مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

الإسلام والحرب على الخرافات (1)

غرة القول

إن الله سبحانه أرسل رسوله الكريم (ص) لأهداف عبّر عنها في جمل بدون إطناب أو تطويل، جملات في الجملة على رغم قصرها تحوي من المعاني الإلهية ما يستدعي وقفة جادة ومسؤولة في كشفها والتفصيل في بيانها. ومن بين تلك العبارات قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157). وظاهر الآية أن النبي الأكرم (ص) أزال عنهم ما كان يثقل كاهلهم وكسر سلاسل وأغلال كانوا قد أسروا بها.

لعل السؤال المبدئي الذي يستوجب الطرح: ما هي ماهية الأغلال والسلاسل التي كانت تمنع حرية العرب بشكل خاصّ، والإنسانية بشكل عام، في عصر النزول وفي كل الأزمان؟ هل هي أغلال وسلاسل من نوع تلك التي تقيِّد حرية الأسير عن الحركة؟!

من البديهي أن أغلالاً وقيوداً من هذا النوع لا حقيقة لها، ولكن الثابت أن أغلال الخرافات وقيود الأوهام والأساطير كانت تقيِّد العقل والفكر وتمنعه من التفكر والسمو نحو الكمال. ولعل قيوداً من هذا النوع أعظم درجة وأشد خطباً من أيّ قيد مادي؛ فالأسير وسط قيود الحديد إن كان سليم العقل ورشيد الفكر يرى في تلك القيود المادية مسألة وقت، يستطيع بعدها أن يحلِّق في فضاء الحرية ويشمّ عبقها؛ أما الذي كبل عقله وأسر فكره بالأوهام والخرافات فلا يزيده الزمن إلاّ هبوطاً وسقوطاً نحو الدرك الأسفل وبئس القرار. ووحده الفرد المتسلح بفكر يقظ ولبّ يعقل به، له القدرة على تحطيم قيود الأوهام والخيال وقيود الحديد والنار، لكنّ مَنْ أسرت نفسه أغلال الجهل والخرافات، فإنّ فعله وجهده كالذي يبني قصراً على الرمال، لا يزيده جهده إلاّ رهقاً.

 

يبين لنا القرآن الكريم في حشد من الآيات، الهدف الذي من أجله بعث الله نبيه الكريم (ص). وهو الهدف نفسه الذي يتوصل إليه من خلال دراسة تاريخية للجزيرة العربية في صدر الإسلام. فقد عمل النبي الأكرم (ص) طوال المسيرة الرسالية المباركة على محاربة الخرافات والأساطير الخياليّة، وتطهير الفكر والعقل البشري من صدئها، فكان يصرح أنه إنما بعث ليوقظ الفكر البشري ويهديه إلى مناحي التفكر السليم، لينمو ويرشد، ولن يتسامح مع الخرافات والأوهام ولو كان يُتخيَّل أنها تخدم انتشار دعوته. في الوقت الذي نجد العديد من الحكام والزعماء الذين لا تربطهم بشعوبهم سوى العروش وسلطة الرياسة لا يتورَّعون في استخدام أي أسلوب يضمن لهم الاستمرارية، ويوسع من ثرواتهم وإمبراطورياتهم، فمنطقهم الميكيافلية، حيث الغاية تبرِّر الوسيلة، وكثيراً ما تكون الخرافات والأباطيل والعقائد الخاطئة سلاحهم المفضَّل، تحت عناوين ومسمَّيات الشرع والقانون…. وإنْ خرج عليهم مَنْ يدعو إلى محاربة الخرافات ونبذ الأوهام فإنه؛ بحكم مخالفته لعقائد الأغلبية ومساسه بحرية المعتقدات، يحكم عليه في أحسن الأحوال بالتبعيد والنفي، ويسجَّل اسمه في ملف الخارجين عن القانون. بينما كان موقف الرسول الأكرم (ص) من الخرافات واحداً، ولم ينظر إلى تلك التي يتخيَّل أنها ستفتح له قلوب الناس، فالخرافات واحدة في ماهيتها، وواحدة في نوعها، تتطلب وحدة في الموقف: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُواْ} (المائدة: 8). لقد جهد (ص) طوال فترة حياته الشريفة أن يرشد الناس إلى أن يبنوا تفكُّرهم على الحقائق والواقعيات، وأن يكونوا عبّاد الحقيقة وعشّاقها، ولو كانت على حساب مالهم وجاههم. وتكفي مطالعة لبعض الأحداث في حياته التي تظهر أنه لم يسمح للخرافات في التواجد رغم بساطتها الظاهرية:

 

…لما هلك إبراهيم ابن رسول الله (ص) حزن عليه رسول الله (ص)، وذرفت عيناه دموع الحزن، وصادف أن انكسفت الشمس، فقال الناس: إنما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله (ص)، فلما وصل قولهم إلى مسامع رسول الله (ص)  صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «…إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفا أو أحدهما صلّوا، ثم نزل المنبر، فصلى بالناس الكسوف…»([1]). لقد تلاعب اللاتفكُّر بأذهان الناس، فظنوا لما رأوا جزع النبيّ وحزنه على ابنه الوحيد أن السماء بادلته الحزن، وكان من مظاهر حزنها له أن انكسفت الشمس ليعمّ الظلام الذي يرمز إلى الحزن. ولو كان شخصاً آخر غير المعصوم لكانت هذه فرصة ليوطِّد من علاقة الناس به، ويزيد من تقديسهم له، فما دامت السماء والشمس والقمر يحزنان، يبادلنه الإحساس، فأولى بالناس أن يعتقدوا به ويربطوا مصيرهم به، لكن النبي الأكرم (ص)، الذي جاء ليخاطب في الناس عقولهم وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، ما كان ليرضى أن تكون الخرافات واسطة بينه وبين القوم. لذلك بادر والخرافة طازجة إلى تكذيبها، وبالتالي وأدها في مهدها حتى لا تنتشر انتشار النار في الهشيم. ولم تنطلق محاربة النبي الأكرم (ص) لعبادة الأصنام، التي تجسِّد طغيان التفكُّر والاعتقاد الخرافيّ وأعظم مظاهره، بانطلاقة الرسالة، وإنما كانت تلك سيرته في تمام حياته، وقبل البعثة أيضاً، فكان وهو طفلٌ يرفض ما يراه من القوم في العكوف على الخرافات وعبادة الأصنام والأزلام، فقد روي أنه لما كان في سنّ الرابعة من عمره الشريف، وهو في حضانة مرضعته (حليمة) أراد يوماً أن يذهب برفقة إخوانه من الرضاعة إلى الصحراء، وتقول حليمة: إنها في الساعات الأولى من ذاك اليوم حمّمته، ودهنت شعره، ووضعت الكحل في عينيه، وحتى لا تؤذيه جنّ وعفاريت الصحراء عمدت إلى فصّ يماني وعلَّقته في عنقه، فما كان من النبيّ الأكرم (ص) وهو طفلٌ إلاّ أن نزعه من عنقه وتوجَّه إلى أمه (حليمة) قائلاً: مهلاً يا أماه، فإن معي مَنْ يحفظني([2]).

 

قيام معتقدات الجاهلية على الخرافات

مع بزوغ فجر الإسلام كانت البشرية جمعاء، قبائل وأقوام، لم يُستثنَ منها أهل وبر أو حضر، تبني معتقداتها على الخرافات والأوهام. لم يكن تمدُّن اليونان أو الساسان، أو اطلاعها على بعض العلوم، قادراً على إخراجها من تلك الظلمات، شأنها شأن المجتمعات المتقدمة تكنولوجيّاً في الشرق أو الغرب، تسيطر عليها الخرافات والأساطير، حيث لم يستطع التمدُّن وما توصَّلت إليه من ثورة صناعية أن يحرِّر عقول الناس ممّا علق بها من الأوهام والخرافات. لكن إجمالاً نستطيع القول: إن الخرافات تنمو وتتكاثر كلّما كان مستوى التفكر العقلاني أضعف وأقلّ، فكلما تخلفت المجتمعات البشرية عن العلم والتفكر العقلاني، كان إقبالها على الخرافات والأساطير أوسع وأكبر. وقد رصدت كتب التاريخ التي اهتمت بتاريخ الجزيرة العربية العديد من الخرافات. وقد عرض صاحب كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب»([3]) تلك الخرافات مرفقة بشواهد من الشعر وغيره. وإن الفرد اليوم ليصاب بالصاعقة من هول تلك الخرافات وكثرتها. وقد كان توسع رقعتها مانعاً أمام كلّ أشكال التمدّن والتحضُّر. ولعل أحد أسباب كثرة تلك الأساطير وشيوعها غياب التفكر العقلي، حتى أنّ الأمّية كانت الصفة الغالبة على أهلها، حسب ما تذكره بعض الكتب التاريخية([4]). وقد كانت تلك المعتقدات الخرافية سدّاً منيعاً أمام الإسلام، لذا تصدّى لها النبي الأكرم (ص) طوال حياته المباركة، ولم يترك أيّ شكل من أشكال تلك المعتقدات والأفكار إلاّ وأعلن عليه الحرب. فلما أرسل معاذ بن جبل والياً على اليمن كان أوّل ما أوصاه به قوله: «…وأمِتْ أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كلّه، صغيره وكبيره…»([5]). فقد أمره أن يبيد كلّ مظاهر الجاهلية التي تبتني على الخرافات والأوهام، وأن يحيي ما ينطلق من العقل والتفكر العقلي؛ لأنه في حقيقته دعوة الإسلام.

وقد وقف النبي الأكرم (ص) أمام العديد من صناديد العرب، الذين تعبَّدوا طويلاً بالخرافات وأقاموا لها شعائر وطقوساً، حتى صارت ذاتية لهم، لا تنفكّ عنهم ولا ينفكون عنها، يردِّد لهم: «كل مأثرة في الجاهلية تحت أقدامي»([6])، بمعنى أن الإسلام أتى ليحرِّر البشرية من كل الخرافات، سواء كانت في المعتقد أو في السلوك، وكلّ خرافة هي قبيحة في ذاتها، حتى لو عدّت من المفاخر.

وإن ذكر بعض مظاهر الخرافة التي كانت سائدة في أوساط عرب الجاهلية حريّ بأن يبيِّن قيمة المعارف الإسلامية، التي حاربت كلّ ما يخالف العقل والفطرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) المجلسيّ، بحار الأنوار 22: 155 ـ 156، الطبعة الجديدة.

([2]) المصدر السابق 15: 392.

([3]) السيد محمد الألوسي، بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب 2: 286 ـ 369.

([4]) البلاذري، فتوح البلدان: 661.

([5]) تحف العقول: 25 ـ 26.

([6]) سيرة ابن هشام 3: 412.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد