علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الفيزياء والبنية اللاشعورية في الفكر العلمي (4)

وقبل أن نقرر في نهاية هذه الورقة، أن الفكر البشري مهما قدمت العقلانية العلمية من تفسير، يهدم الأساس المتين التي يقوم عليه العقل الإنساني، فإن الواقع يقول لنا إن ثمة ممارسة علمية ضرورية تكشف عن عمق هذا البنيان ورسوخه في العقل، دعونا نستوقف عند النظرية الكمية، وندرس الآلية المتبعة في هذه النظرية والتي تنمّي معرفتنا بهذا العالم الكمي. وسنكتشف أن هذه الآلية هي تهميش لدور التجربة وانتصار للعقل الرياضي.

 

فيلسوف العلم (غاستون باشلار) يشير إلى هذا التطور الدرامتيكي في العلاقة بين العلم والمعطى الحسي- التجريبي مع بداية القرن العشرين. يفرق باشلار بين علم الأمس والعلم الحديث، فالقرون التي سبقت القرن العشرين كان العلم والفلسفة التجريبية يتحدثان لغة واحدة وكان الشعار فيها كما يقول: ”عودوا الأذهان الشابة على الارتباط بالمشخص والاهتمام بالحوداث، انظر كي تفهم”. سوف أقتبس من ورقة سابقة ذكرنا فيها الدور الثانوي للتجربة في تنامي معرفتنا بالعالم الكمي وأن الدور الأساس هو العقل الرياضي والبناء الأكسيومي الصوري.

 

“لقد ألغت الفيزياء الحديثة فردانية الجسيم، فلم يعد الحديث عن الجسيم إلا ضمن مجموعة ونحن لا نستطيع التعرف عليه إلا من خلال علاقته بالمجموعة. كما أظهرت الفيزياء الحديثة تداخلًا بين العقل والكائن وبين الموجة والجسيم. هذه الظواهر الجديدة والملتبسة أفضت إلى تناقض كبير مع الفلسفة التجريبية، إذ لم يعد المعطى الحسي في مثل هذه الظواهر هو القادر على إمدادنا بالمعلومات كما تزعم النزعة التجريبية. إذ أصبح المعطى الحسي في الميكروفيزياء وسيلة للتحليل الرياضي أكثر من كونه موضوعًا للمعرفة التجريبية. وبما أن الواقع غير قابل للتفرد كما أن القياس الدقيق عملية معقدة جدًّا فإن العالم سيعطي أهمية كبيرة لبنية العلاقات الرياضية التي تقوم بتوجية التجارب العلمية”. إذن نحن أمام منعطف ابستمولوجي جديد فرضته التطورات العلمية الحديثة في المجال الذري. ويتمثل هذا المنعطف في أن العقل العلمي يتطور نحو التجريد الرياضي، فالتصور العلمي الجديد للواقع هو تصور تحكمه البنيات الرياضية وليس الكائنات الفيزيائية.

 

يقول باشلار: ”إن الفكر الواقعي لا يستحدث من ذاته أزماته الخاصة، لم يحدث هذا قط. إن الاستثارة تأتية من الخارج دومًا وبالضبط من ميدان المجرد، الميدان الذي فيه تنشأ ومنه تنطلق. إن منابع الفكر العلمي المعاصر تنتمي إلى ميدان الرياضيات”… يرى باشلار أن هناك قطيعة بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية وأن العقلانية التطبيقية أو الفلسفة المفتوحة التي تعطي تصور للواقع العلمي من خلال علاقة شديدة الخصوصية بين الفيزياء والرياضيات يمكن أن تمد جسور القطيعة بينهما”.

 

أعطت النجاحات التي حققتها البنى الرياضية لفهم الواقع الكمي وفي الفيزياء الحديثة بشكل عام من خلال مجموعة من المبادئ التي يشكلها العقل وحده بعد أن يصطدم العلم بعقبات معرفية أو بعد أن تفشل نظرية في استيعاب معطيات جديدة تعزيزًا لدور العقل الرياضي وطرائق الاستدلال الاستنباطي على حساب التجربة وطرائق الاستدلال الاستقرائي.

 

في هذه البنى الرياضية يعمد العقل إلى تشكيل مبادئ أولية يحكمها منطق خاص وهي بذلك تكون الأساس الذي تقوم عليه البنى الرياضية التي تعطي عدد من النتائج ثم يأتي بعد ذلك المحدد التجريبي ليثبت صحة أو خطأ هذه النتائج. الفيزياء الحديثة تعتمد على هذا النمط من البناء الرياضي، الأكسيومي، الذي يبدأ بمجموعة من  فروض ومبادئ لم يعرف ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة وعلى ضوئها يتم بناء نسق رياضي محكم  ومنه يستخلص عدد من النتائج التي يتم التأكد منها عمليا في مرحلة لاحقه.

 

يقول العالم الفيزيائي بول ديفيدس: ”معظم الرياضيات الناجحة والقابلة للتطبيق اشتغل عليها رياضيون بصورة تجريدية قبل فترة من مرحلة تطبيقها في الواقع” (6، ص 62). في البناء الأكسيومي المرحلة التجريدية تسبق المرحلة التطبيقية ولا يوجد علاقه بينهما قبل مرحلة التطبيق. فنظرية التناظر الأعلى مثلاً supersymmetry في الفيزياء تم تأسيسها  على مجموعة من المبادىء التي اختيرت بعناية من أجل تجاوز العجز في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.

 

لقد تقدمت الفيزياء الرياضية كثيرًا، وقدمت تصورًا عن الكون. تحتاج التجربة ربما إلى عشرات السنوات حتى تتمكن من اختبار هذه النتائج المذهلة حقًّا. لقد قدم لنا التحليل الرياضي نظرية الأوتار التي تنظر إلى أن البنى الأساسية للكون هي أعمق بكثير جدًّا من الجسيمات النقطية بل أوتار تهتز بطرق مختلفة لتعطينا كل ما في الكون من مادة. وتقدم لنا النظرية أبعادًا إضافية غير مرئية، والكثير من النظريات التي هي نتاج نشاط رياضي تجريدي محض، ونحن بانتظار أن تتقدم التجربة لتواكب هذا التفوق الرياضي النظري.

 

وقبل أن نختم هذه النقطة لإثبات دعوانا في هذه الورقة والتي اوضحنا فيها أن الممارسة العلمية في الفيزياء الحديثة أعطت أهمية للعقل الرياضي وبنيته الأكسيومية على حساب التجربة، إلا أن ريتشارد موريس في كتابه حافة العلم يؤكد على هذا الدور فيقول: ”ولعله من الأمور المحتمة أن تصبح الفيزياء في يومنا علمًا أقل اتصافًا بالتجريبية …” (7، ص226) ويضيف إلى أنه بسبب التقدم في الفيزياء الحديثه ونظرياتها عن الكون لم يعد هناك حدود واضحة بين الفيزياء والميتافيزيقا:  ”لقد أمكن في وقت ما أن يطلق رذرفورد على الفلسفة أنها (كلام فارغ). وإني لأتساءل عمّا كان سيظنه بشأن الموقف الحالي في الفيزياء لو أنه كان حيًّا. ها نحن الآن وقد أصبحت الحدود ما بين الفيزياء والميتافيزيقا غير واضحة.  الأسئلة التي كانت تعد في عصر آخر أسئلة ميتافيزيقية تدخل الآن في المناقشات عن أصل الكون، وأصبح الفيزيائيون يتحدثون عن المبادئ الإنسانية التي يبدو أحيانًا أنها فلسفية أكثر منها علمية”.

 

يُعرّف محمد عابد الجابري في كتابه بنية العقل العربي النظام المعرفي داخل ثقافة ما على أنه “جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية بنيتها اللاشعورية”(8 ،ص 37). فالبناء المعرفي كما يستطرد الجابري يتضمن ثوابت ومتغيرات، والثوابت هي البنية العميقة الصلبة في النظام المعرفي والمتغيرات هي البنية الفوقية المؤسسة على هذه الثوابت والتي هي بنيته التحتية. وهذا البناء التحتاني هو البنية اللاشعورية التي لا يستطيع الفكر داخل نظام معرفي أن ينعتق من فضاءها ويمارس تفكيره من خارجها. ومن وحي تعريف الجابري للنظام المعرفي داخل ثقافة ما، نتساءل عن ما إذا كان يوجد في العقلانية العلمية مثل هذه البنية اللاشعورية وهي التي تدعي أن التجربة هي مصدرها المؤسس لمعرفتها العلمية والفلسفية للعالم، ولقد أثبتنا فيما سبق أن العقلانية العلمية تنفي أي إمكانية لوجود بنية عميقة صلبة تؤسس عليها المعرفة البشرية، لأنه لا يمكن لإحد كما قلنا أن يتنبى مسار المعرفة البشرية والمفاجاءت التي تكشف عنها التجربة في المستقبل. هذا هو المعنى الذي يمكن أن نحصل عليه بعد التأمل في كون العقلانية العلمية ترتكز على التجربة كحجر أساس في البناء العلمي/الفلسفي للعالم.

 

إن التفسيرات التي رافقت التطورات العلمية وخصوصًا في ميدان الفيزياء يشي بأنه لا يوجد ثوابت يمكن أن يؤسس عليها البناء الفوقي للمعرفة البشرية. إذا كانت التجربة ومفاجاءتها هي ما يمكن أن نعول عليه، فإن البشرية ستجد نفسها بدون ثوابت تؤمن لها، كلما تعثرت، صمام الأمان والقاعدة التي تتمكن من وضع قدميها عليها بكل ثبات من أجل معاودة الانطلاق.

 

العقل العلمي وإن ادّعى أنه لا يؤمن بأي معرفة خارجة عن التجربة وينفي وجود مبادئ أولية ضرورية فوق التجربة إلا أنه يطبق هذه المبادئ على الواقع العلمي بصورة لا شعورية توحي بوجود بنية صلبة عميقة في الفكر الإنساني وأن يتم تجاهلها في الحالة الشعورية. هناك انفصام أو ازدواجية تمارسه العقلانية العلمية بين ما تؤمن به و بين ما تمارسه في الواقع، كما سنثبت ذلك بعد قليل. لكن دعونا نعود إلى الجابري لنقتبس منه نصًّا مهمًّا نفسر بواسطته حالة الانفصام الذي تعاني منه العقلانية العلمية. يتحدث الجابري عن الثوابت والمتغيرات في الثقافة العربية فيقول:

 

”عندما نتحدث عن بنية فإننا نعني أساسًا وجود ثوابت ومتغيرات الثقافة العربية التي صنعته. هل يعني هذا أننا نوحد بين “العقل” و ”الثقافة”، التي ينتمي إليها، على أساس أنهما مظهران لـ “بنية” واحدة؟

 

ليكن ذلك شريطة أن نأخذ بهذا التعريف المشهور للثقافة، والذي يقول: ”الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء” وهكذا فإذا قلنا: ”العقل العربي” هو ما خلفته وتخلفه الثقافة العربية في الإنسان العربي، بعد أن ينسى ما تعلمه في هذه الثقافة لم نبعد عن الصواب. إن ما يبقى هو “الثابت” وما ينسى هو “المتغير”… إن ما يبقى هو ثوابت الثقافة العربية، هو العقل ذاته”.(8، ص38)

 

هذا النص يفسر لنا حالة الانفصام والازدواجية التي تمزق العقلانية العلمية. فعندما يغيب الوعي لدى العقلانية العلمية التي نسفت كل ثوابت الفكر البشري التي هي بنيته العميقة الصلبة والمتمثلة في أحكام العقل القبلية البديهية والفطرية كما يقررها الاتجاه العقلاني، فإن عقلها اللاوعي يؤكد مثل وجود هذه الثوابت. فعند نسيان ما يقرره هذا العقل من متغيرات، تظهر البنية العميقة الثابتة بشكل قهري، وهنا سر تناقضه مع ذاته. وعلى عكس ما كانت تحاول الفلسفة التجريبية أن تنفي مثل هذه البنية السابقة للتجربة، فلقد أوصلتنا تناقضات العقل العلمي في الممارسة على إثباتها. إن تناقضات العقل العلمي ما بين النظرية والتطبيق برهن على وجود مثل هذه المعارف القبلية للعقل. بقي أن نثبت أن هذا العقل العلمي عندما ينسى متغيراته فإنه في الواقع يمارس مثل هذه الأحكام العقلية القبلية متجاهلاً سهامه التي وجهها لها بعد تبني كبار علماء الفيزياء تفسير مدرسة كوبنهغن للنظرية الكمية.

 

هناك علاقة ضرورة بين الفيزياء والفلسفة العقلانية، ولولا هذه العلاقة لما كان هناك فيزياء. يكشف ريتشارد موريس في كتابه حافة العلم العبور إلى الميتافيزيقا عن هذه العلاقة فيذكر أن علماء الفيزياء يقومون بفروض فلسفية ولا توجد أية وسيلة للبرهنه عليها. فهم يفترضون أن قوانيين الفيزياء التي نعمل بها في فضائنا القريب يجب أن تكون هي نفسها ذات القوانيين في المجرات البعيدة. كما أنهم يفترضون أيضًا أن قوانيين الفيزياء التي يجري العمل بها اليوم هي ذاتها التي حددت سلوك الجسيمات الأولية في بداية نشأت الكون منذ ملايين السنين. هناك فرض فلسفي يقومون به علماء الفيزياء يتمثل في ثبات قوانيين الفيزياء في الأماكن البعيدة جدًّا والأزمنه السحيقة جدًّا وهو فرض لا يمكن البرهنه عليه. وهم لا يملكون جوابًا عن احتمالية أن تكون قوانيين الفيزياء قد تغيرت عبر الزمان؟ لا يمكن للنظريات العلمية أن تتحقق لو لم يفترض العلماء أن قوانين الفيزياء التي ندركها هي نفسها التي يجري العمل بها في أماكن أخرى وأزمنة أخرى. في الحقيقة ما يقوم به علماء الفيزياء هو تطبيق عملي للقوانين العلية. هذا الإيمان بأن قوانين الفيزياء صالحة للعمل في كل زمان ومكان هو تصديق قبلي بالعلية وقوانينها.

 

إذن ثمة بنية لا شعورية راسخة في الفكر البشري يستحيل الانفكاك عنها وهي تلعب دورها الأساسي في المعرفة، وهي بنية تكشف عن نفسها بجلاء عندما يتم نسيان كل شيء.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد