكافر لا يرث من مسلم «أم هل تقولون: أن أهل ملتين لا يتوارثان أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبرسي، الاحتجاج ١/ ١٣٢: «جاء علي عليه السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهودًا أن رسول الله جعله لها وإلا فلا حق لها فيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين. قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل البينة، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهودًا، كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟ فسكت أبو بكر. فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك. فإنّا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه».
(2) الطبرسي، الاحتجاج ١/ ١٣١: «قالت فاطمة لأبي بكر: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله تعالى؟ فقال: هاتي على ذلك بشهود. فجاءت بأم أيمن، فقالت له أم أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال أم أيمن امرأة من أهل الجنة فقال: بلى. قالت فأشهد: أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ.
(3) الخوئيني، إسماعيل الأنصاري: الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (س) ١٣/ ١٩٨
(4) المصدر السابق 201.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
حيدر حب الله
الشيخ علي المشكيني
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان