علمٌ وفكر

كلام اللّه

الشيخ محمد جواد مغنية

 

إن مسألة كلام اللّه سبحانه اتخذت مظهرًا عنيفًا بين المسلمين، وسالت من أجلها الدماء في عصر العباسيين، ولأهميتها سمي علم الكلام باسمها.

 

وقد اتفق الجميع على أنه تعالى متكلم، حيث يقولون: أمر اللّه بكذا، ونهى عن كذا، وأخبر بكذا، واتفقوا أيضًا - ما عدا قليلًا منهم - على أن هذه الكلمات الموجودة في التوراة والإنجيل والقرآن، والتي تتألف من الحروف هي حادثة، لأن للتلفظ بها بدءًا ونهاية، وأولًا وآخرًا، فلا تكون، والحال هذه، قديمة، وكذلك الأصوات التي ترددها الأفواه.

 

واختلفوا هل هناك أمر آخر وراء هذه الألفاظ يسمى كلامًا حقيقيًّا، أو أن الكلام الحقيقي هو هذا اللفظ، وكفى، قال الأشاعرة: إن الكلام الموجود في الكتب السماوية ليس بكلام اللّه حقيقة، بل كلامه قديم قائم بذاته تعالى، تمامًا كالعلم والقدرة والإرادة، ولكنه غير العلم والإرادة، وهذه الكلمات المسطورة التي نتلفظ بها نحن تعبر عن الكلام الحقيقي القائم بذات اللّه.

 

وشطح بعض الحنابلة، وزاد في الغلو، وقال بأن جلد المصحف والغلاف الذي يوضع فيه، والحبر الذي كتب به، كل ذلك صار قديـمًا بعد أن كان حادثًا!..

 

ومما استدل به الأشاعرة على قدم كلامه بأن اللفظ إذا لم يعبر عن صفة في النفس يكون لفظًا مجردًا أشبه بلفظ الببغاء، وبأن كلام اللّه صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، فكلامه قديم.

 

وقال المعتزلة والإمامية: إن كل من يوجد كلامًا يدل على معنى فهو متكلم، ولا دخل للمعنى القائم في النفس في وضع الألفاظ ودلالتها، وعلى هذا يكون كلام اللّه هو نفس الكلمات الموجودة في التوراة والإنجيل والقرآن وهي حادثة، ولا يلزم من القول بحدوثها أن يكون اللّه محلًّا للحوادث، لأنه سبحانه يخلق الكلام في الشجرة واللوح المحفوظ، وعلى لسان جبرائيل، كما يخلق سائر الكائنات، وبكلمة ثانية: إن التكلم من صفات اللّه الإضافية، كالخلق والرزق، لا من الصفات الذاتية القديمة، كالعلم والقدرة والحياة، وبهذا يتبين الخطأ في قول الأشاعرة «إن كلام اللّه صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم».

 

وبالتالي، ينبغي أن ننبه إلى أن الخلاف بين الأشاعرة من جهة، والمعتزلة والإمامية من جهة - يعود إلى أن الكلام بمعناه الحقيقي هل يطلق على ذات اللفظ الدال على معنى، أو على المعنى القائم في النفس، وأن صفة الكلام بالنسبة إليه تعالى هل هي صفة إضافية حادثة، كإيجاد الكائنات، كما يقول المعتزلة والإمامية، أو أنها صفة ذاتية قديمة كالعلم والقدرة، كما يقول الأشاعرة.

 

وإذا رجعنا إلى عقولنا نجد أن كلام اللّه محدث، وليس بأزلي، لأنه مركب من الحروف، وكل مركب مسبوق بأجزائه التي يتألف منها ومفتقر إليها.. والمسبوق بغيره حادث، والمفتقر إلى سواه ممكن، فكلام اللّه إذن حادث، وبهذا نطق القرآن الكريم: «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» - سورة الأنبياء.

 

ومهما يكن، فإن هذه المسألة ليست من أصول الدين ولا من فروعه، إنما هي نظرية فلسفية، ومشكلة فكرية لا تمت إلى العقيدة بسبب، حيث لم يرد عن الرسول الأعظم بأن كلام اللّه قديم أو حادث، ويكفي الاعتقاد بأن اللّه منزه عما يشين، متصف بجميع صفات الكمال والجلال.

 

ومن الخير أن نشير بهذه المناسبة إلى أن اللّه سبحانه يتصل بأنبيائه ورسله بأحد طرق ثلاثة: الوحي، وهو أن يلقي المعنى في نفس النبي بغير واسطة. أن يكلمه من وراء حجاب كأن يخلق الكلام في جسم من الجوامد، كالشجرة. وأن يرسل إليه رسولًا. وإلى هذه الطرق أشارت الآية 51 من سورة الشورى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا».

 

وقال ابن رشد: قد يكون من كلام اللّه أيضًا أقوال العلماء العارفين لأنهم ورثة الأنبياء.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد