علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (4)

الثالث: الممدُّ الأول أو العرش:

 

يذهب ابن عربي إلى وصف الموجود البَدئيّ بما وصفه به الخالق وأفاضه عليه من حُسن التدبير. فقد منحه من صفاته وأسمائه الحسنى الإمداد والرعاية. وعليه فقد أعطاه حقَّه من التنظير المخصوص على نحو يجعل منه مخلوقًا وخلَّاقًا في الآن عينه. يبيّن ابن عربي في هذا الموضع، أن ما أطلَقَ عليه بعض المحقّقين من أهل المعاني المادَّة الأولى، كان الأولى بهم أن يطلقوا عليه المُمِدّ الأول في المحدثات؛ لكنهم سمَّوه بالصفة التي أوجده الله تعالى لها. وليس بمستبعد أن يسمَّى الشيء بما قام به من الصفات. يضيف: وإنما عُبِّر عنه بالمادَّة الأولى فلأن الله تعالى خلق الأشياء على ضربين: منها ما خلق من غير واسطة وسبب، وجعله سبباً لخلق شيء آخر. ومنها وهو الاعتقاد الصحيح أنَّه تعالى أوجَدَ الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، خلافًا لمخالفي أهل الحقّ. والذي يصحُّ أن أول موجود مخلوق من غير سبب متقدم ثم صار سببًا لغيره ومادة له ومتوقّفًا ذلك الغير عليه على العقد الذي تقدَّم، كتوقُّف الشبع على الأكل، والريِّ على الشرب عادة؛ وكتوقُّف العالم على العلم، والحيّ على الحياة عقلًا وأمثال هذا؛ وكذلك كتوقُّف الثواب على فعل الطاعة والعقاب على المعصية شرعًا. فلمَّا لحظوا هذا المعنى سمَّوه المادة الأولى وهو حَسَنٌ، ولا حرج عليهم في ذلك شرعًا لا عقلًا[1].

 

لكن الشيخ الأكبر يكتفي بما عَرَضه قدماء الإغريق وسواهم في تعريف الموجود الأول، لذا سينتقل إلى أرض العرفاء حيث عبَّر عنه بعضهم بالعرش. والذي حملهم على ذلك أنَّه لما كان العرش محيطًا بالعالم في قول، أو هو جملة العالم في قول آخر، وهو منبع إيجاد الأمر والنهي، ووجدوا هذا الموجود المذكور آنفًا يشبه العرش من هذا الوجه أعني الإيجاد والإحاطة. فكما أنَّ العرش محيط بالعالم وهو الفلك التاسع [في مذهب قوم]، كذلك هذا الخليفة محيط بعالم الإنسان. ثم يومئ إلى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[2] على أنَّه في معرض التمدُّح لهذا المخلوق. فلو كان في المخلوقات أعظم منه لم يكن تمدُّحًا. فالعرش المذكور في هذه الآية هو مستوى الرَّحمن، وهو محلُّ الصفة؛ والخليفة الذي سمَّيناه عرشًا حملًا على هذا مستوى الله جل جلاله؛ فبين العرشين ما بين الله والرحمن، وإنه كان، فلا خفاء عند أهل الأسرار فيما ذكرناه[3]. وحد الاستواء من هذا العرش المرموز قوله: «إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته»؛ فالعرش الحامل للذات والمحمول عليه للصفة، فتحقَّق أيُّها العارف وتنبَّه أيها الواقف، وأمعن أيها الوارث، (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)[4].

 

الرابع: المعلِّم الأول والإمام المبيّن:

 

من صفات الموجود البَدئيِّ ما عبَّر عنه بعضهم بالمعلِّم الأول. والذي حملهم على ذلك أنه لما تحقَّق عندهم خلافته وأنَّه حامل الأمانة الإلهيَّة، ونسبته من العالم الأصغر نسبة آدم من العالم الأكبر، وقد قيل في آدم(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)[5]؛ كذلك هذا الموجود، ثم خاطب الملائكة فقال:(أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [6] (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[7] فأمر الخليفة أن يعلّمهم ما لم يعلموا فأمرهم الله سبحانه بالسجود لمعلمهم [سجود أمر] كسجود الناس إلى الكعبة، كسجود أمر وتشريف لا سجود عبادة. وفي ما يعتبره سرًّا من أسرار الخواصِّ في فهم المخلوق الأول، يرى ابن عربي أنَّ سرَّ السجود هنا لا يمكن إيضاحه، وهو ما أشار إليه من قبل في «مطالع الأنوار الإلهيَّة»؛ وقد عبَّر عنه بعضهم بمرآة الحقِّ والحقيقة، ذلك أنَّهم لمَّا رأوه موضع تجلّي الحقائق والعلوم الإلهيَّة والحكم الربانيَّة، وأنَّ الباطل لا سبيل له إليها، إذ الباطل هو العدم المحض، ولا يصحُّ في العدم تجلٍّ ولا ظهور كشف، فالحقُّ كل ظهر. والسبب الموجب هو لكونه مرآة الحقِّ قوله: «المؤمن مرآة أخيه».[8] والأخوة هنا عبارة عن المثليَّة اللغويَّة في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[9]؛ وذلك عند بروز هذا الموجود في أصفى ما يمكن وأجلى ممكن ظهر فيه الحق بذاته وصفاته المعنويَّة لا النفسيَّة، وتجلَّى له من حضرة الوجود؛ وفي هذا الظهور الكريم قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[10]؛ فتأمَّل هذه الإشارة فإنَّها لباب المعرفة وينبوع الحكمة[11].

 

وينقل ابن عربي عن الشيخ العارف أبي الحكيم بن برّجان[12] وصفه الموجود البَدْئيُّ بالإمام المبين، وهو – حسب تأويل الشيخ الأكبر – الَّلوح المحفوظ [المعبر عنه بكلِّ شيء في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ)[13] وهو الَّلوح المحفوظ. والذي حمله على ذلك قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [14] ووجدنا العالم كلّه أسفله وأعلاه محصى في الإنسان فسمَّيناه الإمام المبين، وأخذناه تنبيهًا من الإمام المبين الذي هو عند الله تعالى، فهذا حظنا منه[15].

 

الخامس: المُفيض ومركز الدائرة:

 

من العرفاء من نعَتَ الموجود البَدئي بالمُفيض: وهو ما ورد عن أحد أساتذة ابن عربي العارف بالله أبو مدين شعيب التلمساني[16]– ومنهم من اعتبره «مركز الدائرة». والذي حمل هؤلاء على مثل هذا الاعتبار- كما يبين الشيخ الأكبر- أنَّهم لما نظروا إلى عدل هذا الخليفة في ملكه واستقامة طريقته في هيئاته وأحكامه وقضاياه، فقد سمَّوه مركز دائرة الكون لوجود العدل به، وإنما حملوه على مركز الكرة نظرًا منهم إلى أن كلَّ خط يخرج من النقطة إلى المحيط مساويًا لصاحبه رأوا ذلك غاية العدل فسمّوه مركز الدائرة لهذا المعنى. وأمَّا تأويل ذلك فإنَّ نقطة الدائرة هي أصل في وجود المحيط، ومهما قدَّرت كرة وجودًا أو تقديرًا فلا بدَّ من أن تقدر لها نقطة هي مركزها؛ فلا يلزم من وجود النقطة ووجود المحيط ووجود الفاعل من هذه الدائرة ورأس الضابط ولا دائرة في الوجود كان الله ولا شيء معه، وفخذاه يداه المبسوطتان جودًا أو إيجادًا؛ والفخذ المختصَّة بالنقطة يد المغيب والملكوت الأعلى، والفخذ المختصَّة بالمحيط يد عالم الملك والشهادة: فالواحدة للأمر والأخرى للخلق والله (بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)[17]، (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) [18]؛ فَيد المركز معرَّاة عن الحركة القاطعة للأحياز، ويد المحيط متحرِّكة؛ فتأمَّل نوَّر الله بصيرتك لهذه الإشارات، فقد مهَّد لك السبيل. ثم يختم ابن عربي حديثه في شأن هذا المخلوق الأول بقوله: ولو تقصّيت آثاره وتتبّعت خصائصه وأطلقت عليه [من ذلك] ألقابًا لما وسعها ديوان؛ فاقتصرنا في هذا الإيجاز على هذا القدر لندل بذلك على شرفه واجتبائه من بين سائر المحدثات.[19]

 

السادس: العينُ الثابتة وظهوُرها بالكلمة:

 

استنادًا إلى كونه معادلًا للأعيان الثابتة بما هي الوجود الكامن في مقام الألوهيَّة. فقد ثبت أنَّ المثنَّى لم يوجد من عدم. بل إنَّ فعل إيجاده متصل بكمونه وقابليَّته للظهور حالما يجيئه الأمر الإلهيّ. على هذا الأساس لم يكن ابن عربي ليصرِّح بما وصف به هذا المخلوق، لولا أنَّه استشعر منزلته المؤسّسة لعلم البدء. من أجل ذلك سيطلق على متعلِّق هذا العلم اسم الأعيان الثابتة. والأعيان الثابتة – على ما نتبيَّن من أعمال العرفاء- هي مفتاح الكثير من المعضلات التي واجهت النظريَّات الوجوديَّة. أمَّا فهمها فيقوم على أن عمل الخلقة لا يعني ظهور موجودات مستقلَّة إلى جانب الله تعالى. وإنّما هو عبارة عن تجلّي الحقِّ وتشؤّنه في صور الأشياء. وعليه فإنَّ صورة الأشياء لا تُخلق بواسطة الله، ما لم تكن موجودة فيه. فكلُّ شيء يظهر، إنما يظهر من شيء شبيه به.

 

يعتقد ابن عربي في هذا الخصوص أنَّ إنشاء الخلق يقتضي توفُّر طرفين: الأول هو الفاعل والذي عبارة عن أسماء الله. والثاني هو القابل والذي عبارة عن الأعيان الثابتة. والاثنان – أي الفاعل والقابل – موجودان في مقام الألوهيَّة، أي أنَّ الفاعل والقابل مجتمعان معًا: فإنَّه أعلى ما يكون من النسب الإلهيَّة أن يكون الحقُّ تعالى هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات فما ثم إلَّا وجود عين الحقِّ لا غيره؛ والتغييرات الظاهرة في هذه العين هي أحكام أعيان الممكنات فلولا العين لما ظهر الحكم، ولولا الممكن لما ظهر التغيير، فلا بدَّ من الأفعال من حق وخلق[20]. ويرى ابن عربي أنَّ هذه الأعيان موجودة بوجود الله من جانب، ومعدومة من جانب آخر لأنها تقبل الوجود. إذن فالخلق من العدم يعني الخلق من الأعيان الثابتة. وها هنا تظهر مفارقة الوجود والعدم. والأعيان الثابتة أشياء لا وجود لها في الخارج. صحيحٌ أنها تحظى بالشيئيَّة لكنها لا تتمتَّع بالوجود كوجود عينيّ وظهور في عالم الشهادة حتى يفيض عليها الله بأمر الإيجاد. وهنا بالذات يبطل ابن عربي وسائر العرفاء الإلهيون نظريَّة الخلق من عدم. وفي هذا الشأن يضيف الشيخ الأكبر “لأنَّ أعيان الموجودات معدومة وإن اتَّصفت بالثبوت، إلَّا أنَّها لم تتَّصف بالوجود[21]…

 

لأن العدم الثابتة فيه ما شمَّت رائحة من الموجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات[22]. أمَّا الأعيان الظاهرة فهي مظهر تلك الأعيان الثابتة. ويمكن القول على ضوء وحدة الظاهر والمظهر- إنّها نفسها. أي أنَّها الأعيان الثابتة الظاهرة التي ما زالت في البطون أيضًا. بتعبير آخر: إنَّ وحدة الحق والخلق لا يكون لها معنى إلَّا إذا كان أحد الطرفين معدومًا. والمخلوقات ليست سوى هذه الأعيان الثابتة التي قلنا إنَّها معدومة إلَّا أنَّها تتَّحد مع وجود الحقِّ في عالم الشهادة. وحسب ابن عربي، أنَّ الحقَّ يقول ما ثمَّ شيء أظهر اليه لأنّي عين كل شيء، فما أظهر إلَّا لمن ليست له شيئيَّة الوجود فلا تراني إلَّا الممكنات في شيئيَّة ثبوتها، فما ظهرتُ إليها لأنَّها لم تزل معدومة، وأنا لم أزل موجودًا فوجودي عين ظهوري، ولا ينبغي أن يكون الأمر إلَّا هكذا.[23]

 

يسوِّغ القائلون بالأعيان الثابتة مدَّعاهم الآنف الذكر بما أسَّس له الكتاب الإلهيُّ عن علم الله الأزليّ. فالله عالم مطلق، وعلمه غير محدود، وأزليٌّ، ولا يتغيَّر. ولديه علم بكلِّ شيء قبل ظهوره. كما أنَّ ماهيَّة العلم تكشف عن حقيقة المعلوم. إذن لا بدَّ قبل ظهور الخلقة، من وجود معلوم أزليٍّ لا يتغيَّر. ويعتقد ابن عربي بأنَّ الأعيان الثابتة هي هذا المعلوم، وأنَّها أيضًا علم الله الأزليّ الذي لا يتغيَّر طبقًا لوحدة العلم والمعلوم. وقد سمّيت بالثابتة لأنَّها لا تتغيَّر. وهو يذكر العديد من الآيات الدالَّة على حضور الأشياء عند الله، والتي تستخدم كلمة “عند”، مثل: (وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ) [24] آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا) [25] (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) [26] (وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُ) [27]

 

يرى الشيخ الأكبر أنَّ كلمة «عند» لا ظرف زمان، ولا ظرف مكان، كما أنَّها ليست «ظرف مكانة» في جميع الموارد، ولا بدَّ من أن تكون إشارة إلى تلك الأعيان الثابتة: إنه يخلق الأشياء ويخرجها من العدم إلى الوجود وهذه الإضافة تقضي بأنَّه يخرجها من الخزائن التي عنده فهو يخرجها من وجود لم تدركه إلى وجود تدركه فما خلقت الأشياء إلى العدم الصرف بل ظاهر الأمر أنَّ عدمها من العدم الإضافي، ذلك أنَّ الأشياء في حال عدمها مشهودة له يميّزها بأعيانها مفصّلة بعضها عن بعض ما عنده فيها إجمال[28].

 

عند العرفاء، إنَّ ظهور الموجود البَدئيّ هو حاصل فعل الحبِّ الإلهيّ. فالله فاعل بالحب، أي أنَّه خلق العالم من أجل الحب. ولأنَّه يحب العالم فقد تعلَّقت إرادته بالخلق. والعالم ليس سوى مظهر تفصيليّ له. وهذا أمر يؤيّده حديث الكنز الخفيّ الذي سيأتي تفصيله بعد قليل. فالمسألة هي أنَّ إرادة الايجاد تتعلَّق بشيء معدوم. وعليه لا بدَّ وأن يتعلَّق حب الله وإرادته في خلقة العالم بشيء ينبغي أن يكون شيئًا أولًا، ومعدومًا ثانيًا. وهذا ما يدلُّ عليه معنى العين الثابتة. وقد مرَّ معنا أنَّ الأعيان الثابتة تتعلَّق بإرادة الله، والله يطلب وجودها الخارجيّ[29]. يشرح ابن عربي الحديث القدسيّ في: «كنت كنزًا مخفيًّا لم أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرَّفت إليهم فعرفوني». يقول: ولما ذكر المحبَّة عَلِمْنا من حقيقة الحبِّ ولوازمه مما يجده المحبّ في نفسه. وقد بيَّنا أنَّ الحب لا يتعلَّق إلَّا بمعدوم يصحّ وجوده. وهو غير موجود في الحال والعالم محدث والله كان ولا شيء معه، وعلم العالم من علمه بنفسه فما أظهر في الكون إلَّا ما هو عليه في نفسه وكأنَّه كان باطنًا فصار بالعالم ظاهرًا[30].

 

وفي تأويله لقوله تعالى:(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [31]، يلاحظ ابن عربي أنَّ ذلك الشيء الذي يستمع أمر «كن» ويطيعه، ويظهر إلى الوجود بعد أن كان معدومًا، هو العين الثابتة، وهو ذاك الذي قصدنا به المثنَّى أو الموجود البَدئيّ والحقّ المخلوق به حسب وصف الشيخ الأكبر. والعين الثابتة التي تدلُّ على مجمل الأوصاف التي مرَّت معنا هي في حقيقة أمرها ذاتٌ وجوديَّة مهديَّةٌ وهادية في الآن عينه.

 

وعلى نحو ما تفصح عنه هذه المقاربة التأويليَّة ينوجد المثنَّى كعين ثابتة ثمَّ يظهر في عالم الإمكان كحاصل للمشيئة الخالقة من خلال تلازم ثلاثة أفعال إلهيَّة هي: الأمر والإرادة والكلمة. وهو ما نستدلُّ عليه من الآية التي وردت في سورة يس وأدَّت قصد الآية السابقة نفسه (إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [32]. فالآية هنا تشير إلى نظام مثلَّث الأضلاع ينتظم الفعل الإلهيُّ في إيجاد الموجودات. فالأمر فعل الإرادة، ولا إرادة لمجهول. والنتيجة أنَّ الشيء سابق في إيجاده على إيجاده الأمريّ، تمامًا كما يسبق الوجود الذهنيّ الوجود الواقعيّ في الصقع الربوبيّ. أمَّا الكلمة «كن» الواسطة الإلهيَّة التي ظهر بها عالم الوجود الإمكاني.

 

بذلك يكون فعل الكلمة انكشَفَ الله عن أمره وإرادته ليظهر المخلوق الأول كتجلِّ للأمر والإرادة معًا. ولعل السرَّ في جعل متعلّق إرادته سبحانه في «كن» هو استبعاد دخولها تحت توصيف «ما بالقوَّة – ما بالفعل» التي زخرت بها البحوث الميتافزيقيَّة في عالم الممكنات. أمَّا في بحوث العرفان فسنجد قراءة مفارقة مؤدَّاها: أن يكون ما بالفعل هو عين ما بالقوَّة تجاوزًا. لكن تحت حيطة ارادته المطلقة وبصورة الرسم انمحاء الواو في «كن» «تعبير» عن ذلك. فليس شيء بحاجة إلى كون ما دام في مخطوطة علمه للذي هو في الوقت ذاته إرادته. وبهذا يتبيَّن لنا أنَّ الحاصل الأنطولوجيّ للعلم والإرادة هو التجلِّي البَدئي الذي سمَّاه الحقّ تعالى «كن». ولذا فإنَّ هذه الكلمة الايجاديَّة هي الطريق بين الكون (ما دون الصقع الربوبي) وبين العلم في تعلق الإرادة. وبهذا المعنى تصير الإرادة وسيط العلم إلى الكينونة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– ابن عربي، محيي الدين – التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة- تحقيق: عاصم ابراهيم الكيالي الحسيني- الطبعة الثانية- دار الكتب العلميَّة- 2003- ص 22.

[2]– سورة طه، الآية: 5.

[3]– التدبيرات الإلهيَّة- ص 22.

[4]– سورة الأحزاب – الآية: 4.

[5]– سورة البقرة – الآية 32.

[6]– سورة البقرة – الآية 31.

[7]– سورة البقرة – الآية 32.

[8]– للحديث رواية أخرى هي: «المؤمن مرآة المؤمن» أخرجه أبو داود (أدب 49).

[9]– سورة الشورى – الآية 11.

[10]– سورة التين- الآية 4.

[11]– التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة- مصدر مرَّ ذكره- ص 23.

[12]– هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي (انظر ترجمته في فوات الوفيات 1/274، وفي الاستقصاء 1/129، وفي لسان الميزان 4/13، وفي مفتاح السعادة 1/44 وفيه وفاته 727 خطأ).

[13]– سورة الأعراف، الآية 145.

[14]– سورة يس- الآية: 12.

[15]– التدبيرات الإلهيَّة- المصدر نفسه – ص 24.

[16]– هو شعيب بن الحسن الأندلسي التلمساني 594 هـ – 1198 م)، أبو مدين، صوفي، من مشاهيرهم، أصله من الأندلس، أقام بفاس، وسكن «بجاية» وكثر أتباعه حتى خافه السلطان يعقوب المنصور، وتوفي بتلمسان، وقد قارب الثمانين أو تجاوزها. له «مفاتيح الغيب لإزالة الريب، وستر العيب». الأعلام 3/166، وجذوة الاقتباس 332، وشجرة النور 164، وشذرات الذهب 4/303.

[17]– سورة فصلت، الآية 54.

[18]– سورة مريم، الآية: 9.

[19]– ابن عربي- التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الانسانيَّة – المصدر نفسه – ص 27.

[20]– الفتوحات المكيَّة، ج 3- مرجع سبق الرجوع إليه في فصول سابقة- ص 211.

[21]– فصوص الحكم، ج1، ص 102.

[22]– المصدر نفسه، ج1، ص 76.

[23]– الفتوحات المكيَّة، ج 4، سبق ذكره- ص 8-9.

[24]– سورة النحل – الآية 96.

[25]– سورة الكهف – الآية 65.

[26]– سورة الأنعام – الآية 59.

[27]– سورة الحجر – الآية 21.

[28]– الكاكائي، قاسم – وحدة الوجود برواية ابن عربي وماستر ايكهارت – تعريب: عبد الرحمن العلوي – دار المعارف الحكميَّة – بيروت – 2018- ص 632.

[29]– لمزيد من التوضيح حول هذه النقطة راجع قاسم الكاكائي – وحدة الوجود برواية ابن عربي وماستر إيكهارت – مصدر سبق ذكره – ص 635.

[30]– الفتوحات المكيَّة، ج 2، ص 399.

[31]– سورة النحل – الآية 40.

[32]– سورة يس- الآية 82.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد